‘المهرج الضاحك الباكي’ معرض جديد لعمر النجدي: ثلاثون عملا ناطقا بتجربة احد رواد التشكيل الحديث

حجم الخط
0

القاهرة ـ ‘القدس العربي’: استقبلت قاعة بيكاسو بضاحية الزمالك معرضا جديدا للتشكيلي الرائد ‘ عمر النجدي ‘ ، وقد دشن الفنان معرضه تحت عنوان ‘ المهرج الضاحك الباكي ‘ وقال إنه استراح لتلك التسمية لأنه تعكس فلسفة عصر بكامله . يضم المعرض الجديد للنجدي أكثر من ثلاين عملا ، تتضمن تجربته الجديدة التي عكف عليها خلال السنوات الثلاث الماضية .
وتعد تجربة النجدي واحدة من التجارب المهمة في التشكيل الحديث ، فهي بامتياز ، تقدم صورة صادقة للتشكيل المصري في الكثير من انتقالاته عبر الأعوام الخمسين الماضية، التي كان النجدي واحداً من الفاعلين والمؤثرين فيها.
وقد ولد عمر النجدي في عام 1931 بالقاهرة، وقد عمل منذ عام 88 حتى عام 1991 أستاذا ورئيسا لقسم التصميم الداخلي والأثاث بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان.
وكان النجدي قد تخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1953، وحصل منذ معارضه الأولى على العديد من الجوائز في فن التصوير، وزار العديد من العواصم العالمية طالبا للعلم وأستاذا ومعلما منذ عام 1959 عندما حصل على منحة علمية إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة فن الخزف الصيني، كذلك حصل على شهادة أكاديمية الفنون الجميلة بفينيسيا، وشارك في عشرات المعارض المصرية والعربية والعالمية، بالإضافة إلى المعارض الجماعية، وقد حصل عمر النجدي على عشرات الأوسمة والجوائز، بالإضافة إلى ذلك فقد أخرج النجدي العديد من الأفلام القصيرة للتلفزيون المصري ولحن عددا من الأغاني المسجلة إذاعيا، كما أقامت فرنسا متحفا خاصا للوحات عمر النجدي تم افتتاحه عام 2002، بالإضافة إلى العديد من المقتنيات المتحفية في العديد من العواصم العالمية.
قال عنه الناقد والتشكيلي الراحل أحمد فؤاد سليم أن عمر النجدي واحدا من بين تلك المفاتيح الأبجدية التي اشتغلت بها الحركة الفنية المصرية الحديثة منذ منتصف الأربعينيات، حيث كانت وضعية السمار في الريف المصري، ومرتلي القرآن الكريم على الأرائك البلدية، والأم المضطجعة في مدخل بيتها تراقب حركة الطيور الأليفة، وجلسة القرفصاء المصرية حول شيخ القرية، والمعالجات الغليظة التي تتجلى من فوق الحوائط الرطبة القديمة، وزخارف الصناديق والمقاعد وغيرها وهي جميعها من بين تلك العناصر التي صنعت ضفيرة هذا النوع من الفن الجديد في رحلته عبر حقب من السنين قبل الستينيات وبعدها، ويرى سليم أن بصمة عمر النجدي كانت دائما متألقة في وسط هذا المناخ، لأنها كانت ممتلئة بالإرادة، وبالعذوبة التي تلتقي بها عادة في رحاب طفلة مصرية يوم الحصاد. ويرى سليم أن النجدي استحوذ على تلك الأبجديات التي جعلته متميزا بين أقرانه، وأقرب الى عجينة الأرض وترابها.
وأضاف أحمد فؤاد سليم أن النجدي من طراز الفنان متعدد المواهب، فهو ينجز عمله الفني بكافة الوسائط المادية التي تناسب مشهدا بعينه، وربما يكون هو الفنان الثاني ـ حسب سليم ـ الذي استخدم خامة الرمل وثبتها بوسيط غرائي على سطح القماش عام 1960، بعد أن سبقه إلى ذلك سامي رافع في لوحته ‘المضطجعة’ عام 1958، وهي من مجموعة متحف الفن المصري الحديث، ويقول سليم: إن عمر النجدي ينحت في الحديد والخشب والحجر والصلصال والمعدن، وهو يحفر أيضا وينجز طبعاته على الزنك والشاشة الحريرية، وعلى الحجر ‘الليثوغراف’ ومن أوائل من خلطوا بين التصوير والتتابع التقني الغرافيكي على الصور الفنية التي ينتجها، وفضلا عن ذلك ـ يقول سليم ـ فإن النجدي يشتغل بالتصميم والخزف ويطبخ الزجاج مثلما يقتحم عالم الفسيفساء الجبلي الطبيعي منذ أعلن مدرسته التي اشتهرت باسم ‘فسيفساء الجبلِ’ في منتصف الأربعينيات.
أما أغرب ما يقوله أحمد فؤاد سليم أن عمر النجدي، ناضل في الستينيات ـ ضمن مجموعة مهمومة بالرسالة ـ ضد التسلط الإداري والانغلاق الفكري، وضد هيمنة اللجان التي كانت ترى الماضي معيارا للجمال وللهوية في الفن، بينما كانت هذه اللجان نفسها مغيبة الفكر حتى أنها كانت ترى الهوية المصرية في كل ما هو واضح ومقروء في الصورة الفنية مهما كان الأسلوب إيطاليا أو فرنسيا أو واقعيا أو انطباعيا أو تعبيريا، ويضيف سليم: أن المصرية يومئذ كانت نصيب من يتاجرون في رسم وجوه الفقراء والبسطاء والباعة المتجولين، وكان المشترون هم بدورهم من ذات أصنافهم لا يرغبون في تحريك صورة الماضي من رصيدهم الثقافي، ذلك أن الماضي كان هو ذاته حاضرهم ومن ثم هويتهم.
ويؤكد سليم أن الروح المصرية طافحة في أعمال الفنان، والروح الكاريكاتورية المرحة تغلف الكثير من أعماله، وكثيرا ما يتمسك بملامح للحالة الشعبية وايقوناتها عبر خطوطه العشوائية والفطرية، رغم أن النجدي تنقل في أعماله عبر عدة مراحل بين العمل البسيط المباشر وبين العمل المركب، وهو كما يصنفه الناقد كلود أندراوس مر بكافة المدارس التشكيلية وبذلك فإن قصر تجربته على اتجاه بعينه، نوع من محاولة لحصار تجريبه الرفيع متعدد المستويات.
وما من شك في أن الظاهرة التي يتناولها الناقد الراحل أحمد فؤاد سليم كانت جاثمة على صدر الحركة التشكيلية، لكن إثارتها باعتبارها مردودا للمشروع السياسي الاشتراكي آنذاك ليس تفسيرا دقيقا، لأن الواقع يقول أن التشكيل المصري ظل لفترة طويلة يعاني من الانسحاق والتقليد للمدارس الغربية، وكان يناضل ذلك الوجود الهامشي والتابع بمحاولات عدة تمثلت في العودة لمفردات البيئة المحلية حتى ولو كان ذلك يتم بأسلوب غربي إلا أنه أثمر عن ملامح تنطوي على درجة مقبولة من الخصوصية، وهو ما تمخض الآن عن حركة تشكيلية مصرية قدمت عددا كبيرا من الأسماء المرموقة والمؤثرة، ونذكر في هذا السياق تواري الكثير من الأعمال التجريبية التي وقعت في التقليد والاستنساخ دون تقديم قراءات عميقة متصلة بواقعها، وإن سلمنا بأن لغة الفن ليست بهذا الضيق فهي لغة إنسانية تتوجه للبشرية على عمومها، غير أن السعي لأنسنة الفنون لم يكن أبدا معوقا لارتباطه ببيئته وثقافته المحلية التي تُعد ترجيعا صادقا لخصوصية الجماعة البشرية التي ينطلق هذا الفن أو ذاك من وجداناتها ومن غنائها اليومي الذي يشكل طبقات متراكبة من الخصوصية.
وعمر النجدي واحد من هؤلاء الفنانين الذين أدركوا هذه الخصوصية، ولكن بعيدا عن التجلي السياسي الذي يتحول بالفن الى شعار يعمل في خدمة حكومات وحكام أيا كانت تلك الحكومات وأيا كان هؤلاء الحكام.
وليس غريبا أن تتوسع وتتعمق تجربة النجدي لتصبح تجربة ماضية في إطار العالمية، فتتبنى أعماله العديد من المتاحف بل تقيم له فرنسا متحفا خاصا، يقول عنه الناقد الإيطالي كلود أندراوس: عمر وفي للتاريخ، لتاريخ حضارته، وفي للزمن، وشاهد عليه، الدليل على وجود الزمن تلك البصمات الآتية من الفن الفرعوني، والفن القبــــطي والإسلامي والصوفي والمذهب الخيمي، ويضيف أندراوس: إن عمر النجدي جريء، توحشي، تقسيمي، تجريدي، تعبيري، وتكعيبي، كل هذا ممزوج في مواضيعه الشرفية بقدر من البساطة والنقاء والأبهة في آن معا، وعن الإنسان الذي يرسمه النجدي يقول أندراوس: إنه يجعلنا نعبر إلى الاتجاه المعاكس الذي اتخذه هو ليصل إلى الإنسان الأمل لأنه حامل الحياة وحامل الجمال، وحامل الطيبة.
أما مؤسسة وراعية متحف عمر النجدي بفرنسا السيدة فرانسي هنري فتقول: ليس من قبيل المصادفة اعتبار عمر النجدي واحدا من أعظم الفنانين المصريين المعاصرين في مصر والشرق الأوسط، فنجد أن أستاذه العظيم ‘جورجيو دي كريكو’ قد تابع عمر وهو يخطو أولى خطواته، فافتتح معرضه الأول في فينيسيا في عقد الخمسينيات مكتشفا بذلك القوة الخلاقة لهذا الفنان العملاق في فترة مبكرة جدا، وفي أوائل الستينيات نجد أن نقاد الفن البريطانيين والإيطاليين قد وجدوا في عمر القوة الدافعة في عصر نهضة الفن الشرق أوسطي، كما وجدوا فيه أيضا المستكشف الذي يقدم تفسيرا معاصرا لقيم قديمة ورموز هذا الجزء من العالم.
وتقول فرانسي: أول مرة اكتشفت فيها عمر النجدي كان ذلك أثناء معرض أقامه في قاعة إخناتون بالقاهرة عام 1988، وكانت الصدمة العاطفية أول ما انتابني من أحاسيسي، وهي الأحاسيس التي كانت تعاودني في كل مرة اكتشف فيها بعضا من أعماله الجديدة، وهذه العاطفة القوية لم أستطع أن أقاومها، فتملكتني رغبة قوية لامتلاك واحدة من لوحاته لأجد نفسي حائرة بين أعماله الأكثر معاصرة فأعمال عمر الفنية تجلب الجمال والبهجة لحياتنا اليومية.
وعن متحف النجدي تقول فرانسي: في عام 2001 افتتحت معرضا للوحات الزيتية في باريس لكي تعرض أعمالاً مختلفة، وبعد عامين اكتشفت ان المكان صغير جدا، حيث لا يتسع لأعمال عمر الكثيرة ولهذا السبب تم نقل معرض منتدى الفن إلى مكان أوسع وأكثر مناسبة حيث نقل إلى قصر ‘شانسي’ وفي هذا المكان بنفس التوقيت، كان يقام متحف عمر النجدي الأول الذي يضم صالتين واسعتين ذات مستويين يمثل أحدهما أعمال عمر القديمة من أوائل الستينيات مرورا باللوحات الأكثر معاصرة، وعند دخول صالة العرض الأولى ينتاب الزائر تلك الصدمة العاطفية التي تجعله يقف أمام اللوحات متأملا لوحة ‘سراييفو’ التذكارية التي رسمت عام 1994 والتي تضاهي روعة لوحة ‘الغيرنيكا’ حيث كان عرضها 13 مترا وارتفاعها 2.5 متر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية