انعطافات الفن العربي المفجعة

يحتاج فنانو وفنانات العرب، وعلى الأخص المغنون منهم والمغنيات، أن يذكّروا أنفسهم بأنهم يعيشون في وطن عربي له في حاضره خصوصيته التاريخية المليئة بالآلام والمشاكل، التي تفرضها وتجذرها في الواقع العربي المعيش، قوى خارجية متآمرة من جهة، وقوى داخلية أنانية أو انتهازية أو جاهلة من جهة أخرى.
لذا فإن توجهاتهم وتعبيراتهم وسلوكياتهم، الموجهة على الأخص إلى شباب وشابات الأمة تستطيع، إما المساهمة في تجييشهم للنضال وللمساهمة في إخراج الأمة من الوضع البائس الذي تعيشه، وإما المساهمة في حرفهم نحو التافه والسطحي والإباحي الذي يجعلهم عبئاً إضافياً على هذه الأمة المنهكة بألف قضية وقضية.
من هنا الأهمية القصوى لإدراك الفنانين العرب بأن هؤلاء الشباب والشابات لا يحتاجون فقط لمن يمجد علاقات الحب، أو يواسي من يعانون إخفاقاته وخياناته وأوهامه الشبابية، والنتيجة هي أن تنقلب حياة الشابات والشباب العرب إلى دوران دائم حول عالمهم الذاتي والخاص.

مشكلة التعبير الفني في بلاد العرب أنه، كما الحال مع كل الممارسات الحضارية، يتبع الموضات والصرعات والحملات الدعائية الإعلانية في بلدان الغرب

لكن هؤلاء الشابات والشباب يحتاجون أيضاً لمن يوقظ فيهم المشاعر الوطنية والقومية العروبية، والإيمان بالأفكار والأيديولوجيات الكبرى والنضال لتحقيقها، والالتزام بأخلاقيات وقيم العدالة والإنسانية، وبالتالي الدفع نحو الابتعاد عن قيم الفردية الأنانية والاستهلاك المادي النهم، وعبادة أبطال الرياضة والفن الهابط، والانغلاق في عوالم مركزية العواطف الحبية المرتبكة، بين المراهقين من الشباب والشابات. مشكلة التعبير الفني في بلاد العرب أنه، كما الحال مع كل الممارسات الحضارية، يتبع الموضات والصرعات والحملات الدعائية الإعلانية في بلدان الغرب. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، ومع الانتعاش في الغرب والشرق لمدرسة الفن لخدمة المجتمع والإنسان، وليس الفن للفن وشطحاته، رأينا نهضة في تعبيرات الفن الواقعي، في السينما والمسرح والغناء، ورأينا التصاقاً حميمياً بين التعبير الفني وروائع التعبير الأدبي والشعري. لكن مع انتكاسة الفكر السياسي اليساري من التوجهات الثورية الملتصقة بقوة بحاجات الطبقات الجماهيرية المسحوقة في ثمانينيات القرن الماضي، ومع الصعود المذهل لبلادات وانغلاقات الفكر السياسي اليميني النيوليبرالي الملتصق بخدمة القلة الرأسمالية، وبهدف إنعاش أسواق المضاربة والمغامرات المالية المجنونة، وفي المدة الأخيرة بخدمة بارونات التواصل الإلكتروني التجاري والاجتماعي، عادت في الغرب مدرسة الفن لخدمة الابتذال والرغبات الحسية، وعادت معها، وتقليداً مستمراً لصرعاتها، مدرسة الفن المبتذل السطحي العربية في أغلب تعبيراتها السينمائية والمسرحية والغنائية.
يستطيع الغرب الإستعماري، القوي المستقل الغني المهيمن على حضارة العالم كله، أن يتحمل كل تلك التقلبات، وقد بنى الكثير من المؤسسات القادرة على تصحيح تلك التقلبات، وتعديل مساراتها الجنونية، لكن ماذا عن المجتمع العربي الممزق سياسياً، الضعيف اقتصادياً، المبتلى إلى أبعد الحدود اجتماعياً، المنهك بكثير من بقايا إرث التاريخ السلبي، الرازح تحت هيمنة أشكال من التدخلات الاستعمارية، المواجه لخطر صهيوني وجودي في قلب وطنه العربي، في فلسطين المحتلة.. ألا يحتاج مجتمع كهذا، لفن يلهم نفوس شبابه وشاباته، ويسمو بها نحو المثل والقيم، ويحفزها لتكون في قلب ملاحم النضالات الوطنية والقومية والإنسانية؟ هل أن مدرسة الفن والأدب والشعر لخدمة الواقع وتغييره، التي انتعشت في الخمسينيات، ما عادت المجتمعات العربية الحالية، المبتلاة بكل سوءات الدنيا، تحتاج لها، خصوصاً بعد هزال السياسة وغياب القيادات التاريخية الملهمة، وحلول التافهين مكانها؟
ألا نحتاج لتلك المدارس التعبيرية التجييشية لتعوض مجتمعاتنا العربية عن إضاعتها المفجعة للسياسة التغييرية النظيفة المؤمنة بوحدة الأمة وتحررها وعدالة أنماط حياتها؟ سؤال نوجهه في الأساس لشابات وشباب الأمة، إذ أنهم مسؤولون جزئياً عن قبول تلك الانعطافة التعبيرية الفنية البائسة.
كاتب بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية