الانشغال المكاني والسرد في رواية «سبع لفتات»

تشتغل رواية «سبع لفتات» للروائية التونسية حبيبة محرزي على ذاكرة المكان، ليكون هو الهدف الأسمى الذي انبنت عليه الرواية كفكرةٍ، وهو المآل الأكبر الذي انبنت عليه حكاياتها، ولذا فإن البوابة الكبرى في الرواية كان العنوان الذي يسمح بالدخول إلى مدينة الفكرة والحكاية، كون العنوان هو المهاد الذي تبدأ من حوله المستويات التدوينية، مثلما تبدأ منه الانتقالات في العتبات الأخرى التي تمنح نفسها لتكون مساعدا لمسك الأدلة كلها، لتكون الدليل الموصول إلى حيثيات الصراع، الذي احتوته الرواية من بدايتها إلى نهايتها. من خلال وجود ثلاث عتبات دلالية تشكل المغزى الخارجي، أو المحيط الخارجي، الذي ستسير حوله الأفكار والصراع والشخصيات.
أولها: العنوان حيث يشكل دلالة مكانية تدور حوله الأحداث، التي يمكن أن تفسر أو تقشر الدلالة للكلمة الثانية (لفتات) على أنها (لفات) وكما نقول في الأهزوجة الشعبية العراقية، واعتقد ما يتم ترديده في ألعاب الأطفال في البلدان العربية الأخرى، خاصة في المشرق العربي (سبع لفات) وما يرتبط بها في دوران الثعلب.
ثانيها: الإهداء حيث يشكل دلالة المحتوى العام، الذي تريد أن تناقشه الفكرة في الحياة والحكاية في الفكرة. ليكشف لنا كقراءٍ لأعمال محرزي واهتماماتها بالمرأة أو بصراع الحياة كلها، مكانا وزمانا مع المرأة لتكون قضيتها الأولى: (إلى كل امرأة ظُلمت. إلى كل رجل آمن بألا فرق بينه وبينها سوى أنها تلد العالم وتربيه معه).
ثالثها: المقدمة حيث شكلت دلالة زمانية تدور في رحابها الصراعات التي ترتبط بالإهداء من جهة، وترتبط بالميل لهذه الصراعات من جهةٍ أخرى. فالمقدمة هنا ليست عتبة للعبور، بل عتبة للمكوث عندها لمسك التاريخ، وربطه بما حصل في المكان. وهي تضع المستوى الإخباري في خانة المستوى القصدي في هذه المقدمة لتكون مهادا تاريخيا/ سياسيا/ اجتماعيا: (هذه الرواية هي عصارة مخاض فترة كانت مختلفة عن غيرها بأحداثها السياسية والاجتماعية والفكرية، فترة الثمانينيات التي ضجت بما سيكون له تأثير بالغ في الفترات اللاحقة، ولم أجد بدا من نبش هذه المرحلة بحلوها ومرها…..)
ومن هنا فإن هذه التشكلات الأولى هي مهادات أولى تعبر مرحلة أخرى من كونها عتباتٍ نصية إلى أبوابٍ للدخول إلى مدينة الرواية وسردها وحكايتها وفكرتها، لتصل إلى العتبة الرابعة التي ظلت هي عتبة ارتباط بين استغلال مقولةٍ لروائي ومفكر عالمي، وأن تكون هذه المقولة ارتكازا ومحملا لكي تتكئ عليها بنائية الفكرة الكلية، لذا كان ألبير كامو الذي وجدت فيه المنتجة/ المحرزي عتبة وقوفٍ للتأمل، أكثر منها تشكلات العبور إلى مدينة الرواية: (لا أبغض العالم الذي أعيش فيه، ولكن أشعر بأنني متضامن مع، الذين يتعذبون فيه).

تدرجات الاستهلال

تأخذ الرواية في ترتيب حكايتها على نحو 37 فصلا. الرواية في فصلها الأول تعطي أيضا مفاتيح الواقع السياسي… الدخول المباشرة في معترك المعادلات والدلالات الثلاثة. ومحاولة ربط الدليل بالمدلول. ولهذا كان الاستهلال عبارة عن هيكلية الدخول إلى العمق المباشر، دون تمهيدٍ لما قبل الحفر أو السطح الأول، الخطوات أو التمهيد الدلالي. والاستهلال هنا يلعب لعبة الصراع، مثلما يلعب لعبة تدرجات التدوين لما قبل ولما بعد: (الخميس الأسود الجو خانق. صفارات الإنذار تعوي. ضجيج وفوضى تخترقها طلقات نارية. فتحنا الأبواب نستفسر. صرخ ابن الجيران وهو يجري في اتجاه وسط المدينة (هي ثورة حتى النصر).
الاستهلال فيه فعل درامي.. يبدأ بمستوى إخباري يأخذ بيد المتلقي إلى التناقض في استحصال الدليل. والموافقة على الوقوف في المنطقة الوسطى بين المتن الحكائي والمبنى السردي/ خميس أسود/ يعني الحزن المليء بالاختناق والدلالات، سواء الرمزية، أو الإزاحة الدلالية أو المباشرة في التأويل. لتجد في المقطع الأول من الاستهلال جملة حصول ثورة على لسان شاب من المدينة (ابن الجيران) ليكون هناك ثمة تضارب يؤدي إلى صراع، بمعنى أن الاستهلال هنا دخل في أتون الحكاية والفكرة العليا، من أجل وضع المفاتيح الدلالية التي تفضي إلى عدة نقاط:
الكشف عن محتوى الرواية وما تريد مناقشته وما يؤدي الصراع في بدايته إلى عملية متابعة لماهية الثورة.
– جعل قبضة الحكاية تمسك بالمستوى الدرامي، ليكون هو الدلالة الكلية لما يرتبط فيها من صراعات أخرى بالتأكيد ستتشعب وتكون أدلة على الصراع بين الشخصيات.
– الإمساك بشبكة العلاقات التي تمنحها الحكاية الكلية، من خلال توزيع مهام الروي وإن كان الراوي واحدا/ واحدة.. وبالكشف عنها في الفصول الأخرى.
– إنه أي الاستهلال جعل من المستوى الإخباري هو الذي سيقود الحدث من خلال فعل التناقض بين السواد الذي يكشف الزمن ومتغيراته، والصوت الذي برز على أن المقبل ثورة، ليبدأ الصراع التدويني بين ما قبل وما بعد في التوليف السردي.
– الاستهلال الذي يستمر مع الصفحات الأولى، كشف لنا الصراع العائلي، مثلما كشف الخوف من المجهول بسبب الواقع السياسي، لذا كان السرد يأخذ على عاتقه تبيان العلاقة بين الداخل/ العائلة/ والخارج الذي يمنح الخوف: (أمي أحكمت إغلاق الباب بالمفتاح من الداخل، ودسته في صدرها، كي لا يلتحق إخوتي بالجماهير التي اصطدمت بالقوى الأمنية في وسط المدينة).
– إظهار الخوف على أنه المعادل الموضوعي الذي يبدأ من اللحظات الأولى، ويستمر حتى نهاية الرواية، لكنه في الاستهلال، أو في القسم الأول انشطر الخوف إلى نصفين. خوف الخارج الكلي من نتائج (الثورة) والخوف من اندفاع الأخ: (لكن أخي الصحبي ليس في فراشه. أين هو؟ أرج أخي الأوسط، أسأله عنه، فيفرك عينيه بيديه وفمه يشقشق بكلمات غير مفهومة، ويغرق في النوم من جديد).
– إن الاستهلال يكشف أن الفكرة هي مناقشة الواقع السياسي بكل تسمياته التي سيتم الإعلان عنها لاحقا، والكشف عن مدى تأثير هذا الواقع الذي تعيشه العائلة، التي تمثل المجتمع، على المتغيرات التي تبقى هي المخفية والمخيفة في النتائج، بمعنى أن المتلقي سيبقى يطرح سؤالا، لماذا الثورة ومن هم الضحايا والأبطال.

المستويات السردية

المكان هو المحور ، وعليه تدور بين الصراع والفعل الدرامي، لذا فإن اللعبة لديها هي الأخذ بعنوان المكان (القيروان)، والواقع الذي تعيشه المدينة كأنموذجٍ للوطن الكلي. ولذا فإن المنطقة القيروانية، التي وردت في الرواية سبعا وعشرين مرة، تزخر بهذه اللفتات السبع، التي تشبه متاهات لمن لا يسكنها ولا يعرف دروبها، كما حصل لي شخصيا حين زرت المكان الذي كان مسرحا للرواية. لكنها بالنسبة للروائية التي تعلن إنها من هذا المكان توصيف جميل يعطي المستوى السردي قيمته الدلالية، مثلما يعطي مغزاه القصدي في اختيار المكان.
(أزقة ضيقة ومتعرجة. ستكون خير مأمن لي. أعرفها وتعرفني. خطواتي منقوشة على الأرضية الحجرية، وأنفاسي تتردد هنا وهناك. لن تكشفني. أتوغل فيها. أتجاوز الأولى والثانية والثالثة. أتسمر في الوسط). لذا كانت المناورة بين حالتين تأخذ أحدهما بيد الأخرى:
أولها: التفاعل الذي يؤدي إلى نضوج الفكرة والمسارات التي تتخذها في تبويب الصراع، فضلا عن توزيع مهامها على الفصول.
وثانيها: التنامي الذي يؤدي إلى تصاعد الفعل الدرامي للحكاية، التي تحتاج إلى شخوص وفعاليات تتوزع بينها وعليها إلهام الكلية لمناقشة الفكرة. ولهذا فإن المستويات تتوزع عليها خريطة السرد الروائي:
المستوى الأول: هو المستوى الإخباري الذي يكون هو المهيمن في أغلب الروايات، كون الرواية عملية إخبار عن أمرٍ أو واقعةٍ أو استلهام جزءٍ من واقع. لكنه هنا في الرواية كان المستوى الإخباري عبارة عن عصا تشير بها الراوية إلى مواضع الفعل الاجتماعي والتاريخي للمكان والفعل السياسي الذي يحرك المسامات الكلية، لذا فإنها كفكرةٍ تناقش المكبوت من أجل إظهاره، وأنها حكاية تناقش التمثلات وصراعتها، لتتوحد الرؤيتان وتشكلان بالمجموع صرخة ليس من الناحية السياسية، أو التأييد أو الرفض للثورة، كما جاء في المقدمة، وأيضا من أجل أن يصل صوتها إلى الآخر، من أن المرأة أساس المجتمع حتى لو كان على شكل سؤال مخاتل: (لكن المرأة فيك مجرد ابتلاء تنصاع وهي مقيدة بمتاريس الجهل والعداء. اليوم بدأت أُعِد حلبة صراع منفردة، فلمن ستكون الغلبة؟).
المستوى الثاني: هو المستوى القصدي المرتبط بثيمة المرأة، واضحا من خلال ربط الصرخة بالمكان أيضا: (نساء ورجال يجلسون يتحدثون يدخنون. في القيروان المرأة محكوم عليها بالاختفاء، كي لا يلوكوا سمعتها ويشيروا إليها بأصابع الاتهام).
المستوى الثالث: هو التصويري الذي يعطي المهمة للمستوى الإخباري أن يكون بقوامٍ قادرٍ على توضيح التفاصيل، من خلال الفعل الذي تمنحه اللغة بصورتها التشكيلية، بمعنى أن هذا المستوى لم يأتِ من أجل الوصف الكلي عبر اللغة، بل كانت الجملة الإخبارية تحمل معها هذا المستوى ليكون ظاهرا في الاستدلال على المتن الحكائي والمبنى السردي والعكس صحيح، وهو مستوى يكون أيضا كاشفا للصراع الذي تريد المنتجة استمراره، من أجل الاستمرار بالتدوين الحكائي: (هذا لا ينفي أن تدب الخلافات بين الطالبات، بنات الجهة نفسها وأحيانا تتحرك الجهويات، فقد ينشب الخلاف بين بنات الشمال وبنات الساحل، أو أن بنات صفاقس لا ينسجمن مع بنات الجنوب. فالطباع تختلف، واللهجة نفسها تحدد الجهات وقد تكون سببا في خصومة قد تصل إلى حد تبادل العنف بينهن).
المستوى الرابع: هو المستوى التحليلي الذي يأتي عبر خاصيتين ترتبطان ارتبطا كاثوليكيا في هذه الرواية .
الأولى: خاصية الشخصيات التي تقود الأحداث ومنها، الشخصية الرئيسية التي تسرد الحكاية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، لتكون كل شخصيةٍ هي المسؤولة عن التحليل الذي تبتغيه.
الثانية: خاصية الحوار الذي من خلاله تعطي الشخصيات ماهية أفكارها ومهادها ومآلها وما تريد الوصول له وإليه.
هذه الرواية ليس مكانٍ عزيزٍ على الكاتبة، باعتباره مكان جذورٍ فحسب، بل هي رواية الفعل السياسي الذي ينبثق من فعل المكان وتأثيره وأثره الكلي. مثلما هي الرواية التي تأخذ بفعل الخوف على أنه المسيطر على المجتمع، وإن كان يريد التغيير، مثلما هي الفكرة التي تحمل نزعتها في الانتصار إلى المرأة: (وإذا كان الأمر كذلك، أليس الأفضل أن أنجب من تؤنس وحدتي وأعيش من أجلها؟ أمنيتي أن تكون بنتا. سأعكس قانونهم. سأزيدهم أنثى متمردة. سيتكاثر العصيان) والتي كانت هي خلاصة ونهاية الرواية.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية