اَلْيَسَارِيُّ الْأَخِيرُ

أمسٍ انطفأ ضوء اليساريّ بنسعيد آيت إيدّر، بعد أن ظلّ صامداً ومقاوماً في حياة ممتدة نضالاً ومواقفَ وحروباً و عقيدة في فكر اشتراكي منفتح على العقل والقلب معاً، معلنا عن نهاية مرحلة تاريخية مضاءة ومتوهجة ونابضة بروح النضال الحقيقي، والمرتبطة بسياقات ملتبسة وغامضة، واضحة وصريحة، من المدّ والجزر، وحيثيات ضاربة في التعقيد والتداخل، وبداية أفول سياسي طفقت معالمه منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث تغيّرت المواقف وانهارت المبادئ على واقع تمّ تلويثه بكائنات لا علاقة لها بالفعل السياسي والنضالي الملتزم، لتدخل الممارسة السياسية ثلاجة الموتى، وتفقد الحياة الثقافية والفكرية ارتكاسة حقيقة.
بنسعيد آيت إيدّر علمٌ من أعلامٌ السياسة بالمغرب، رجلٌ مؤمن بالآخر كيفما كان انتماؤه، بسيطٌ في مظهره ونظرته الهادئة تُخبِر برؤية عميقة وبحنكة ومراس في مجال لا يلجه إلا من عبر المسالك المعتمة وقطع مسارات المطاردة والمنافي وحمل في قلبه الوطن وفي يديه ذخيرته من أجل وطن للجميع، ينعم فيه المواطن بكامل الحقوق ومتشبث بواجباته، وطن المؤسسات لا وطن الجهل والأمية والجريمة في شتى تجلياتها، لا وطن الظلم والجَوْر الذي تنتهك فيه الأجساد وتخمد فيه جذوة العقل والفكر المشرق، فاليساري الأخير كان من هؤلاء الذين تفتّح وعيهم على النضال والمقاومة في جنوب الروح آيت شتوكة آيت باها قلاع الصمود والأنفة والعزّة، على هذه الأرض سقطت صرخة بنسعيد آيت إيدر معلنة عن زمن تاريخي وسياسي جديد، سيكون فيه فاعلا أساسيا ومحرّكاَ لعجلة المقاومة ضد المستعمر الفرنسي والإسباني، وهو سليل المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي، ومؤثّرا في الوقائع والأحداث التي عرفها المغرب منذ خمسينيات القرن العشرين وما قبلها، ليسجل اسمه ضمن المناضلين الشرفاء الذين يحملون قضايا الوطن ويحلمون بغد مشرقٍ تسوده الديمقراطية الحقيقية والمؤسساتية الكفيلة بالحفاظ على الثروات والخيرات التي ينعم بها الوطن، وقد نذر اليساري الأخير عمره من أجل هذه الأحلام الكبيرة والعريضة، واقفا في وجه الرياح العاتية جراء الحرب الضروس التي أعلنها أعداء مغرب حداثي ديمقراطي، فحيكت ضده ورفاقه مخططات كلها مكائد ودسائس حتى يخلو لهم المجال ليعيثوا في البلاد فساداً وكساداً هذا من جهة، ومن جهة ثانية أن الرجل حمل السلاح في وجه أعداء التحرير والانعتاق من ربقة المستعمِر، وكان عضواً فاعلا في جيش التحرير المغربي، حاملا راية التحدي والتشبث بحق المغاربة في وطن متسامح ومتعدّد ومنفتح على الآخر، بعيداً عن الانغلاق والاحتراز و التطرف الفكري والعقدي، وهذا ما جعل بنسعيد آيت إيدّر عرضة لمحاكمات ظالمة وجائرة في حقّه، فكان المنفى الوطن البديل، ومع ذلك ظلّ اليساري الأخير من هناك يدير شؤون المنظمة السرية 23 مارس التي كانت المنفذ الوحيد لإشاعة ثقافة سياسية أكثر جرأة في الطروحات والمشاريع السياسية والاجتماعية والثقافية، لتأتي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي 1981 لسان حال التوجه اليساري المغربي، وهي امتداد لمنظمة 23 مارس، وذلك بعد عودة آيت إيدّر من المنفى.

وقد كان الرجل ميّالاً إلى تحقيق الوحدة وما الكتلة الديمقراطية حزب اليسار الاشتراكي الموحد إلا تعبير عن نظرة اليساري الأخير للعمل السياسي الموحد وأهميته في بناء مجتمع المؤسسات والحفاظ على وحدة الوطن، والتزم بالوحدة إلى آخر مسمار دُقّ في نعش الكتلة، فالرفاق الآخرون اختاروا طريقا غير طريق بنسعيد آيت إيدّر، ومع ذلك ظلّ الرجل السياسي الرزين والهادئ والمتبصّر مادّا يده للرفاق غير لائم أو معاتبا بقدر ما أخذ المسافة بينه وبين دولة المخزن، محافظا على استقلاليته وإيمانه بالمبادئ التي كانت المنطلق، وهذا لا يعني أنه متعصب لأفكاره بل يكيّفها وفق المستجدات والتحولات التي وقعت وطنيا وعربيا وعالميا، واعيا بها محلّلا مفكّكاً رهاناتها.
محمد بنسعيد آيت إيدّر أيقونة النضال المغربي والإنساني لم تغره الكراسي ولم يغيّر من مواقفه، تميّز بالجرأة في الجهر بالحق وكشف الظلم، وهو البرلماني الذي امتلك الشجاعة للكشف عن معتقل تازممارت السيء الذكر، وقد خلّف هذا رجّة لم يعهدها المغرب، فالرجل لم يرتعب مما سيقع مادام صدح لصوت عالٍ وتحت قبة المؤسسة التشريعية، وإنما بات مؤمنا بأن شمس الحق تشرق دون استئذان، للقضاء هذا الليل الممتد في سماء الوطن. كما ترك بصمته الخاصة به في التفاني والتضحية والنضال الحقيقي، فهو لم يتخذ النضال مطية لمآرب أخرى، ولم يسجّل عليه أنه خان العهد مع رفاق الدرب، أو غيّر معطفه حسب طقس السياسة المغربية المتبدّل، بقدر ما قدّم الدروس للطفيليات السياسية التي انتشرت بشكل فظيع في زمن التراجعات والخيانات الكبرى التي قام بها بعض المتياسرين من أجل حفنة مصالح آنية وفانية.

سيبقى محمد بنسعيد آيت إيدّر المنارة المضيئة في عتمة واقع سياسي مصاب بالزهايمر التاريخي والنضالي والكافر بالمبادئ العريقة، المرجع الأساس لاستيعاب مراحل ومنعطفات ومحطات المغرب السياسي، والمطلّع على كتابه السيري هكذا تكلم محمد بنسعيد آيت إيدّر سيخلص إلى درس ناجع ومثمر وهادف، فالرجل تحدّث بأريحية قلّ وجودها في الساحة السياسية المغربية، حيث يأخذك في رحلة مشوّقة ومثيرة بأحداثها ووقائعها التي صقلت الإنسان فيه والمناضل المؤمن بأدواره الإنسانية والوجودية، مترحّلا في مفازات السياسة، متوقفا وحافراً في طبقاتهاـ متوغّلا في متاهاتها وتفاصيلها الملغزة، نافضا الغبار على حقائق، ومعبّرا عن آرائه التي تكشف على أن المغرب بلد الفرص الضائعة.
رجلٌ تعلّمنا منه كيف نرتق جراحاتنا ونواصل المسير، كيف نحبّ الوطن رغم قساوته، كيف نلوذ إلى الصمت والعزلة في الملمات العظام، ونبتسم تحدّيّاً وإصراراً في وجه الأعداء، تعلّمنا من أشرف الرّجال وأعظمهم كيف نكسّر قيود الخوف من قلوبٍ واجفة وعيون تشهق بالعمى، وكيف لا نخون ذاكرة اللبلاب ونخيل البلاد، وكيف نغلق أبواب اليتم ونفتح مساحات لمحبة تربة البلد…
رجلٌ عبَر خفيفَ الظّل، شامخ الخطو والإرادة، يقظ الحوّاس والحدس، محبّ لمغربٍ يزهر بالصرخات والآلام ومازال مستمرّاً، يضيء الآفاق بهبّة المداشر والقرى والأرياف، المدن وحصى الرمال من جنوب الوطن كلّما اهتزّت الأرض أزمة، وبيدٍ واحدة يحمل شارة النصر تاركاً خلْفه عويل الجواسيس ولعنة الآلهة.
محمد بن سعيد آيت إيدّر أيقونة النضال المغربي رحل وفي نفسه شيء من ألمٍ وأملٍ، رحل والبسمة تشعّ من قلب مشرق بمحبة الناس، والنظرة التي عهدناها في مقلتيه صامدتان في انتظار الفجر الموعود، والحلم الذي سيولد من رحم المغرب العميق والعتيق. فيا أيها اليساريّ الأخير لا تأس على مَن غيّروا معاطفهم السياسية ونفضوا أيديهم من حرارة التجربة، اعلم أنهم غرباء أرواحهم وعقولهم، فقدوا في كلامهم ماء الصدق والوفاء، وهاهم يمضون ورؤوسهم إلى

الأرض منحنية خجلاً..
«فنم أيها اليساريّ الأخير
كلّ القرى تقود الشمسَ إلى آخر الحلم
وتُربّي على الرّباباتِ هدنة الأبد
وترسُم قمراً أزرقَ على ناصيةِ المدى
وظلك هناك يسري في سماوات الأصيل
وغربة اليقظة الأخيرة تشع بطيفك الوديع
وطربوشك الموشوم بنخوة نادرة
وعيناك تشقان الجبال بنظرة شاهقة
وابتسامة يانعة في الحياة
فمَن يشعل الصباحات غيرُك؟
مَنْ يطردُ اللّيْل من عيونِ الشّرفات؟
مَنْ يلوّح بأملٍ سواك؟
وهذا النهار يكنسُ راياته ويلوذ إلى خرسه
والصمتُ يزيلُ الجلبَة من دهاليزِ معتمة
أيها اليساري الأخير
هذي بلادي تخلع عنها رمْل النّدى
تعانق حجرا يتلو حيرة الأحذية
عزلة المسالك
وتنامُ على وجعٍ مغربيٍّ نازفٍ
بمواويل الفقراء
ويقظة الأسى في شفاه البيوت…»

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية