القاص محمود الريماوي: التوازن مع الظروف

حجم الخط
2

يلعب محمود الريماوي في مجمل قصصه بالمنطقة الرمادية، وهي المساحة التي يصعب عليك تصنيفها بالمعنى الكلاسيكي المعروف. إن تصنيف الأسلوب في هذه القصص مسألة محيرة وتحتاج لقليل من الجرأة، بعكس ما هو عليه الحال في رواياته التي تبدأ وتنتهي في دورة حياة الرواية.
لقد كانت قصص الريماوي بشكل عام ذات نفس بسيط ولكن بإطار مركب. وهذه هي ميزته. أن يكون متحدثا بسيطا ويلفت انتباه المستمع.
ويجب أن نفهم العبارة الأخيرة بمعناها المباشر. فقصصه أحاديث من قلب الكاتب لقلب القارئ. ويغلب عليها أسلوب السرد الشفاهي. حتى إن الجمل المعترضة من النوع الدارج الذي نستعمله يوميا في المقاهي كقوله (مد الله في عمر المستمعين)، أو قوله (عاشت الأسامي)، أو (النعاس يضغط على أم رأسي) (1).
وإذا كانت غريزة الحكواتي هي الغالبة، فإن بناء الحكاية ليس معقدا، ولا حافلا بالأحداث الجسيمة. واستعاض عن ذلك بحبكة من طبقتين: عالم نراه ونعقله وعالم لا نمتلك القدرة على تفسيره. لذلك لا تخلو لديه قصة من النشاط النفسي والأحلام، ومنها أحلام اليقظة (كما في ما فعله السيد خورخي أو ظهور واختفاء سي محمد، حيث يلتقي الراوي بشخصيات شهيرة ماتت من سنوات).
وعليه إن المكان في قصصه من النوع المضاعف.. فهو فضاء الشخصيات النفسي من جهة، ومسرح الحياة المحدودة كالشارع والبيت والمقهى وأحيانا الفندق وما إلى ذلك، من جهة ثانية. بمعنى أنه مكان ملموس يزداد حجمه حسب طريقة تفسيرنا له .
وبالنسبة للفنادق هي بخلاف ما نراه في قصص العجيلي، أهم من كتب في أدب الرحلات. فالعجيلي يصف المكان ويقدم عنه معلومات حقيقية بينما الريماوي يهتم بالشخوص وطريقة تعامل الراوي أو بطل القصة مع ما حوله.
وهنا تبدأ مشكلة التعريف. هل نحن إزاء حداثة وإيقاع سريع، أم أننا فعلا لا نزال نهتم بالواقع النفسي والمعاشي لشخصيات تعبر بنا يوميا كما هو شأن كل القصص الواقعية.
ولا بد من الإقرار إن النوعين يتوفران في بناء كل قصة. حيث نلاحظ: حذف التمهيد والدخول في الموضوع أو الحبكة مباشرة كما هو حال الحداثة التي تعتمد على كتلة القصة بلا مقدمة ولا خاتمة. وأرى أن هذا يعبر خير تعبير عن شك الطبقة المتوسطة بالواقع. فهي لا تنظر للعالم الخارجي بقدر ما تهتم بواقعها النفسي المريض والذي يحترق من المعاناة وضعف الإيمان. بجانب العناية بملامح الشخصيات ولا سيما انطباع صورها في السطوح العاكسة كالمرايا والمياه الراكدة وما شابه. ولذلك هي شخصيات غير أصيلة. إنها تنتمي لعالم الصور ناهيك عن أنها إنتاج نشاط ذهني.
وإن مثل هذه التوليفة التي تعتمد على المتناقضات لتركيب بنية واحدة هي من الظواهر التي بدأت تبدل أساليب وعينا.
لقد كانت الثمانينات عصرا للتحولات الأساسية، أو منعطفا هاما، كما نقول في السياسة. ففي هذه الفترة انتقلت الرواية من تقنية الأصوات لما يعرف فنيا بـ ( قصص رواية). وأقصد بذلك تقديم قصص منفصلة ذات هم واحد.
وكذلك دخل الشعر في فضاء النص المفتوح أو ما نقول عنه حاليا السيرة الشعرية.
وقل ذات الشيء عن ما يدعوه سلام كاظم فرج باسم المقاصة (ويعني بذلك النص الذي يتألف من مقالة و قصة ). وهو ما أحب أن أسميه اللوحات القصصية.
لا شك أن كل تلك الأساليب هي مناورة للتغلب على حاجز النهايات. ونوع من التحدي الفني لمشكلة انتبه لها المجتمع العربي في بداياته.
وهذا هو منطق اللعب في المساحة الرمادية، عند الخطوط التي تفصل بين العصور والأنماط، وبالتالي بين الأجناس.
ولكن أهم ما يميز قصص الريماوي عن غيرها، ليس اعتمادها على تخطي حدود الجنس، ولكن تخطي طرق الرؤية. ولئن كانت تعول كثيرا على نشاط البصر في وصف الملامح وتفاصيل المكان (شأن بلزاك وزولا من الواقعيين الطبيعيين ولا سيما في قصصه الأخيرة التي تتحدث عن الفنادق التي زارها في المغرب العربي). فهي ترفد ذلك بالدخول في ما لا يمكن تعريفه، وهو لغز الحياة أو الجانب الأسراري من الواقع ، والذي لا نستطيع أن نفسره موضوعيا.
وهو ما يقول عنه في قصة (سحر الحياة): إنه مصادفة. ثم يتبرع بشرح معناه فيقول: هو القانون المبهم  الذي يحكم حياتنا ومصيرنا (2).
وحسب ما أرى كانت قصصه أقرب لهذا الفهم فوق الطبيعي، وليست ملحقة، كما قد يظن الآخرون، بالتحليل النفسي للحبكة والشخصية. 
لقد حاولت القصص، بحبكتها، أن ترسم الظواهر، وأن تتحفظ في نفس الوقت على تفسيرها. فهي تبدو ممكنة، ولكن من غير منطق متسلسل. والجو يبدو شعبيا ولكنه محكوم ببقايا التخلف وبالمبالغة التي تضع الواقع المادي عند حدود المعجزات. حتى أن المكان في قصة ما فعله السيد خورخي يبدو له أشبه بسرداب أشباح أو مسرح لأطياف تهيم على وجهها (3).
والناس في قصة ظهور واختفاء سي محمد هم عبارة عن (أشباح حية) تتجول بين محلات لها سمت مغلق ومتباعد (4).
وأعتقد أن هذه هي إحدى المحاور الأساسية التي تدور حولها كل مغامرة عبدالسلام العجيلي مؤسس القصة الفنية في سوريا. مع فارق أساسي أن العجيلي يذهب بعيدا مع اللا شعور والغرائز حتى يصل إلى الوجه المظلم للبشرية، ضمنا العرافة والشعوذة والبداوة، ويقترب كثيرا من الحالة الشيطانية والشريرة للغرائز التي تحدث عنها إدغار ألان بو في معظم أقاصيصه. في حين يبدو محمود الريماوي مكافحا أو مألوفا ونهاريا، وإنما هو في قبضة الشك وتحت وطأة العجز والأقدار، ومتأثرا بصراع وربما تقابل الأضداد.. وهذا يعني فيما يعنيه تكامل العناصر. فالواضح لا يكون مفهوما من غير الغامض.
إن قصص الريماوي أكثر من أن تكون رسما بيانيا لخلجات النفس وبناء وجدان شخصياتها الواقعية وحسب. فهي تركز، في معظم الحالات، على الباراسايكولوجي وظواهر التخاطر ونشاط النيرفانا للنفس المفكرة حين تمر في حالة تحول، أو حالة خروج من منغصات الواقع لعالم اللاشعور. وإن البحث عن حياة موازية يسهل عليها تأجيل المواجهة ونقل أرض المعركة.
وهذا هو السبب في إشراق هذه القصص من بين طيات الهموم والنكبات والهزائم.. إنها تؤمن بفلسفة نقطة النور. ولكن المشكلة في تحديد مكان تلك النقطة. كم تبعد عنا بالضبط. وهذه المسافة التي تصر الشخصيات على اجتيازها، هي ما تسميه بقوة الافتراض، مقاومة. وأعتقد أنها تقصد معنى التحمل. أو بعبارة أوضح: المثابرة.
وهكذا يمكن للغريب أن لا يشعر بالغربة عن موطنه. ولمن دخل في مرحلة التحول والانفصال أن لا يتألم من مشكلة الاغتراب. ألسنا كلنا عابري سبيل في مسرح الحياة مترامي الأطراف؟ ألسنا كلنا غرباء، والغريب للغريب نسيب ( كما ورد بالحرف الواحد في ما فعله السيد خورخي).
ولذلك لا توجد في فلسفة هذه القصص أزمة. إنها لم تحاول أن تلغي فكرة ما فوق الطبيعة التي وضعت حجر الأساس في كلاسيكيات العقل الغربي لمفهومنا عن التراجيديا ( كما قال أبو بكر العيادي في معرض تحليله لأزمة الحداثة الغربية) (5) حيث القسمة بين الآلهة والبشر لا تزال حسب الصيغة المعروفة: نحن في التفكير وهم في التدبير. بالعكس لقد أعادت قصص الريماوي تطبيع العلاقة بين الروحانيات والماديات. ووضعت كل ما لا  يقبل التفسير في خانة الإرادة الإلهية الغامضة. وبهذه البداهة المبسطة والمعبرة عن حقائق الإنسان الشرق أوسطي المستسلم لمقاديره، الذي يفترض حتى في تفسيره لمعنى المقاومة أنها مسلمات لا تقبل النقاش، تبدو الأحداث في حالة توازن مع الظروف.
هوامش: 1- انظر مجموعته فرق التوقيت. منشورات أمانة عمان الكبرى- 2011/ 2- المجموعة السابقة./ 3 – منشورة في قاب قوسين بتاريخ 2 أيلول/ سبتمبر 2014./ 4 – منشورة أيضا في قاب قوسين بتاريخ 25 آب/ أغسطس 2014./ 5- المقالة منشورة في الصفحة الثقافية من جريدة العرب- 3 أيار/ مايو 2013- لندن.
كاتب من سوريا

صالح الرزوق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد طاهات / عضو في رابطة الكتاب الأردنيين:

    بسم الله الرحمان الرحيم وبالله نستعين , وبعد .
    لقد أعدت الينا الكنز الدفين وأثرت فينا الشوق إلى كاتب تحبه ونحبه , كاتب كان له الدور الفاعل ومايزال في الثقافة الأردنية , كنا نستشرف طلعته البهية في جريدة الرأي يوميا أو أسبوعيا , وكنا نكتب معا المقالات في هذه الجريدة الغراء وأمضيا زمنا لابأس به , لكنه انزاح من المقالة إلى الرواية كما انزحت مثله من المقالة الى الرواية , وترك كلانا جريدة الرأي لنتفرغ للرواية , التقيته بعد غياب في جريدة الرأي , وقال لي لماذ ا لم نعد نراك ياطاهات ولم تعد تكتب في الجريدة وبادلته نفس السؤال , فمحمود الريماوي كاتب مبدع ، أبدع في الرواية كما أبدع في المقالة ,
    أتمنى له العمر المديد والاستمرار في العطاء وشكرا للكاتب على هذا المقال الجميل وشكرا لجريدة القدس العربي التي تعرفنا بالأدباء المبدعين أمثال محمود الريماوي والياس فركوح وسليمان الأزرعي وهاشم غرايبه ونادر أبو الهدى وغيرهم من الكتاب الأردنيين والعرب .

  2. يقول محمود الريماوي الأردن:

    شكر من القلب للأستاذ صالح الرزوق على القراءة الثاقبة. شكرا من القلب للعزيز محمد الطاهات، الذي ابادله مشاعره الأخوية الطيبة.

إشترك في قائمتنا البريدية