الوعي المتخلف عن مواعيده

 يحتاج العقل العربي موسميا إلى جلسات علاجية، قوامها تقنية الوخز التنبيهي، التي قد تساعده على مواكبة حركية اللحظة، وعلى تدارك ما يفوته من حقائق، فضلا عن استيضاح ما يتعذر فهمه من إشكالات. ذلك أن إيقاع هذا العقل، نادرا ما يتموضع في الاتجاه الملائم، المؤدي إلى قناعات تفلح في تحقيق الحد الأدنى من تناغمها النسبي، مع مقتضيات زمن/عالم، يبدو مصابا سلفا بعلة الهجنة، وخاضعا لهيمنة المراكز الغربية على المستويات كافة. فبالنظر إلى عجزه عن تمثل جوهر هذه المقتضيات ذات المرجعيات والغايات المتسارعة والمعقدة، فإنه يظل باستمرار عرضة للتخبط المأساوي والمزمن، كلما أقدم على شرح وتأويل دلالات وأبعاد هذه المرجعيات والغايات، وهو السياق الذي تنتظم فيه المفاهيم كافة المحيلة على أزمنة الحداثة وما بعدها، بما هي أزمنة مصنعة أساسا في محترفات الآخر، وبتوجيه من سلطاته الفكرية والتدبيرية، إلى جانب كونها مندرجة ضمن مقولات الدعوات التنويرية، المؤطرة بسرديات الحداثة وما بعدها، بمجموع ما يتفرع عنها من أطاريح ومقولات، تشمل كلا من المجال الفكري والقانوني والاقتصادي، وهي بالمناسبة دعوات ذات مسوح فلسفية وتبشيرية، لم تتوقف منذ بداية تبلورها في القرن الخامس عشر، على تفجير المزيد من تناقضاتها العصية على التأطير، حتى داخل معاقلها الرسمية، فما بالك بفضاءات النخب العربية، التي تحاول عبثا أن تتكيف مع ما يتردد عن هذه المعاقل من أصداء واستهامات، دون أن تتمكن من الإحاطة الموضوعية بمداخلها وثوابتها.
والحال، أن الأطاريح التنويرية، ومن خلال تشديدها على حتمية التسليم بمبدأ الاختلاف والتعدد، تركت الباب مواربا لتسلل الكوارث الطارئة والمحتملة، ذلك أن هذا المبدأ الحاضر بقوة في خطابات الحداثة وما بعدها، قادر على شحن القيم التنويرية المدرجة فيه بزئبقية منقطعة النظير، كي تصبح قابلة للانقلاب على أعقابها دون سابق إنذار. من ذلك مثلا، أن تتحول البنود الواردة في مدونة حقوق الإنسان، إلى أداة للقتل، والإبادة، والتطهير العرقي، نتيجة أي تحريف بسيط وجزئي، قد يطال خلسة بنيات مقصديتها، بتأثير من تحكم سلطة السياق، التي لا تعلو على قداستها أي سلطة قانونية أو أخلاقية. وهي الحالة التي تستدعي من العقل العربي، التحلي بوعي يقظ، واستباقي، يحدس باحتمال حدوث ذلك الانقلاب العدواني في منظومة القيم، التي يتبجح بها الغرب، بوصفه المعقل المركزي للأطياف الحداثية، بمختلف تفريعاتها ومراميها.
وبالتالي، فإن تبني الرؤية الحداثية للعالم، لن تطمئن إلى استيفاء شروطها، إلا ضمن وعي يقظ، لا تعوزه إمكانية ضبط البياضات المنذرة بانقلاب القيم الكونية على ثوابتها. وهو أمر سيظل في حكم الاستحالة، ما دام العقل العربي، يعاني من محنة انبهاره بذلك البرق الخلب، الذي دأب على استعراض ألاعيبه الماكرة في سماوات الحداثة. انبهار، يكتشف معه العقل ذاته، وبعد فوات الأوان، أنه كان ضحية تنويم تام يحول بينه وبين فك شيفرات الترميزات المتطايرة من سنابك الحداثة وحوافرها.

وذلك هو الأصل في تكريس مقولة «عودة الوعي» لدى الخطاب العربي، بوصفها اللازمة دائمة الحضور، والمحيلة عمليا على انتصاب عامل الكبوة ومشتقاتها في مساراته ومنعطفاته. علما بأن الكبوة هنا، هي التشخيص الضمني لوقوع العقل العربي في فخاخ الخطأ، الذي يجد تأويله في آفة الارتهان لثنائية مانوية، قوامها المراوحة الدرامية بين الرفض المطلق للآخر، والانبهار الأعمى بمنجزه. والملاحظ أن هذا الوعي المعطوب، لا يمارس عودته المتسائلة عن أفق آخر للرؤية والفهم واستخلاص ما أمكن من العبر، إلا حينما تتعرى الحقيقة ببؤسها التام أمام ذهوله، ليكتشف ودون سابق إنذار، أنه بصدد معاينة ومعايشة الوحشية اللامتوقعة، التي لم تتردد معاقل الأنوار في الجهر بحقيقتها، وطبعا تحت ضغط سياق مستجد، يلزمها بقلب ظهر المجن، والتلويح بجحيم قيامات غير مسبوقة، لا قبل للنظر الكليل برؤية نيرانها.
هكذا سيكون هذا الوعي المغلوب على أمره، بحاجة ماسة لأن تكاشفه الحداثة المفترى عليها بحقيقة عورتها القاتلة، عله يحظى بما تيسر من إمكانية العودة، وعله ينتبه أخيرا، إلى أن الفراديس التي ما فتئت تطوقه بفتنتها وخلب بروقها، ليست في واقع الأمر، سوى الطاعون ذاته الذي لا يبقي ولا يذر. وفي الواقع إن لازمة «عودة الوعي» المتكررة دائما، وبعد فوات الأوان، ليست سوى التعبير الصريح عن عجز عقل النخب العربية، عن ممارسة فعل التفكيك المعرفي على خطابات الآخر، المنتشي إلى أقصى حدود العربدة بمركزيته.
وما نعنيه بفعل التفكيك هنا، هو القدرة على رصد التناقضات الداخلية، التي يرشح بها جسد الحداثة في مركزياتها، باعتبار أن هذه التناقضات، ليست في حقيقة أمرها، سوى الحجاب الواقي لأكذوبة الكوني، كما سبق أن أشرنا إليها في أكثر من مقام، والمنذرة في الوقت نفسه بالتجلي الآجل، أو العاجل لتشوهات المسخ.
وبتعبير أكثر دقة، فإن ما يبدو لـ»الوعي الغائب» مجرد تناقضات داخلية، تعيش الحداثة الغربية على إيقاعات اختلافاتها وتنوعاتها، ليست في المحصلة، سوى الترجمة الفعلية لبحثها الدؤوب عن صيغة تمويهية، لتصريف غرائزها الميالة للقتل والسحل والإبادة. وحرصا منها على ضمان ما أمكن من وهم وأكاذيب تماسكها، فإنها لن تتردد في البحث عن قرابين محتملة، داخل الهوامش النائية أو القريبة، بذريعة حماية الذات ممن تعتبرهم مصدرا للتشويش على صفاء أنوارها وقيمها الحضارية. وكما هو معلوم فإن العبرة لا تكمن في ذاتية القيم التنويرية، بقدر ما تكمن في هوية الضمائر البشرية المتبنية لها. والحديث عن الضمائر البشرية، يضعنا عمليا في قلب الدينامية الزئبقية التي تعصف بالعمق المثالي للقيم، مقابل هيمنة بعد غريزي أكثر تجذرا في الذات البشرية، هو المعبر عنه بـ»هاجس البقاء». فضمن هذا المنحى، تغدو القيم عرضة للتشويه والتحريف، ما دامت الغاية القصوى منها، هي تأمين وجود الذات داخل العالم، بصرف النظر عن الأدوات الموظفة في ذلك.
هنا تحديدا تصبح الهواجس الفردية، بمثابة الناطق الرسمي بهواجس الجماعة والعكس بالعكس. وفي الحالتين معا، تفقد التعريفات المكرسة لتأطير القيم نقاءها الفلسفي، وصرامتها التشريعية، كي تتحول في نهاية المطاف، إلى محض قوالب فارغة، ومعدة تحديدا للتوظيف الثقافوي، الباحث عن سياقه المفقود. وتلك هي إحدى المفارقات القاسية، التي تهوي بمطرقتها على عقل، لا يستعيد وعيه بما يحدث إلا بعد فوات الأوان، ولا يمتلك ما يكفي من الكفاية المعرفية للتخفيف من حدة انجرافه، مع رياح الانبهار اللامشروط بسحرية حداثة، خبيرة بتقنية طمس ما تضمره تناقضاتها من نوايا، قد تأتي في أي لحظة على الأخضر والأصفر.

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية