النهضة التونسية والحوار… الحلقة المفقودة

تقول حركة النهضة في اخر بياناتها انها تقبل ما اصبح معروفا بمبادرة الرباعي، اي اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين ورابطة حقوق الانسان، بالاضافة الى خريطة الطريق التي وضعت كمخرج للازمة السياسية التي تعرفها تونس، وانها مستعدة وفقا لذلك للجلوس، على الفور، الى طاولة الحوار ومن دون اي شروط مسبقة. اما قادة الرباعي ومن خلفهم خصوم الحركة فيردون بانها بصدد المناورة وكسب الوقت، وهي على عكس ما تعلن لا تقبل المبادرة والخريطة، وليس في نيتها الذهاب الى الحوار الموعود.
ما يبدو مجرد سوء فهم لغوي قد لا يحتاج رفعه سوى نقل الصيغة التي جاءت في بيان جبهة الانقاذ المعارضة، التي يفهم من خلالها قبولها للخطة مثلما هي بالحرف، واعتبار ان حركة النهضة تقبل بها ايضا بنفس العبارات، كما اقترح ذلك نائب رئيس الحركة العجمي الوريمي في ندوة صحافية يخفي وراءها حالة اوسع من الجفاء والتوتر، هي الحصاد المر والمؤلم لعقود طويلة من الريبة والشكوك المتبادلة بين الطبقة السياسية بكل تفرعاتها من جانب، والاسلاميين من الجانب المقابل. ولا يختلف اثنان في ان التخلص منها ليس بالامر الهين وانه سوف يأخذ مزيدا من الوقت والجهد ومن كلا الطرفين على حد سواء.
ما يجعل المهمة شاقة وعسيرة للغاية هو ذلك الجدار السميك الذي بنته الدولة في تونس منذ السنوات الاولى للاستقلال، بين الهوية والحداثة، او ما كان يصفه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بالجهاد الاكبر من اجل اللحاق بركب الامم المتقدمة، الذي لم يكن فيه مجال او متسع للغة الناس او دينهم، بقدر ما كانت تلك العناصر المهمة تعتبرعوائق جدية امام نجاح ذلك المشروع. صدمة الهروب المفاجئ لابن علي ايقظت التونسيين على واقع مخالف لما روجته وسائل اعلامهم باستمرارعن المعدلات الفلكية للتنمية واقتراب البلاد من مصاف النمور الاسيوية، او حتى اعتبارها تعيش مثلما صرح بذلك الرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك، ذات مرة، معجزة اقتصادية. واكتشفت تونس نفسها من جديد فبانت لها العيوب المخفية ولم يعد هناك شك في انها خُدعت بوهم حداثة مشوهة، لكن ايضا هوية مسلوبة.
بقي الجدار على حاله، في وقت ظنت فيه النخب الفرنكفونية ان الاسلاميين سيهبون لهدمه، واثبتت تجربتهم القصيرة في الحكم ان محاولاتهم تقديم نموذج تلتقي فيه الحداثة بالاسلام يقابل على الارض بسيل من التحديات تنحصر في مستويين اثنين على الاقل، الاول طبيعة الظرف، اذ ان حركة النهضة وضعت تحت محك الاختبار الفوري بمجرد انهيار نظام الرئيس المخلوع، مما افقدها الوقت اللازم لاعادة ترتيب البيت وفق المعطيات السياسية الجديدة، ودفعها للانشغال في المقابل بالتمترس على دواليب السلطة واستكشاف مناطق ظلت محرمة عليها في السابق، مع التخلي بصفة ملحوظة عن عملها الدعوي والاجتماعي لصالح جمعيات ومنظمات اهلية مقربة منها، وهو ما جعلها تقف على خط مرمى نيران متعددة المصدر، فهي من جهة تتهم من طرف المعارضة العلمانية بسعيها لاسلمة الدولة لمجرد وصول بعض المنتسبين اليها الى مناصب عليا ذات طابع سياسي في الغالب، كالمحافظين على سبيل المثال. ومن الجانب الاخر تطالها سهام السلفيين والمتشددين دينيا لعدم اقدامها على ادخال اصلاحات جذرية تعزز مكانة الدين وتقديمها لتنازلات غير مقبولة مثل مسألة النص على الشريعة في الدستور المقبل.
اما المستوى الثاني لتلك التحديات فهي الدائرة المحيطة سواء في الداخل او الخارج، اذ ان القبول بحزب يعتمد الاسلام مرجعية ويمارس العمل السياسي مثل باقي الاحزاب، ظل الى الان يثير حفيظة وشكوك الكثيرين، رغم ما يصحب ذلك في الغالب من ترحيب وقبول رسمي، بل حتى مزايدة على الاسلام ظهرت في اكثر من موقف ولدى اكثر من تيار. ما يراهن عليه هؤلاء هو تفكك الحركة بمرور الوقت وابتعادها كلما نضجت تجربتها السياسية في الحكم عن تلك المرجعية، وتحولها من ثم الى مجرد حزب يبحث عن السلطة بكل ثمن ومن دون بوصلة او فكر.
ان ما تدعو اليه حركة النهضة اليوم تحت مسمى الحوار الوطني، هو محاولة مكشوفة لتحقيق ما وصفه البعض بخروج آمن من السلطة وقدرة الحركة على الصمود والبقاء، رغم ما تتعرض له من ضغوط رهيبة لا تكمن فقط في الحفاظ على مواقعها في الحكم، بل ايضا في اقناع التونسيين بانه آن الاوان لاسقاط الجدار الذي جعلهم لا يستشعرون الحاجة الملحة لالتقاء الحداثة بالاسلام، ويواصلون ذلك الانقسام المقيت الى معسكرين. متى وفقت في ذلك فان العالم كله سوف ينسى لبعض الوقت التجربة التركية الناجحة ليلتفت قليلا الى تجربة اخرى ذات فرادة وجاذبية، اما اذا ما فشلت في ذلك، لا قدر الله، فان ذلك يعنى العودة الى نقطة الصفر والبدء من جديد مع اجيال قادمة وربما باساليب مختلفة.

‘ كاتب وصحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية