الراوي العليم والحضور الجديد

في السرد عملية حكي، وفيه أيضا عملية روي، وما بين الاثنين ثمّة نصٌّ يولد، قد يكون قصّة أو رواية.. وما بين جناحي النص ثمة مصطلحات وعمليات إنتاج وأدوات لعبٍ فنيّة وفكرة تتحوّل إلى روح، وكذلك شخصيات عديدة وصراع ومستويات سردية متعدّدة. كلّها بحسب تصنيف هذا الناقد أو الباحث الذي جاء عبر فهمه للنصوص من داخلها وخارجها.
ومن بين المصطلحات التي بدأت رأياً ثم تحوّلت إلى مصطلحٍ يتداوله النقاد وخاصة العرب والعراقيين وهو (الراوي العليم) الذي وجده الناقد الفرنسي جان بويون حين قام بتمييز أنواع الرواة في النصّ الأدبي، خاصة السردي منه، ووضع مصطلح (الراوي العليم) الذي يعني أنه يعلم ولديه المعرفة الكاملة بأحداث ومجريات ودواخل الشخوص وحتى الأفكار لدى هذه الشخصية، أو تلك في النصّ السردي. وصارت جملته (الراوي كلّي العلم) أكثر جملة يتداولها النقّاد عندنا، باعتبارها ليست دلالة على وجود الراوي، كما أرادها جان بويون، بل اعتبروها سبّة لا يمكّن أن تكون مقبولة في الروي والحكي معا.
ربما الأمر فيه صحة لما يذهب إليه النقّاد، باعتبار أن الحكي هو سرد الحكاية، كما كان في النصوص السردية حتى قبل تحوّلها إلى نصوصٍ حداثيةٍ حين ينتج الراوي المنيب عن الروائي منهجية تصاعد الحبكة، وتفاعل اللغة، والكشف عن آليات الصراع والانتقال ما بين العاطفي والعقلي، من أجل صناعة الدهشة، على أساس أن كلّ شخصيةٍ هي التي تتحدّث عن نفسها، كما هو الحال في الواقع الذي يشهد حكي الحدّوتة. وهو الأمر الذي ينطبق على الروايات الواقعية التي تتميّز بالغنى الحكائي الفني، الذي يختلف عن الكتابة الصحافية، التي تنقل الخبر الواقعي بلغةٍ صحافيةٍ تصاعديةٍ أيضا، لكنها واقعيةٌ بحتة، على العكس من الرواية التي لا بد من توافر عنصر الخيال وصنعة الحكاية وإن كانت مستلّة من الواقع.
إن الأمر ربما يكون قد اختلف بعد التحوّلات الكبرى في البناء السردي للنصّ الأدبي، بعد تداخل الأجناس وطرق الروي وتحوّلها من المحكي إلى المروي، ومن الحكاية إلى الفكرة، التي تتطلّب أن يكون الراوي حاضرا في كلّ شيء، من أجل الكشف عن الأسباب والمبرّرات والتحليل والقصد والنتائج، للوصول إلى التأويل. وهو الأمر الذي نجده موجودا في الكثير من الروايات التي اعتبرت مفاتيح النص الحديث، بما فيها روايات ماركيز، التي لو دقّقنا في الكثر من التفاصيل، وإن كانت مترجمة، لوجدنا أن هناك علْما للراوي في حيثيات لم تقلها الشخصية، بل كان الراوي هو الذي يعلّم المتلقّي بها، ويجعله يستسيغ هذه الشخصية ويتقرّب منها، ويفهم حالتها النفسية ومراميها وتصرّفاتها، ما يؤدّي إلى تبيان الكثير من الخطوط التي لو قالتها الشخصية لاعتبرت إقحاما، ولصار أفقاً سردياً تقريرياً خالياً من الربط. لذا فإن المنتج للنصّ ومن خلال راويه يريده كاشفا عن الأمور التي يراد لها الظهور، ومسلّطا عليها الضوء، كي تكون كاشفة لكلّ زوايا بستان السرد وحتى غابته بكلّ حيثياتها، رغم أن ذلك يعتمد على قدرة المنتج في إنتاج المتن الحكائي والمبنى السردي، الذي يكون في حالة مواءمةٍ ما بين الاثنين، لأن تقديم الفكرة في الاستنباط الأوّلي كبداية الغاية من إنتاج النصّ، لكنها لا بد أن تكون مع وجود حكايةٍ لها كلّ التفصيل، والمختلف هو طريقة الإنتاج وفهم اللعبة التي تقود هذا الإنتاج لكي يكون متميّزا مخالفا للسائد المتعارف عليه.
إن الإبقاء على فرية الراوي العليم، على أنها سبّة من قبل المنتج، وأنها تعد تدخّلا في الشخصيات والحركة، والسؤال الذي يتكرّر ويكون هو الحجة في طرحه، ما الذي أدرى الراوي أن الشخصية الفلانية كانت تفور من داخلها مثلا، أو أن حوارا لم يجرٍ كيف علم به الراوي. وغيرها من المواقف التي تحسب ضد المنتج السارد، ممّا يعد عيبا خلقيا في إنتاج النص، وأنها من مضاعفات الإنتاج التي تؤدّي إلى الوقوع في السلبية.
إن الأمر مع التسليم بما قيل حول الراوي العليم، أو كلّي العلم أصبح غير ذي فائدة، بل إنه أصبح واحدا من علامات الإنتاج السردي المتعلّقة بالفكرة التي يناقشها العمل، ومن أجلها أنتج النص، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الأمر ليس متاحا لأيّ طريقة إنتاج، أو من يقوم بالإنتاج، بل هو خاضعٌ لقدرة المنتج على صناعة النصّ وطرق اللعب على تفاصيله، أي المبدع الذي بإمكانه تحويل ما هو غير متاحٍ ليكون متاحا، لأن الراوي هنا تحوّل إلى شخصيةٍ محوريةٍ تشبه المخرج الذي يحرّك الأدوات، وليس كما يحرّك لاعب الدمى كما يردّد البعض. ولهذا عدّة أسباب موجبة:
-أن النص السردي/ الرواية في تحوّلها نحو الاهتمام بالفكرة، جعلت هناك مسوّغات لتدخل منتج النص السردي، من أجل ترسيخ، أو شرح، أو الكشف عن الفكرة من خلال توزيعها على مربّعات النص أو أقسامه.
– إن الراوي العليم سيكون واحدا من الشخصيات المرافقة للراوي، التي تحرّك الشخصيات الأخرى، ويكون واضحا في الأهداف والمرامي، من أجل عدم إفلات خيط الفكرة والوقوع في التيه.
– إن الراوي العليم هو قائد العملية السردية الذي يشير إلى هذه المنطقة، أو تلك، أو إلى ما مطلوب منه الإشارة إليه، سواء بوجود الحاجة إلى الاقتباس مثلا، أو ترتيب الأوضاع التي تدخل في النص، ويعمل على تصاعد الحدث دراميا وتفاعليا، بالتزامن والتوازي مع الفكرة من جهة، والحكاية من جهةٍ أخرى.
– إن التداخل الأجناسي وتفاعل هذا التداخل على صعيد الإنتاج للنصوص السردية، خاصة الرواية، جعل من الثوابت التي كانت تحكم النص الحكائي تكون متخلخلة وغير ضامنةٍ لنجاح الإنتاج، والتفاعل مع الحدث والقدرة على اللعب والمناورة في المتن الحكائي والمبنى السردي. بمعنى أن هذا التداخل تطلّب وجود ما لم يكن موجودا في النص، قبل ذلك كان يحتاج إلى وثائق.
– إن وجود الراوي العليم يعني منح منتج النصّ التهدئة النفسية والمتابعة الجيدة للأشخاص والحركات، ما يجعله متمكنّا من العمل في إدارة المواد الأولية لأفكار النص وحكايته، وهو الأمر الذي يعني عدم التقيد بمفاتيح الدخول الكلاسيكية، التي قيدت المنتج لسنواتٍ عديدة، كي لا يتّهم أنه يتدخّل بأفكار الآخرين وحركاتهم.
– إن الحرية التي يتمتّع بها المنتج في انتهاج طريقته الخاصة، تمنحه اتّساع الرؤية لكلّ ما هو قد يكون ناقصا، لو التزم بحيثيات طريقة البناء السردي التي تقيّده، وربما تصيبه بالخوف وتقلّل من فسحة الرؤية، وقد يصاب جرّاء ذلك بضيق الفحص، خوفا من الاتهام بالتدخّل مع الخصائص التي تتطلّبها عمليات النص.
– هذه الطريقة تمنحه القدرة على فكّ الاشتباك بين ما تريده الشخصية، حسب الحكاية، وما يريده المنتج بحسب الفكرة، والتي تجعله يوزّع الآراء على من يريد من الشخصيات، ما يجعله في حالةٍ جيّدةٍ واطمئنان، من أن الغاية ستكون مبرّرة لوجوده.
– الراوي العليم سيكون مرافقا لراوي النص السردي، ويكون إلى جانبه للعون على استنباط الرؤية، وخاصة في النصوص التي تتحدّث بطريقة المتكلّم، لأنه أي الراوي هنا سيكون من ينيب عن المنتج وسكون الراوي العليم مساعدا لراوي النص، لأن الروي المتكلم لا يبقى محصورا فقط في الشخصية الواحدة المتحدّثة الساردة الحكّاءة، بل هو بحاجةٍ إلى تفاعل الشخصيات الأخرى ومواقفهم وحتى تفاعلهم الداخلي والخارجي مع الفكرة، ما يعني تشكيل شبكة إنتاجٍ من أجل الحفاظ على قوامية النص، وعدم ترك الفراغات التي تتطلّبها عملية الإقناع للمتلقّي، أو يتطلّبها وجود هذه الخصّيصة المعلوماتية في هذا الجزء أو ذلك.
– وجود الراوي العليم لا يعني جعل الإنتاج متاحا له بطريقةٍ مباشرة، بل يمكن أن يكون قائدا، كما سيكون حكما ومراقبا من أجل تقنين عملية الاستطالة والشرح والإطناب في عملية الإنتاج من خلال التشذيب، سواء في العملية الإنتاجية، أو العملية النهائية التي ستكون وضع النصّ في غلافه الكتابي.
– إنه يعني الاتجاه نحو التجريب الذي يمنعه إنتاج النص الكلاسيكي، الذي وضع خطّا أحمر تحت الراوي العليم، فضاع تحت معطفه الكثير من الإشارات، وكذلك الانسياق نحو الالتزام بإشارات العبور إلى العملية التأويلية على حساب العملية القصدية التي أدت إلى إنتاج النص.
– إنه يعني التوجّه تحو استخدام لغةٍ قادرةٍ على كسر قوالب السرد الجامدة، والقدرة على إدارة لعبة الإنتاج، وكذلك وضع الشكل العام للنص، واختيار طريقة الإخراج التي تكشف الكثير من علامات التحوّل من الحكاية إلى الفكرة، ما يعني تسليط الضوء على هذه الجوانب غير المرئية في النص الحكائي، والكشف عن مميّزات النص الجديد.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية