المسرح الأثري في الجم التونسية تحفة معمارية استثنائية تنبض عراقة وإبداعا وخلودا

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: هناك إجماع حاصل بين المؤرخين والمعماريين والسياح وكل الزوار على أن المسرح الأثري العالمي الشهير بمدينة الجم التونسية التابعة لولاية المهدية، أو قصر الجم، كما يسميه البعض، هو تحفة معمارية تاريخية فريدة في منطقتها والعالم، وهو ما جعلها مدرجة على لائحة التراث العالمي لليونسكو. ويعتبر المسرح من أهم المواقع الأثرية في تونس إلى جانب مواقع أخرى على غرار الحنايا أو قناة مياه قرطاج، وجامع عقبة بن نافع بمدينة القيروان، ومائدة يوغرطة بقلعة سنان التابعة لولاية الكاف، وغيرها.

مسرح للعروض

بُني هذا “القصر المسرح” على أرض سهلية منبسطة بمنطقة الساحل التونسي، وسط البلاد على بعد 200 كيلومتر من العاصمة باتجاه الجنوب، وأحاطت به المباني من كل الاتجاهات، فكان قلب مدينة الجم النابض ورمزها ومحورها ماضيا وحاضرا وسبب شهرتها سواء في تونس أو خارجها. ويتخذ المسرح شكلا دائريا باعتباره يضم حلبة استعراضية مخصصة للمعارك القتالية بين البشر والأسود وبين البشر فيما بينهم، كما يضم مدارج تحيط بالحلبة كان يجلس عليها المتفرجون. وتحيط بالحلبة والمدرجات جدران في شكل أقواس وغرف جانبية وممرات موزعة على طوابق، كما توجد غرف وممرات في أسفل الحلبة يتم النزول إليها من خلال مدرجات خصصت للغرض.
وإضافة إلى صراعات الوحوش والحيوانات المفترسة، وصراعات هذه الأخيرة والمصارعين والمقاتلين من أسرى الحرب وغيرهم، فقد كان مسرح الجم يشهد إقامة سباقات العربات، وكان يعج بالحياة حيث تمتلئ مدارجه بالجماهير من كل طبقات المجتمع، وترتفع الأصوات بالتشجيع في حضور الحاكم والحاشية وكبار القوم وفي أجواء استثنائية صورتها أفلام كثيرة وخصوصا السينما الهووليودية.

طمس الحقائق

يؤكد المؤرخون على أن مدينة الجم الحالية بنيت على أنقاض مدينة رومانية بنيت بدورها على مدينة قرطاجية قديمة سعى الرومان إلى طمسها والبناء فوقها ونسبتها لأنفسهم مثلما فعلوا بكل تاريخ قرطاج وآثارها ومعالمها. وما زالت آثار هذه المدينة التي أضاف إليها الرومان بناءات أخرى قائمة إلى جانب مسرح آخر أقل حجما من المسرح الأول. وسميت المدينة في العهد الروماني تيسدروس بعد أن تمت رومنتها مثل جميع المدن القرطاجية وتسميتها باسم لاتيني، ومن ذلك الجم.
ويتم عادة في تونس نسبة أي موقع أو بناء أثري قديم إلى الرومان رغم معرفة المؤرخين بأن روما قامت بطمس الحضارة القرطاجية ونسبة أغلب ما ضمته من مبان وإنشاءات إلى نفسها من خلال مؤرخيها، وذلك بعد أن أحرقت مكتبة قرطاج. وحتى الأبنية التي شيدت زمن حكم الوندال والبيزنطيين عادة ما ينسبها التونسيون إلى الرومان حتى أصبح كل شيء رومانيا دون القيام بتحاليل على الحجارة التي شيدت بها هذه الأبنية للتأكد من تاريخ الإنشاء والتشييد.

ضرورة الحسم

لذلك فإن قصر الجم ينسب إلى الرومان بالرغم من وجود مدينة قرطاجية محلية قديمة سبقت الوجود الروماني بمنطقة الجم، وبالتالي فإن المصادر الرومانية تتحدث عن القائد الروماني غورديان الثاني الذي قاد انتفاضة على إمبراطور روما في ذلك العصر وأقام قصرا خاصا به سعى من خلاله إلى أن يكون متميزا ويفوق بعظمته وجماله قصر الكوليسيوم بروما. وحتى على فرض صحة ما ورد في المصادر من أن من شيد هذا القصر هو غورديان الثاني، فإن الأخير هو قائد محلي وكان أجداده مواطنون قرطاجيون وبالتالي لا يفهم هذا الإصرار على نسبة القصر إلى الرومان. كان يمكن القول إنه قصر بناه السكان المحليون خلال فترة الاستعمار الروماني لتونس أو أفريكا.
ويذهب البعض إلى أن الرومان عندما أجهزوا على قرطاج واستعمروا شمال أفريقيا بتواطؤ من الخونة النوميديين وبائع الذمم وعاشق الاستعمار ماسينيسا، أعجبوا ببراعة بناء قصر الجم، الذي وجد قبل قدومهم، وأرادوا بناء قصر شبيه به في روما لكنهم وقعوا في أخطاء عديدة بقيت بارزة إلى اليوم في كوليسيوم روما الشهير، وذلك دليل على عدم معرفتهم بأسرار بناء هذا القصر. بينما يذهب آخرون إلى اعتبار أن روما هي من بنت قصر الجم وتلافت فيه الأخطاء التي وقعت فيها عند تشييد كوليسيوم روما، وبالتالي فقد أصبح قصر الجم لغزا يقتضي الحسم بالقيام بتحليل الحجارة لمعرفة تاريخ البناء الحقيقي.

قصر آخر

وفي كل الأحوال وعلى فرض أن قصر الجم بني في العهد الروماني وليس في العهد القرطاجي فإن الثابت والمتفق عليه أن بنائيه، ومن أمروا بتشييده، هم السكان المحليون أي التونسيون القدامى من شعب قرطاج عاصمة الإمبراطورية البونية أو البونيقية التي امتدت في زمن مجدها وعنفوانها على الساحل الغربي لشمال أفريقيا من خليج سرت في ليبيا إلى السواحل الأطلسية المغربية مرورا بتونس الحالية (المركز) والساحل الجزائري. ويؤكد المؤرخون على أن أثرياء الجم المحليون من تجار زيت الزيتون هم من أنفقوا على تشييد “قصر مسرح” الجم وليس المستوطنون الرومان الذين كان لهم مسرح آخر ما زالت آثاره قائمة إلى اليوم بمدينة الجم ويتسع لألفي شخص.
ويتساءل الكثيرون في هذا الإطار لو كانت روما هي من أنشأت كوليسيوم الجم لماذا يترك المستوطنون الرومان هذا “القصر المسرح” للسكان المحليين ويقومون بتشييد مسرح آخر صغير الحجم سيء البناء ولا يرتقي إلى فخامة القصر الكبير ويقيمون عروضهم فيه ويجتمعون به. لذلك يؤكد هؤلاء على ضرورة نسبة الأمور إلى أهلها، والكف عن نسبة ما شيده التونسيون في زمن سلطة استعمارية إلى هذا المستعمر أو ذاك، وذلك بعد القيام بالتحاليل العلمية اللازمة وليس بالاعتماد على مؤرخي روما الذين نسبوا كل ما في مستعمرات روما إلى أمتهم.

حصن دفاعي

أما في زمن الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا فقد تحول قصر الجم إلى معقل للقائدة الشمال أفريقية ديهيا التي سماها العرب الكاهنة، فتصدت من هذه القاعدة إلى زحف القائد الأموي حسان بن النعمان الذي أنهى وجود قرطاج كمدينة عامرة بعد أن أنهى الرومان قبل ميلاد المسيح إمبراطوريتها البونية أو البونيقية الخالدة التي حكمت الحوض الغربي للمتوسط ومناطق أخرى من العالم.
وبقي القصر شاهدا على شجاعة هذه القائدة الشمال أفريقية الشجاعة الصامدة التي رفضت السبي لها ولبناتها، والذل والهوان لبني قومها واستبسلت في الدفاع عن أرضها وعرضها ومالها. وقم تم اختيار الملكة ديهيا لذلك القصر اعتبارا لقوة تحصيناته وصعوبة اقتحامه من قبل الغزاة ووقوعه على الطريق إلى قرطاج بالنسبة إلى القادمين من المشرق، واختارته أبضا لقربه من القيروان معقل العرب والمسلمين في شمال أفريقيا.
وفي نهاية القرن السابع عشر في زمن حكم العائلة المرادية تونس احتمى المتمردون على الملك محمد باي بقصر الجم وهو ما اضطر حاكم تونس إلى هدم الجانب الغربي للقصر، حتى لا يتحصن به متمردون آخرون. وتم قصف هذه التحفة الأثرية المعمارية الرائعة بالمدافع التي دكتها من جهة الغرب، ولم تعبأ لا بتاريخ ولا جغرافيا ولا فن معماري أو مخزون أثري.
وتوجد في كوليسيوم الجم عديد القطع والتحف الأثرية التي أقيم لها متحف بمدينة الجم نفسها ووضع بعضها في متاحف وأماكن أخرى على غرار المتحف الوطني بباردو الذي يعتبر واحدا من أهم متاحف العالم. ولعل أهم التحف التي تضمنها القصر هي اللوحات الفسيفسائية النادرة التي تصور الحياة اليومية لسكان تونس القدامى وعاداتهم وتقاليدهم ولباسهم وأكلاتهم، أي أن هذه الرسوم، سواء التي وجدت في الجم، أو في غيرها، لم تترك شيئا إلا أحصته ووثقت كل تراث تونس اللامادي دون الحاجة إلى اليونسكو أو غيره.

مهرجان عالمي

أما حاضرا فقد تحول قصر الجم الذي تتسع مدارجه إلى قرابة 40 ألف متفرج إلى مسرح يقام فيه مهرجان عالمي شهير هو مهرجان الجم للموسيقى السيمفونية الذي يشهد قدوم أشهر الفرق الموسيقية السيمفونية العالمية وأشهر المغنين والعازفين والملحنين لهذا الصنف الموسيقي العالمي الراقي الذي يستقطب النخب. وتقام العروض ليلا في فصل الصيف فيطالع القادم إلى الجم سواء بالقطار أو بالسيارة مشهدا مهيبا لهذا القصر الأسطوري وقد أضيئت كل شرفاته وأروقته بالشموع فيشعر أن الزمن عاد إلى الوراء إلى تلك العصور الغابرة وزمن المصارعين والوحوش فإذا به أمام أرقى فناني العالم على الإطلاق من تلاميذ بيتهوفن وموزارت وباخ وغيرهم.
ورغم أن عديد المهرجانات في تونس فتحت أبوابها للفن الهابط تونسيا وعربيا بحثا عن الربح السهل والسريع في ظل الأزمات المالية التي تعيشها المهرجانات، إلا أن مهرجان الموسيقى السيمفونية بالجم حافظ على رقيه. لذلك بقي هذا المهرجان ملاذ المثقفين والنخب من شتى المجالات للهروب من التلوث السمعي وللاستمتاع بالموسيقى الراقية وأناشيد فناني الأوبرا ومشاهدة حماسة المايسترو واهتزازات جسمه وعصاه مع النغمات الساحرة المنبعثة من آلات العازفين والعازفات.
لقد غير الزمن قصر الجم وهذب ميوله وجعله هادئا مستكينا باحثا عن الفن والجمال وعذب الأنغام عوضا عن مشاهد القتل وسفك دماء الوحوش وبني البشر من المصارعين والأسرى وأراذل القوم وغيرهم. وكأن الأجساد التي خارت قواها وفارقت الحياة على ركح ذلك الصرح العظيم في زمن ما، تهفو اليوم إلى كنس غبار الأحزان بحثا عن راحة أبدية في زمن سرمدي تساق إليه مع النغمات المنبعثة من الآلات الوترية والإيقاعية وآلات النفخ وغيرها التي تتحد لترسل إلى المتلقي أروع الألحان وأعذبها.

قبلة السياح

كما أن قصر الجم بات اليوم قبلة لملايين السياح والزوار من مختلف أنحاء العالم يأتون إليه وقد أغرتهم الحضارة التونسية العريقة التي أولت اهتماما كبيرا ومبكرا للفنون والرياضة فبنت المسارح في كل مكان. وساهم هذا الاستقطاب السياحي في ترويج أهالي مدينة الجم لصناعاتهم التقليدية فنشطت الدكاكين التي يجد السائح ضالته عندها لاقتناء بعض التحف والهدايا التذكارية.
كما ساهم قصر الجم في خلق حركة سينمائية وتلفزيونية في المدينة إذ تم تصوير مشاهد من أفلام ومسلسلات روائية ووثائقية سواء من تونس أو من خارجها في هذا القصر وفي محيطه. وقد ساهم ذلك في جلب سياح من الفئة الراقية والتي يبحث عنها القائمون على القطاع السياحي في تونس والتي توفرها السياحة الثقافية والسياحة الفنية بما في ذلك تصوير الأفلام.

فريد منطقته

ولعل تدمير كوليسيوم قرطاج من قبل أطراف عديدة على مر التاريخ، منها بنو هلال الذين باعوا حجارة أبنية قرطاج ونوافذها وأقواسها وأعمدتها، والحفصيون والعثمانيون وقبلهم الفاتحون المسلحون الذين استغلوا مباني قرطاج في إنشاء أسوار وقصور ومساجد مدينة تونس أو الفرنسيون الذين نهبوا آثار قرطاج، هو الذي زاد من قيمة مسرح الجم. فهو الآن في تونس بلا منافس وكذلك في كامل ربوع القارة الأفريقية، وحتى بمقارنته مع كوليسيوم روما فهو المتفوق باعتباره لا يتضمن أخطاء بناء ذلك الصرح الإيطالي.
فما بقي من كوليسيوم قرطاج يؤكد على أنه كان الأكبر والأضخم والأكثر أهمية سواء في شمال أفريقيا أو على مستوى العالم ويؤكد ذلك مؤرخون عرب كثر زاروا تونس بعد سيطرة الأمويين على مدينة قرطاج، فقد انبهروا انبهارا كبيرا بروعة مباني قرطاج وعظمتها على غرار الكوليسيوم وقناة المياه وغيرها حتى أن بعضهم ذهب إلى أن من بنى قرطاج هم العمالقة الذين بنوا أهرامات مصر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية