المالوف: الأثر الأندلسي في الموسيقى الليبية

من الفنون العريقة القائمة في ليبيا، فن المالوف، الذي يوجد كذلك في كل من تونس والجزائر، وهو لون موسيقي غنائي أندلسي الأصل والطابع، ذلك أنه أتى إلى ليبيا بعد سقوط الأندلس، مع من عادوا ببقايا الحضارة الأندلسية. استقر هذا الفن في ليبيا منذ قرون، ووجد على أرضها من يحتضنه ويرعاه، ويحفظه عبر الأجيال، ويقوم على تطويره من حين لآخر، ولاقى القبول العام من الناس، وامتزج بثقافتهم امتزاجاً طبيعياً سهلاً، فاقترب من الروح، وصار جزءاً من العادات والتقاليد التي لا تنقطع، واقترن بالأعياد والأفراح، والمناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة.
لفن المالوف أسسه وقواعده الخاصة على مستوى الموسيقى والألحان، وكذلك على مستوى الكلام المغنى وأساليب قول الشعر ونظمه. أما كلمة المالوف فهي النطق العامي لكلمة المألوف، ويشير هذا المسمى بوقعه الرقيق إلى الشيء الذي يألفه الناس، أو الشيء الذي يحقق الشعور بالألفة، ويقال أيضاً إن مسمى المالوف قد يشير إلى الشيء المؤلف من عدة أشياء. يعتمد فن المالوف الليبي على القصائد الأندلسية القديمة، والموشحات والأزجال، والرباعيات الشعرية، إلا أن طابع التوشيح يطغى على فن المالوف بشكل عام. والتوشيح كما هو معروف فن من فنون الشعر في الأساس، انتقل إلى الغناء وبات مظهراً من مظاهر الحضارة الأندلسية والعربية القديمة. وجد في معظم البلدان العربية من مشرقها إلى مغربها، وكان له تأثيره في الموسيقى العربية كنمط غنائي عتيق، وتدريب مهم لأصوات المطربين.

أغراض شعرية متعددة

يتغنى فنانو المالوف في ليبيا بالقصائد الدينية، حيث الذكر والمديح النبوي، والثناء والحمد والرجاء، وما إلى هنالك من أغراض الغناء الصوفي. ويتغنون كذلك بقصائد الحب العذري والغزل العفيف، حيث مشقة الغرام وعناء البعد واستحالة الوصال. يتسم هذا الفن القديم بالغناء البطيء المتمهل، والإيقاع الهادئ، الذي يسر وفق ترتيب معين معروف، يميز هذا اللون الموسيقي عن غيره. تسمى القطعة أو الفقرة الغنائية من المالوف الليبي باسم النوبة، وعادة تجمع النوبة الواحدة بين أغراض شعرية متعددة، وتتنوع في الأوزان والمقامات والإيقاعات، بين دخول وخروج وأغصان في الوسط. أما اللغة المغناة فتتقلب بين الفصحى والعامية، وأحياناً تكون مزيجاً بين كل منهما. يقوم على فن المالوف مطرب رئيسي، وعادة يكون قائد الفرقة في الوقت نفسه، يلعب المطرب دوره الأساسي في غناء نوبة المالوف، وأداء القصائد والموشحات والأزجال. وإلى جانب المطرب الرئيسي يلعب الكورال أو جماعة المرددين، دوراً كبيراً حيوياً في هذا الفن، إذ يقومون بغناء وترديد الكثير من المقاطع المتكررة، التي تعمل على تثبيت اللحن في الأذهان، ولا يفتقد غناؤهم جماليات الطرب والإمتاع الفني.
للمالوف الليبي ارتباط أيضاً بالطريقة العيساوية، إحدى الطرق الصوفية المغربية، التي تعود إلى الشيخ محمد بن عيسى المكناسي، حيث احتضنت الزوايا الصوفية الخاصة بالطريقة العيساوية فن المالوف، وكانت تخرج بهذا الفن إلى الطرقات، بمواكب غنائية ضخمة في المولد النبوي الشريف على وجه الخصوص، فيستمع الجميع إلى فن المالوف، ويتذوقون جمال أشعاره وإيقاعاته. يتم تقديم فن المالوف الليبي عادة بطريقة تقليدية، تجمع بين التراث الموسيقي، وأوجه أخرى من وجوه التراث الليبي، كالملابس التقليدية التي ترتديها الفرقة والمطرب الرئيسي، من طرابيش وعباءات وجلاليب وأوشحة وأحذية، وكذلك الآلات الموسيقية التقليدية، من وتريات وآلات إيقاعية، وآلات نفخ خشبية. بعض هذه الآلات يكون تراثاً عربياً مشتركاً، فالعود مثلا يوجد لدى الجميع في كل الدول العربية، إلا أن ليبيا تتميز ببعض الآلات الإيقاعية المقابلة للدف والرق على سبيل المثال، والآلات الهوائية الخشبية المقابلة للناي، أو هي نوع من الناي. أما تكوين الفرقة والشكل الذي تتخذه أثناء الغناء وإحياء ليالي المالوف، فنجد أن المطرب الرئيسي يتصدر الفرقة بطبيعة الحال، ومن خلفه يصطف الكورال، وتتمايل مجموعة المرددين أحياناً يميناً ويساراً، كنوع من التعبير عن التناغم والامتزاج بالإيقاع، وربما تعبيراً عن التأثر الوجداني بالمعاني الصوفية في الغناء.

أقطاب المالوف الليبي

يعد الفنان الليبي الراحل حسن عريبي، من أهم أقطاب فن المالوف في ليبيا. وُلد حسن عريبي في مدينة طرابلس سنة 1933، وشغل عدة مناصب ثقافية رفيعة في بلده، وعمل منذ أوائل الستينيات على تأسيس فرقته المتخصصة في فن المالوف، وله يرجع الفضل في إدخال المزيد من الآلات الموسيقية على هذا الفن، الذي كان يعتمد في السابق على الآلات الإيقاعية والصوت البشري فقط. فأضاف الفنان الراحل الوتريات، وبعض الآلات الموسيقية الأخرى، كما عالج الألحان بشكل أكاديمي، وسعى بفن المالوف نحو مزيد من الاكتمال والتطور الفني. ترك حسن عريبي ذخيرة فنية كبيرة، وغنى بصوته مجموعة ضخمة من القصائد والموشحات، ومن أشهر ما غنى قصيدة «المنفرجة» و»الوصايا» و»نعس الحبيب» و»ناح الحمام».
كذلك يعد الشيخ محمد قنيص من أهم أقطاب فن المالوف الليبي، بل من أكبر أساتذته، وهو من الجيل السابق على جيل الفنان الراحل حسن عريبي، إذ بدأ الشيخ محمد قنيص منذ أربعينيات القرن الماضي، في تقديم فن المالوف وغناء روائعه، ويتميز أسلوبه بالقدم والكثير من الأصالة، والحرص على الشكل التقليدي الخالص للمالوف، كما لو أنه يقدم في شكله العتيق عندما أتى إلى ليبيا. غنى الشيخ محمد قنيص الكثير من نوبات المالوف الششترية، وهي مجموعة قصائد تعود إلى شاعر قديم يعرف باسم الششتري. ومن أشهر ما غنى الشيخ محمد قنيص، «يا حادي العيس» «جمر الهوى يحرق» «ظبي سباني» وقصيدة «يا ابن عيسى يا ولي مكناس» التي تقول كلماتها:
«يا شيخ علاك مولاك.. خصك بعلم الحقايق.. وكساك بالنور وجباك.. ورحم بيك الخلايق.. يا ابن عيسى يا ولي مكناس.. أفزع وهز الراس.. يا ابن عيسى يا قطب الأسرار.. أفزع لنا بالله.. بالنبي الهاشمي المختار.. أحمد رسول الله.. هذا ذكر الله والأنوار.. والعون من الله.. أنت شيخي يا ابن عيسى مُدّني بالكاس.. يروي ويجلي الباس.. ألف أول الاسم.. ولامين بلا جسم.. وهاء غاية الرسم.. تَهجّ سر حرفين.. تجد اسما بلا أين.. ألف قبل لامين.. وهاء قرة العين.. هذا يوم قد لاح بالأنوار.. يا سيد.. نور الصادق الأمين يا لالال.. مولد طه المصطفى المختار.. يا سيد.. رحمة للعالمين يا لالال.. صلوا عليه يا سادة يا أبرار.. يا سيد.. على تاج المرسلين يا لالال.. الصلاة دايما عليه تنفع.. في جميع الأمور يا لالال.. فيها نور الشفيع المشفع.. يا سيد.. في ميعاد النشور.. يا لالال.. الدنيا لهو وزينة.. والآخرة دار البقا.. في شرع أحمد نبينا الجنة لمن اتقى.. والعمل واجب علينا ننجو به يوم اللقا.. اسلك طريق الجماعة والشر في بدع الأمور.. الدنيا ساعة بساعة اغنم زمامك لا يمور.. أنا الذي همت باشتياقي.. هايم ومغرم ومستهام.. مدامعي جرحت آماقي.. من شدة الوجد والغرام.. لما سرى حادي النياق.. واستقبل الشرق والمقام.. لا زال في سيره مجدد.. بالزاد والطبل والعلم.. من يعشق المصطفى محمد.. كيف يحلى له الفرش والمنام».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية