الشّاعرالإسباني الكبير دامسو ألونسو.. مغترب الذّات

حجم الخط
0

غرناطة – من محمّد محمّد الخطّابي: فى 22 تشرين أول (أكتوبر) المنصرم (2012) مرّت في هدوء الذكرى الرابعة عشرة بعد المائة لميلاد الشاعرالمجمعيّ الإسباني الكبير دامسو ألونسو الذي كان قد ولد بمدريد في الثاني والعشرين من هذا الشهر عام 1898، ووافته المنيّة في الخامس والعشرين من كانون أوّل (يناير) 1990 عن سنّ تناهز 92 سنة، وكانت إسبانيا قد فقدت والعالم الناطق باللغة الإسبانية آنذاك وجها بارزا من وجوه الإبداع الشعري في الأدب الاسباني المعاصر.
وكان هذا الشاعر إلى جانب رفائيل ألبرتي الوحيدين الباقيين على قيد الحياة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي من ذلك الجيل الأدبي الذي طبّقت شهرته الآفاق، والذي شغل أهل الأدب والمعروف بجيل 1927 الذي كان من أقطابه كذلك: فيدريكو غارسيا لوركا، وخورخي غييّن،و خيراردو دييغو، ولويس ثيرنودا، وميغيل إيرنانديث، وفيستنتي أليكسندري، ورفائيل ألبرتي، وسواهم.
لقد بكت إسبانيا كلّها شاعرها الكبير، بل حسبي الإشارة إلى ظاهرة لا يمكن أن تكون من عوامل الصدفة وهي أن جميع الجرائد اليومية الاسبانية في اليوم التالي لوفاة ألونسو دامسو قد خّصّصت إفتتاحياتها الرئيسية حول هذا الموضوع، ويقدّم ذلك الدليل القاطع على مدى العناية والإهتمام اللذين تحظى بهما الثقافة في هذا البلد، ومدى حساسية الإسبان وتعاملهم مع ثقافتهم ورجالاتها.
حياته وأعماله
دامسو ألونسوالحاصل على عدد كبير من الجوائزالأدبية التكريمية في مختلف حقول الإبداع، تألق نجمه خلال العشرينات وبالذات ضمن مجموعة الأدباء والشعراء الاسبان الذين كانوا منضوين تحت جيل 27 الأدبي.
كتب في اللغة والنقد والدراسات الأدبية والتحليلية، إلاّ أنه نبغ في الدواوين التالية : ‘قصائد خالصة’ (1921) ‘الشعر والريح’ (1925) ‘النبأ المعتم’ (1944) ‘أبناء الغضب’ (1944) ‘الإنسان والله’ (1955) ‘متعة الرؤية’ (1981). ومن أعماله النقدية ‘اللغة الشّعرية لدى غونغورا’ (1935) ‘شعر سان خوان دي لا كروث’ (1942) ‘دراسات في الشعر الاسباني’ ( 1944) وسواها من الأعمال الإبداعية والدراسية والنقدية الأخرى ..
إلتقى دامسو ألونسو في نيويورك عام 1925 مع صديقه الشاعر الغرناطي فيدريكو غارسيا لوركا، وكانت تربطه صلة وثيقة به ، كما كانت له مراسلات أدبية مع جيمس جويس، وذلك عندما همّ ألونسو بترجمة كتاب جويس في ذلك الوقت المبكر ‘صورة الفنان في شبابه’ وقد نشأت على إثر ذلك صداقة متينة بينهما وإحترام وإعجاب متبادلان، هذا كما قام بترجمة عدّة قصائد ل: ت.س. اليوت، وهوبكنز مع تعاليق ضافية.
أبناء الغضب
يجمع النقاد ودارسو دامسو ألونسو أن أعظم كتاّب خلّفه لنا هو ديوانه الفريد الذي تحت عنوان : ‘أبناء الغضب’ وهو أشهر دواوينه على الإطلاق، بل إنّه ربما كان أعظم ديوان شعري عرفته اللغة القشتالية في نصف القرن الماضي، وهو كتاب ضمّنه إحتجاجه وصرخته من أهوال ومخاطر وويلات االحرب العالمية، ثم الحرب الأهلية الإسبانية. التي إنعكست كذلك بالإضافة في عمله الأدبي الآنف الذكر، في كتابه الكبير ‘الإنسان .. واللّه’.
كان دامسو ألونسو قصير القامة، ضئيل الجسم، هادئا، ووديعا، ويكاد المرء لا يصدّق أنّ كتابا من هذا القبيل قد صدرت عنه تلك الكتب التي تتفجّر بالغضب والصّراخ والإحتجاج ، لقد كتبت مرة الشاعرة الإسبانية’ فاني روبيو’ تقول: ‘أنّ ديوانه ‘أبناء الغضب’ ولد من البرودة ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى بركان هادر’. وعن أسباب وضع هذا الديوان صرّح ألونسو: ‘انه بعد نهاية الحرب وجدت نفسي في ضيق شديد. رأيت كيف أنّ عالمي يهوي إلى الهاوية ويغرق في البؤس، إنّ مجازر الحرب الأهلية الاسبانية ثم الحرب الأوربية قد سبّبتا لي غمّا مقيما،وأرقا مستديما،وقلقا فظيعا حيث قادني كل ذلك إلى فقدان الأمل، وتولّد في داخلي بالتالي تناقض غريب، فأنا عاشق هائم مغرم بالحياة والطبيعة، وصدمني أن أكتشف الشرّ في الطبيعة نفسها’.
المحوران الأساسيّان اللذان يدور حولهما هذا الديوان هما الهلع والرّوع والقرف من الحياة، لذا فإنه كتاب إحتجاج كوني صارخ ضدّ نقائض الحياة. إنّ الشاعر في هذا الكتاب يقدّم لنا نفسه ‘كمغترب داخل نفسه’ ظل ألونسو دامسو بعيدا عن الفلسفة بمعناها الكلاسيكي وخلا شعره منها .
يقول الناقد الأكاديمي الإسباني ‘لويس روساليس’: ‘إنّ شعر دامسو ألونسو هو في الواقع أسئلة مطلقة يصعب علينا أن نجد أجوبة شافية لها، وهو ما إنفكّ يصيح طالبا عدالة السماء من مظالم العالم. إنه يسأل غداة الحرب الأهلية الاسبانية من هول المأساة :
لماذا تتعفّن رويدا ..رويدا هذه الروح ؟
لماذا تتعفّن المليون جثة في مدينة مدريد ؟.
لماذا تتعفّن ألف مليون جثة في العالم ؟
إنه يقول أيضا :
قل لي، أيّ حقل تريد أن تسمده بصديدنا ؟
تخشى أن تجفّ حقول الورود اليومية
أو أن يبكي السوسن الحزين في جنح الليل
هذا الشاعر الجريح القلب والآذان
ألبرتي ودامسو وباث
قال عنه رفائيل ألبرتي رفيقه في درب الشعر والإبداع عندما وافته المنيّة : ‘مات الذي عاش للناس دون أن يكون ملكا لنفسه. كان عمري 22 سنة عندما جاء مرّة صحبة صديق لزيارتي وأهداني كتابه. كان شابّا باكر النضج، ولكنّ أشعاره كان لها وقع السحر فينا وفى أنفسنا، وأنا أستطيع ترديد بعضها الآن إذ شئت، حفظتها يوم زيارته لي في مساء بارد من عام 1921. كما أنّني عندما كنت مريضا بداء السل لم يكن ينقطع عن زيارتي، وكنا نقرأ كثيرا من الأشعارالتي كانت تخفّف عنّا وطأة الألم المضني، وثقل المرض اللعين’.
و قد أشاد ألبرتي في مناسبات عدّة بعبقرية دامسو الشّعرية، ونوّه بدراساته النقدية للتراث الشّعري والأدبي واللغوي في اسبانيا .
و قال عنه أوكتافيو باث شاعر المكسيك الكبير (نوبل في الآداب): ‘هذا الرجل لن أنساه ولن تنساه الآداب الاسبانية عن جدارة وإستحقاق نظرا لمكانته ودراساته النقدية خاصة عن’ لويس دي غونغرا’. ذلك أنّ إنبعاث هذا الشاعر القرطبي الكبير من غياهب القرون، وطلاسم اللغة يعود الفضل فيه إلى ألونسو، إذ بدونه ما كان لنا أن نقرأ غونغورا، كما أنه بدون غونغورا فإنّ الشعر الاسباني ما كان له ليكون على ما هو عليه الآن. لا ينبغي أن ننسى كذلك عطاءاته الثرّة بالنسبة للشعر المعاصر، فضلا عن الدراسات التحليلية المعمّقة التي عالج فيها جميع الذين عاصروه’. (أنظر مراسلتي ‘للقدس العربي’ حول قرطبة وشاعرها الكبير غونغورا تحت عنوان ‘مسجد قرطبة الأعظم ..عبقريّة المكان ‘ العدد 7158 الأربعاء 20 حزيران (يونيو) 2012 ‘.
وتعرّض ‘أوكتافيو باث’ بالخصوص إلى ديوان الشّاعر ‘أبناء الغضب’ الذي أعجب به أيمّا إعجاب، وقال إنّ بعض أشعار ألونسو دامسو التي حفظها عن ظهر قلب منذ زمن بعيد وبالضبط منذ خمسين سنة لم تفارقه أبدا.

ألونسو في العربية
هذا وتجدر الإشارة أن دامسو ألونسو ربّما يكون قد نقل إلى اللغة العربية لأّوّل مرّة على يد الأديب المغربي الصّديق محمّد الصباّغ، وذلك عندما ترجم له ولحياته في جريدة ‘كتامة’ الملحق الأدبي ‘تمودة’ التي كانت تصدر بمدينة تطوان (المغرب) في الخمسينيات من القرن المنصرم (العدد 8 تشرين ثاني (ديسمبر) 1957).
بل إنّ الشاعر دامسوألونسو كانت تربطه صداقة متينة بالصبّاغ، حيث يتردّد إسم الشاعر الاسباني الكبير في العديد من كتابات الصباغ. وعلى إثر وفاة الشاعر دامسو سلمّ لي مدير مجلة ‘كتامة’ الأديب الإسباني ‘خاثنطو لوبث كورخي’ (وهو شاعر كذلك مغرم بالتاريخ العربي وثقافته) نّص أوّل ترجمة لإحدى قصائد دامسو التي تنشر لأّوّل مرّة باللغة العربية وهي من كتابه ‘الجمال الذي رأيت’ وتحت عنوان ‘تلك الزّهرة’ وهي من ترجمة الصبّاغ نفسه.
تقول هذه القصيدة:
تلك الزّهرة
كم من ملامح وألوان تحيى في أعماقنا عن طريق الذّكرى
تلك الزّهرة، زهرة الماضي التي كانت حسناء
التي تولد كلما أغمضت عيني في رفيف ظلامها،
أناديها فتهفّ وها هي ذي هنا
غلالتها السابحة ترسمني،
ببياضها المتداعي النامي في غصنها
الذي يكاد يكون مقتلعا
جمرتها الصفراء تشتعل في الظلام
وتظل ملتهبة أبدا. ولكن من أين أتت ؟
وفي أيّ رياض إشتعلت ؟ ومن أيةّ شمس نزلت ؟
وفي أيّ طفل إلتهبت ؟
يا لعصب الذكرى التي تعجّ بمحبّ وراء العقل
في سراديب متلاشية،
وفي كهوف عقلي المظلمة الثائرة على طيف الفضاء،
الذي يفرخ، حيث تتبلور الشعلة الصفراء الملتهبة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية