الصخرة لرحمانينوف: أثر الشعر والقصة القصيرة على الموسيقى

وراء معزوفة الصخرة للموسيقار الروسي سيرجي رحمانينوف، يقف الشعر والقصة القصيرة كملهمين كبيرين، أوحيا له تلك الفانتازيا للأوركسترا، أو القصيد السيمفوني كما تصنف أيضاً. والشعر هنا للشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف، الحاضر من خلال قصيدة تحمل عنوان الصخرة أيضاً، أما القصة القصيرة، فهي قصة «على الطريق» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف. نحن إذن أمام ثلاثة من عظماء المبدعين الروس، لا تخفى مكانة كل منهم في مجاله، وقيمة ما قدموه للثقافة العالمية والإبداع البشري. ليست روسيتهم فقط هي التي تجمع بين الثلاثة، لكن يجمع بينهم أيضاً مذهبهم الفني، إذ ينتمي كل منهم بشكل أو بآخر إلى المذهب الرومانتيكي، سواء في الشعر أو القصة أو الموسيقى. وعاشوا جميعاً في القرن التاسع عشر، وحده رحمانينوف امتدت به الحياة إلى القرن العشرين.
بدأ الأمر شعراً، حين كتب ميخائيل ليرمنتوف قصيدة «الصخرة»، ثم من وحيها ألف أنطون تشيخوف قصة «على الطريق»، ومن وحي القصيدة والقصة، ألف سيرجي رحمانينوف قطعته الموسيقية الشهيرة. يعد ميخائيل ليرمنتوف من أهم الشعراء الروس، على الرغم من أنه عاش حياة قصيرة، في الفترة من سنة 1814 حتى سنة 1841. كان معروفاً بميله إلى الشرق والروحانيات بصفة عامة، وكتب أشعاراً في الحب والطبيعة والوطنية، وهو من أعلام الحركة الرومانتيكية، وينطبع شعره باللمسة الفلسفية، إلى جانب التعبيرية العاطفية. وقصيدة الصخرة واحدة من قصائده الرومانسية، تبدأ بأبيات تدور حول سحابة ذهبية، غفت ليلاً على صدر صخرة ضخمة، ثم ذهبت في الصباح، تاركة أثرها الرقيق على الصخرة الجامدة. هذا اللقاء بين القوة والرقة، بين الجمود والرهافة، والأثر الذي يصنعه الأضعف في الأقوى، تحول في قصة أنطون تشيخوف، إلى لقاء بين رجل وامرأة، أو فتاة تصغره سناً، وتحول في موسيقى رحمانينوف، إلى لقاء بين الأنغام الهادئة والأنغام الهادرة.

تحت تأثير الشعر والقصة

تقع مقطوعة رحمانينوف تحت تأثير الشعر والقصة، وبشكل عام يعد الشعر ملهماً أساسياً للموسيقيين، ويتجلى تأثيره من خلال تلحين الكلمات، أو التعبير عن معاني الشعر، بالأنغام فقط دون التغني بالكلمات، والشعر يقوم في جانب كبير منه على الموسيقى، ويمتلئ بالأفكار الموسيقية، فهو ينظم الكلمات تنظيماً دقيقاً له إيقاعه، وله قافيته أيضاً في بعض الأحيان. والقصة تلهم الموسيقى أيضاً بعناصرها السردية، ونزعاتها الدرامية، وما تحتوي عليه من صور ومشاعر. ويساهم الشعر والقصة القصيرة، في تعزيز رمزية الموسيقى وعمقها الفلسفي، إذ عادة يحمل كل منهما، رموزاً ومعاني معقدة، وبذلك تتم إضافة طبقة من العمق التعبيري إلى العمل الموسيقي. وكثيرا ما استلهمت الموسيقى الكلاسيكية، على وجه الخصوص، ألحانها من القصص والأساطير والأشعار.
عاش الموسيقار الروسي سيرجي رحمانينوف، في الفترة من سنة 1873 حتى سنة 1943، وهو من أواخر الرومانتيكيين، ويحتل مكاناً في قائمة عظماء هذا المذهب الموسيقي، يأتي بعد ريمسكي كورساكوف، وتشايكوفسكي سيد هذا المذهب، والمثل الأسمى الذي كان رحمانينوف يتطلع إليه عالياً، من خلال التدريب على أعماله، أو من خلال إعادة تأليف بعض هذه الأعمال، ويقال إن تشايكوفسكي استمع إلى مقطوعة الصخرة وأبدى إعجاباً بها، وكان رحمانينوف حينذاك في العشرين من عمره، فقد ألف مقطوعة الصخرة سنة 1893. كما يقال أيضاً إن رحمانينوف، أهدى هذه القطعة الموسيقية إلى ريمسكي كورساكوف، وهناك حديث عن إهداء آخر قدمه إلى أنطون تشيخوف. وتشيخوف قطب بارز من أقطاب الأدب الروسي والعالمي، ومن عظماء القرن التاسع عشر، ويراه البعض القصاص الأعظم في تاريخ القصة القصيرة، وهو بلا شك من الآباء الخالدين لهذا الفن الأدبي. ولتشيخوف كتابات مسرحية عظيمة أيضاً، تحظى بشهرة كبيرة وتخلدها مسارح العالم، لكن عند ذكر تشيخوف، تُذكر دائماً القصة القصيرة، التي تشغل حيزاً كبيراً من منجزه الأدبي، حيث كتب العديد من القصص بأسلوبه الفريد، وتناول قضايا المجتمع الروسي في زمنه، وعبر عن مختلف طبقاته الاجتماعية في الريف والحضر، وكتب عن الآلام والأحزان الفردية، الكامنة في أعماق الإنسان، والجوانب المعقدة في حياة البشر. ويجيد تشيخوف تصوير الشخصيات الإنسانية، بطريقة تُشعر القارئ أثناء القراءة، بأن هذه الشخصيات شخصيات حية. ويتسم أسلوبه بالعمق والبساطة، بالإضافة إلى قدرته العجيبة، على استخدام اللغة بشكل مدهش، يلمس النفوس ويؤثر في الأفكار، ويرسم الصور البليغة القوية، وتبدو هذه القوة ظاهرة على الرغم من الترجمات، التي تفقد بعضاً من أثر كلمات الكاتب في لغتها الأصلية بطبيعة الحال. عاش أنطون تشيخوف حياة قصيرة هو الآخر، لكن أعماله حظيت بالحياة الخالدة، ولا شك في أن أعماله القصصية، تعد نبراساً يهتدي به كل كاتب قصة.

الصخرة في قصة تشيخوف

كتب تشيخوف قصة «على الطريق» سنة 1886، وجعل من أبيات الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف، مدخلاً وتصديراً لهاً، وإعلاناً عما استلهمه في قصته من أبيات ليرمنتوف. وعلى الرغم من أن قصة تشيخوف لا تحمل عنوان الصخرة، كالقصيدة مصدر الإلهام، ولم يفعل مثل رحمانينوف، الذي اختار لقطعته الموسيقية، عنوان القصيدة نفسه، إلا أن للصخرة وجود واضح ومهم في قصة تشيخوف، وصورة بديعة رسمها في خاتمة القصة. تقع أحداث القصة في ليلة الميلاد، ويمتد زمنها لليلة واحدة فقط، وتدور حول لقاء بين رجل وفتاة، يعلقان على الطريق بسبب عاصفة ثلجية، ويدخلان إلى نزل، ليحتميا من البرد وليقضيا ليلتهما فيه، لكل وجهته، ولكل أسبابه في السفر وحيداً ليلة الميلاد، الرجل في منتصف العمر تقريباً، غير متحقق في حياته المهنية، وهو مسافر من أجل العمل في أحد المناجم، الفتاة تصغره سناً بفارق كبير، وهي ابنة لأحد ملاك الأراضي، وعمها صاحب المنجم الذي يريد الرجل العمل فيه، أما سفرها فكان من أجل قضاء ليلة الميلاد مع أبيها وشقيقها. يبدأ حوار طويل بين الرجل والفتاة، ليخاريف وإيلافايسكايا، ويكون ليخاريف هو المتحدث أغلب الوقت، حيث يروي للفتاة قصة حياته، آماله وخيباته وخطاياه، في ما يشبه الاعتراف وربما جلد الذات. ثم يتحدث عن المرأة بشكل عام، عن هذا الجنس الرقيق الحنون، مع مديح طويل يظهر إعجابه بالمرأة، وقدرتها اللانهائية واللامحدودة على الحب والعطاء، ويقول إن المرأة هي التي تصنع الدفء والنور والمعنى، في هذه الحياة المليئة بالفوضى. تستمع الفتاة إليه، وعند لحظة معينة تقترب منه، وتتأمله في صمت. ثم يسألها كما لو أنه موقن من الإجابة، أنت إن أحببت رجلا ستتبعينه حتى القطب الشمالي؟ فتجيبه قائلة: نعم، إن أحببته. تقضي الفتاة ليلتها إلى جواره، ويكتب تشيخوف ما يدور في نفس كل منهما، الرجل الذي يتوق إلى الحب، يفكر هل تحبه هذه الفتاة، وتتغاضى عن فارق العمر، وكل الفوارق الأخرى بينهما، والفتاة التي ليست متأكدة من الصورة التي تراه عليها. في الصباح يودعان بعضهما تحت الثلوج المتساقطة، تنظر الفتاة إليه وذرات الثلج تتجمع على رموشها الطويلة، وعلى شعرها، وكذلك على لحية الرجل. تذهب الفتاة ويبقى الرجل ساكناً تحت الثلوج، التي أخذت تتكوم فوقه، حتى صار أشبه بصخرة بيضاء، لكنه عيناه تنشدان شيئاً في غيامات الثلج.

صخرة رحمانينوف

من قصيدة ليرمنتوف، انتقلت الصخرة إلى قصة تشيكوف، حتى وصلت إلى موسيقى رحمانينوف، لنكون أمام تعبير فني آخر، يختلف عن التعبير الشعري والقصصي. مع الأخذ في الاعتبار أن رحمانينوف، لم يكن يهدف إلى التعبير المباشر عن القصة والقصيدة، لكنه تأثر بكل منهما، واستلهم منهما بعض الأفكار، لكننا في النهاية نستمع إلى ما استوحاه رحمانينوف، وإلهامه الخاص. ويمكن القول إن رحمانينوف عكس بعض المعاني المحمولة، في النص الشعري والنص القصصي، وإنه ركز على فكرة التناقض، أو المقابلة بين النقيضين، وذلك التناغم الذي يحدث لبعض الوقت، والأثر الذي يتركه ذلك التناغم. تتميز موسيقى رحمانينوف بالشاعرية، والروح الرومانسية المرهفة، وقوة التعبير النغمي، والقدرة على خلق الصور الموسيقية، بالإضافة إلى جمال الميلودي والبناء المتقن. يعد أسلوب رحمانينوف الموسيقي، أسلوباً غنياً بالعاطفة، وتتميز أعماله بالتنوع والثراء النغمي، الذي يعكس المشاعر العميقة. ويتميز أسلوبه أيضاً بحسن التوظيف للآلات الموسيقية، وتسخيرها من أجل إيصال العواطف، كالحنين والحزن، والشغف والحماسة والفرح. والبيانو هو آلة رحمانينوف الأولى بالطبع، هو من عظماء عازفي البيانو في التاريخ، اشتهر بقدراته الفنية الاستثنائية، وتقنياته في العزف، وهي تقنيات معقدة ذات حساسية بالغة، وقد ألف للبيانو العديد من المقطوعات في قوالب مختلفة، كما ألف للأوركسترا، ولحن للصوت المنفرد مع البيانو أيضاً. تعد مقطوعة الصخرة من أوائل أعماله، ويستغرق عزفها 15 دقيقة تقريباً، تؤديها الأوركسترا التي تحتوي على عدد كبير من الوتريات، بالإضافة إلى الهوائيات الخشبية والنحاسية، وبعض الآلات الإيقاعية. تبدأ القطعة هادئة، بأصوات الكونترباص المتقطعة، ثم تتراوح بين القوة والهدوء، والسرعة والبطء، حتى تبطئ الموسيقى في النهاية وتصمت.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية