الملاحقات القضائية للصحافيين في تونس تهدد حرية التعبير

حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: تعيش تونس في هذه الفترة على وقع مضايقات وتتبعات تطال عددا من الصحافيين ألقت بالبعض منهم في السجون فيما ما زال البعض الآخر في مرحلة الأبحاث الأولية والتحقيقات القضائية. وبالتالي فهم بين سجين وموقوف محتفظ به، ومن هو بحالة إطلاق سراح قد يلتحق بزملائه بمعتقلات الاحتفاظ أو بسجون الإيقاف وقضاء العقوبات، وقد يحكم عليه بعدم سماع الدعوى بعد إرهاقه بالإجراءات والقلق النفسي.

تقهقر في الترتيب

ومن بين الصحافيين المعتقلين شذى بالحاج مبارك التي تم إيقافها في شهر تشرين الأول/اكتوبر من سنة 2021 في ما يعرف بقضية «إنستالينغو» التي يحاكَم فيها مجموعة من السياسيين منهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي بتهمة التآمر على أمن الدولة. ومن بين الموقوفين أيضا غسان بن خليفة الذي صدر في حقه حكم إبتدائي بالسجن مدة 6 أشهر بتهمة الإساءة للغير عبر شبكة الاتصالات العمومية، بعد أن نُسبت له تدوينة نشرتها إحدى الصفحات على مواقع التواصل، وما زالت هناك أيضا تتبعات بحقه في قضية أخرى.
ومن بين الموقوفين أيضا الصحافي محمد بوغلاب المشتبه في ضلوعه في جريمة «الإساءة إلى الغير» عبر شبكات التواصل الاجتماعي وذلك بسبب شكاية تقدمت بها موظفة في وزارة الشؤون الدينية. واتهمت صاحبة الشكوى بوغلاب بـ«الإساءة إليها والمس من سمعتها من الناحية الأخلاقية» وذلك في منشوراته على مواقع التواصل وكذلك في مداخلاته الإعلامية.
وأودع بالسجن الصحافي خليفة القاسمي في الرابع من شهر أيلول/سبتمبر 2023 وذلك بعد اعتقاله من قبل فرقة أمنية، ثم تم إطلاق سراحه بقرار من محكمة التغقيب في السادس من شهر آذار/مارس 2024 في انتظار تحديد جلسة استئناف جديدة للنظر في القضية بتركيبة أخرى من القضاة حسب ما يقتضيه القانون. ويتهم الصحافي خليفة القاسمي بإفشاء وتوفير ونشر معلومات لفائدة تنظيم أو أشخاص لهم علاقة بجرائم إرهابية، وذلك بعد نشره لخبر تحصل عليه من مصدر أمني يتعلق بنشاط إرهابي.
وسيمثل المحلل هيثم المكي يوم 16 أيار/مايو المقبل أمام المحكمة الإبتدائية بصفاقس وذلك بموجب المرسوم عدد 54 الذي أثار سخط الكثيرين، وذلك إثر قضية رفعها ضده مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس في شخص ممثله القانوني. وتتمثل التهمة في نشر خبر على مواقع التواصل الاجتماعي حول تجاوز أعداد جثث المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء الذين غرقوا في البحر وتم انتشال جثثهم، لطاقة استيعاب مشرحة المستشفى المذكور.
وللإشارة فإن تونس احتلت السنة الماضية المرتبة 121 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي نشرته منظمة مراسلون بلا حدود وذلك من بين 180 دولة شملها التصنيف متراجعة بـ 27 مركزا مقارنة بالسنة التي قبلها. ورغم أن الخضراء بقيت تحتل المركز الأول مغاربيا في مجال حرية التعبير والصحافة إلا أن هذا التراجع اعتبره البعض كارثة بكل المقاييس لبلد كثيرا ما قارن نفسه بالكبار في مجال حرية التعبير والصحافة وفي ترسيخ الثقافة الديمقراطية وممارستها واقعا.

قوانين ظالمة

يرى أغلب معارضو المنظومة الحاكمة أن هناك استهدافا للصحافيين في تونس من خلال هذه الإحالات المتكررة على القضاء بقوانين تتعارض مع منظومة حقوق الإنسان، ومن خلال التجاهل المتعمد للقوانين المنظمة للمهنة خاصة المرسوم عدد 115 الذي لا ينص على عقوبات سجنية في جرائم الصحافة. وبالتالي فهناك إرادة سياسية، حسب هؤلاء، هدفها تخويف الصحافيين من خلال تسليط سيف القضاء عليهم والمسارعة إلى إصدار بطاقات إيداع بالسجن بحقهم لأتفه الأسباب، وهي بطاقات من المفروض أن إصدارها هو إستثناء ولا يمكن الالتجاء إليها إلا في حالة الضرورة القصوى.
ويرى هؤلاء أيضا أن المنظومة الجديدة الحاكمة في تونس لا تعترف بحرية التعبير وبالتالي فهي في أحيان كثيرة تلفق تهما للصحافيين لإخماد أصواتهم حتى لا ينتقدوا الإخفاقات المسجلة في عملية تسيير البلاد والخيارات التي تثبت فشلها يوما بعد يوم. ولا مناص، حسب هؤلاء، من الكف عن ملاحقة الصحافيين وإطلاق سراح المعتقلين منهم وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صورة تونس الناصعة في مجال حرية التعبير وإلا فإننا سنشهد كارثة بكل المقاييس تؤدي إلى عودة الديكتاتورية.
وترى أصوات معارضة عديدة أن الفريق الحاكم لا يهتم لتراجع تونس بـ27 مرتبة في مجال حرية الصحافة نتيجة لهذه الملاحقات القضائية التي تطال الصحافيين والتي أساءت كثيرا لصورة تونس في الخارج لدرجة تفوق الوصف. وبالتالي فهو لا يقدر عواقب هذا التراجع الذي يمثل انتكاسة حقيقية ستعود بالوبال على الجميع باعتبار أن الانتهاكات الحاصلة تطال قطاعا حيويا مؤثرا في أي بناء ديمقراطي ولديه أيضا تأثير على الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء.

تطبيق القانون

بالمقابل يرى أنصار الموالاة أن الصحافيين هم مواطنون تونسيون قبل كل شيء وإذا أجرموا فلا بد أن ينطبق عليهم القانون مثلما ينطبق على سائر التونسيين ولا مجال لجعل صفة الصحافي عنصرا للإفلات من العقاب مثلما يرغب بذلك البعض من الصحافيين والحقوقيين. ويؤكد هؤلاء على أن الصحافيين الذين تم تتبعهم قد ارتكبوا ما يوجب هذه التتبعات وتم تطبيق القانون عليهم لا غير خاصة وأن عددا منهم اعتاد الاستهتار بالقوانين بتعلة الحق في التعبير.
كما يرى الكثير من أنصار الرئيس قيس سعيد أن هناك جزءا من الإعلام خدم الأجندات الحزبية خلال العشرية الماضية وتورط في تخريب البلاد وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم وبالتالي وجب برأيهم الضرب بقوة على من ساهموا في تضليل الرأي العام. ويستشهد هؤلاء بصحافيين لمعوا صورة هذا السياسي أو ذاك وتحدثوا عن إنجازات تبين لاحقا أنه لا وجود لها إلا في خيالهم الخصب الذي خدم الأجندات ولم يراع مصلحة البلد وقذف وشتم وهتك أعراض الخصوم كما شاء من دون رقيب أو حسيب.
ويؤكد هؤلاء على أن من يشتكي بالصحافيين في كثير من الحالات أشخاص تعرضوا للشتم من هذا الصحافي أو ذاك، وفي قضايا أخرى هناك إفشاء لأسرار ما كان يجب نشرها، أو نشر لمعلومات مغلوطة كان يجب التحري قبل نشرها. ويصر أصحاب هذه الرأي على أن زمن الإنفلات قد ولى وانقضى وعلى الصحافي أن يكون مسؤولا يدقق في ما ينشر أو يذاع أو يتم الإعلان عنه وأن يبتعد عن الأجندات الحزبية والدوران في فلك الساسة والمسؤولين مثلما حصل في السابق.

نقمة على الإعلام

وفي هذا الإطار ترى الناشطة المدنية والحقوقية آمنة الشابي في حديثها لـ«القدس العربي» أن هناك نقمة على ما يبدو لدى الكثير من أنصار الموالاة على قطاع الإعلام الذي يحمله بعضهم المسؤولية على الإنخراط في منظومة سنة 2011. والمشكلة، حسب الشابي، أنهم يضعون الجميع في سلة واحدة دون تمييز بين من انخرطوا في الأجندات وبين من يدافعون حقا عن الحقوق الحريات وهم الذين عانوا مع كل الأنظمة التي حكمت تونس منذ الاستقلال إلى هذا اليوم.
وتضيف محدثتنا قائلة: «صحيح أن هناك بعض التجاوزات التي قام بها بعض الصحافيين وأن في إحدى القضايا هناك مواطنة هي من تقدمت بالشكوى ضد الصحافي، لكن الجهات القضائية المسؤولة تسارع إلى إصدار بطاقة إيداع بالسجن إذا كان المشتكى به صحافيا أو محاميا أو ناشطا حقوقيا. هناك شعور عام في صفوف الصحافيين وغيرهم من القوى الحية في المجتمع أن هناك استسهالا لعملية إيداع الصحافيين بالسجن وكأن الأمر أصبح لعبة للتسلية من قبل الجهاز القضائي والسلطة الحاكمة.
هل أن الصحافي خطير إلى هذا الحد وتتطلب عملية تتبعه قضائيا إيداعه بالسجن من دون إمكانية أن يبقى على ذمة القضية ويحضر جلساته أو متى طلب منه الحضور مع حجر السفر عليه؟ ألم يتحول إصدار بطاقات الإيداع بالسجن إلى مبدأ في حين أنه استثناء وأن الأصل هو بقاء الإنسان حرا طليقا فما بالك لو تعلق الأمر بصحافي يتم تتبعه من أجل أشياء قام بنشرها لا غير؟».

وضع حد للترويع

من جانبها ترى الصحافية التونسية منية الشتاوي في حديثها لـ«القدس العربي» أن ما يحصل للصحافيين من ترويع يجب أن يوضع له حد، لأنه لا يعقل أن يعاني الصحافي التونسي اليوم من التهديد بإغلاق مؤسسته ومن ضعف راتبه ومن ظروف عمل غير لائقة ثم يتم وضع سيف القضاء على رقبته ويودع بالسجن ويحاكم على أساس قوانين لا علاقة لها بمهنته. فمن المفروض، حسب الشتاوي، أن يتم تتبع الصحافي على أساس المرسوم عدد 115 لسنة 2011 وليس على أساس المجلة الجزائية أو مجلة الاتصالات أو المرسوم عدد 54 لمكافحة جرائم المعلومات.
وتضيف محدثتنا قائلة: «إن المرسوم عدد 54 المشار إليه يبدو أنه وضع خصيصا للصحافيين فلم نسمع مثلا عن قضية هامة تم فيها تتبع مواطن لأنه هتك الأعراض أو شتم خلق الله في وسائل التواصل الاجتماعي رغم أننا نشهد يوميا أعدادا لا تحصى من هذه الجرائم. هناك أشخاص من دول مجاورة يشتمون التونسيين في وسائل الإعلام في بلدانهم أو في مواقع التواصل ثم يدخلون التراب التونسي والنيابة العمومية لا تحرك ساكنا بشأنهم فيما تسارع لتتبع الصحافيين من أجل كلمة تفوه بها أحدهم عن غير قصد وفي لحظة غضب.
هنا يجوز التساؤل هل سن هذا المرسوم فعلا لحماية المجتمع وملاحقة الشتامين والقذافين وهاتكي الأعراض، أم أنه سن لملاحقة الصحافيين والتضييق على عملهم وإدخالهم إلى بيت الطاعة حتى يصمتوا على إخفاقات الحكومة في عديد الملفات على غرار الانتقال نحو الطاقات البديلة وانهدام التنمية وغيرها؟ من الأفضل إذن إلغاء هذا المرسوم المثير للجدل وكفى الله المؤمنين شر القتال خاصة في غياب محكمة دستورية عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم التي يتم سنها من هذا المشرع أو ذاك».
وتعتبر محدثتنا أن تونس خسرت الكثير جراء ثورتها اقتصاديا واجتماعيا، ولم تكسب سوى حرية التعبير وكذلك المجتمع المدني المتميز بنسيجه الجمعياتي الهام الذي يقدم الكثير في جميع الميادين ويعاضد جهود الدولة. واليوم، وحسب الصحافية التونسية، يبدو أن تونس ستخسر هذين المكسبين وستصبح أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الثورة وذلك من خلال القوانين والمراسيم والنزعة الديكتاتورية للمنظومة الجديدة ما لم تثب إلى رشدها وتحاول التدارك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية