الدبلوماسية القذرة: أفعى تلتف حول العالم

يفضح كتاب جيرمي سكاهيل “حروب قذرة – ميدان المعركة العالم ” خروج صاحب القرار الأمريكي عن أي مألوف إنساني يمكن الركون إليه ، فأمريكا تخوض حروبا سرية إلى جانب حروبها المعلنة، إجرام منظم لا يراعي أي حرمة بحق أفراد أو جماعات أو دول ، أو قيم ، فهي تدوس بالأقدام الملوثة في المياه السوداء، على مواثيق الأمم المتحدة وغير المتحدة ، وعلى كل لوائح حقوق الإنسان ، وكل ملاحقها ، وعلى كل المقدسات الإنسانية ، إنها لا تعبأ بشيء ، سوى مجاراة نهمها المرضي للسيطرة والنفوذ وما يغذيها من تفوق في التسليح والثروة.

الإرهاب العالمي

حروب أمريكا القذرة ضد ما تسميه الإرهاب العالمي، ماهي إلا حروب ملفقة لتثبيت دعائم إمبراطوريتها المتسيدة على العالم، حربها ضد أفغانستان والعراق والصومال واليمن، نماذج متدحرجة ، تقول لكل الممتعضين ، إن دوركم آت ، فلا تفعلوا ما يقرب هذا الدور!
للكاتب الصحافي والسياسي الأمريكي المبدع نفسه جيريمي سكاهيل، والذي نال تقدير واحترام كل الباحثين عن الحقيقة في عش الدبابير، من أمثال الأكاديمي والمفكر الأمريكي اللامع نعوم تشومسكي والذي وصفه أنه ” إنجاز نوعي يحتوي على تحقيقات صحافية مذهلة” كتاب كان قد صدر له قبل “حروب قذرة” ذا صلة بعنوان “بلاك ووتر أخطر منظمة سرية في العالم” ، يزيح فيه الستار عن هذه المنظمة الحرباوية التي تتخادم مع الحروب العلنية وما بينهما من أواصر مطاطة !
للحروب القذرة دبلوماسيتها “نماذج”:
– أجابت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بيل كلنتون، عن سؤال حول وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار الجائر على العراق: أنه أمر صعب جدا لكن الثمن يستحق ذلك !
– كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في عهد جورج بوش الابن كان قد حضر الى اجتماع مجلس الأمن الدولي بهدف انتزاع موافقة المجلس على دخول العراق بالقوة لتجريده من أسلحة الدمار الشامل التي يخفيها ، وأحضر معه مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك ، جورج تينيت، وقد جاء بأنبوبة فيها مسحوق أبيض ، مدعيا أنها عينة من الأسلحة البيولوجية التي يخفيها النظام العراقي، وكانت أدلته غير مقنعة وساذجة وأثبت التاريخ أنها مجرد أكاذيب ملفقة، يراد بها الضحك على ذقون أعضاء مجلس الأمن الدولي، كان الموقف يدعو للسخرية، ويفضح أنهم لا يكذبون فقط وإنما يصنعون الأكاذيب !

التنصت المخابراتي

– قدم باراك أوباما اعتذاره إلى قادة الدول الأوروبية الحليفة لأمريكا ، بسبب فضيحة التنصت المخابراتي الأمريكي على مكالماتها التليفونية ، هذه الفضيحة المدوية التي سربتها، ويكيليكس، هي دليل دامغ على أن الإدارات الأمريكية لا تثق بأحد وأنها تتآمر على الجميع وليس لديها مانع من استخدام كل الوسائل القذرة لتحقيق مآربها !
– ليقتل كل أهل الغزة ، مادام هدف القضاء على حماس سيكلف ذلك، إسرائيل تتصرف على هذا النحو عندما لا تجد في شريكتها وراعية جرائمها ، أمريكا ، سوى الدعم والإسناد وعدم الاكتراث لزهق الارواح البريئة !
– ثلاثة عشر صوتا من أصل خمسة عشر في مجلس الأمن يصوتون لمصلحة قرار لوقف إطلاق النار في غزة ، حتى فرنسا صوتت لمصلحة القرار ، حتى بريطانيا لم تقف عائقا فهي قد امتنعت عن التصويت ، أمريكا لوحدها تمنع صدور القرار بفيتو منبوذ ، يعكس قذارة السياسة الأمريكية ودبلوماسيتها إزاء الحقوق المشروعة للشعوب المغلوبة على أمرها علما أن أكثر من مئة دولة قد أيدت القرار وتليت أسماؤها على مسامع المجلس ، وقد سبق التصويت خطاب غير تقليدي من الأمين العام للأمم المتحدة شرح فيه تهديد استمرار الحرب على غزة للسلم والأمن الدوليين ، وطرح تفاصيل مروعة ، لا يمكن معها السماح باستمرار الحرب فهي حرب إبادة من كل الوجوه ، ولا ينفع معها هدن إنسانية مؤقتة .
المندوب الأمريكي يكرر في خطابه بعد انتهاء التصويت ، ذات المبررات المراوغة ، حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ، مع مراعاة المدنيين ، وكأن التنكيل بحياة أكثر من مليونين من البشر وقتل الآلاف من الأطفال والنساء وتدمير ثمانين في المئة من البنى المدنية في غزة هو ثمن مستحق باطراد ما دامت إسرائيل لم تشف غليلها بعد من دماء الفلسطينيين !
– بلينكن وزير الخارجية الأمريكية شريك في مجلس الحرب على غزة ، هو لا يدخل إسرائيل كضيف أمريكي وإنما كيهودي لا يفكر إلا بمصلحة إسرائيل !
توارد الخواطر تتوالى على الذاكرة ، وفي أماكن وأزمان مختلفة لكنها تحمل ذات المعاني ، الجرائم الأمريكية العابرة لكل الحدود ، فاقت النازية ، وهي متواصلة ولا سبيل لوقفها الا بفضحها ونبذها.

الوسائل الشريرة

عرفت الحرب أنها سياسة بوسائل عنيفة، وإذا كانت غايات تلك السياسة رشيدة وخيرة ، فالمحتم أن تكون وسائلها رشيدة وخيرة ، والعكس صحيح ، فالغايات الشريرة ستحتم الوسائل الشريرة، وعالمنا حافل بأفراد وأحزاب ودول، يجدون في الميكافيلية ضالتهم ، فمن أجل السلطة والتسلط ، تبرر كل الوسائل ، بما فيها الحروب القذرة ومؤامراتها.
مثلما هناك حروب قذرة ، وأسلحة قذرة ، تحتوي على قنابل وذخائر قذرة ، فإن هناك دبلوماسية قذرة ، تعكس تلك السياسة ، التي تستخدم تلك الحروب وأسلحتها وذخائرها لتحقيق الأهداف والمصالح الأنانية للدول صاحبة الشأن ، بوسائل مدمرة ، خارج أي اطار من الشرعية القانونية أوالدولية أو الأخلاقية والإنسانية ، وهي تضفي على مراحل أنشطتها تلك ، من تخطيط وتمويل وتمهيد واستعداد ، طابعا من الأغلفة الذرائعية التي تبرر سلوكها وتشرعن ما تقوم به مستخدمة كل وسائل التزوير والتدليس وقلب الحقائق ليكون واقع التنفيذ أمرا واقعا لا يستدعي سوى الخضوع إليه ، انطلاقا من هجوم الصدمة والترويع ، أو هجوم الاحتواء ، أو هجوم الفوضى الخلاقة ، لتنطلق معه الترتيبات المبرمجة لاستيعاب تداعيات الحدث من كل جوانبه وبالقوة ، الخشنة تارة والناعمة تارة أخرى .
للوهلة الأولى لا يبدو من اليسير تمييز الدبلوماسية القذرة عن سواها ، لاسيما وأن مجال الدبلوماسية تحديدا هو الوجه الظاهري من العلاقات السياسية بين الدول ، والتي يغلب عليها طابع التزويق والتلميع والمداهنة ، وأحيانا التلميح والتوبيخ والتهديد ، لكن معرفتنا المسبقة بسياسات الدول وانشغالاتها ونزاعاتها يسهل المهمة .
لم تكن دوافع وودرو ويلسون ، للدخول إلى جانب الحلفاء في حربهم ضد ألمانيا ومن معها بريئة، بل كانت غاية في الخبث والتآمر ، وكذلك المبادئ المموهة التي طرحها في مؤتمر الصلح في فرساي عام 1919 ، رغم ترحيب الحركات الاستقلالية حول العالم بها خاصة في إشارتها الى حق الأمم في تقرير مصيرها ، كان التخوف من الثورة البلشفية هو عصب التحرك الأمريكي ، لأنها هزت الجميع فهي دعت للصلح مع ألمانيا ، وتم الصلح فعلا ، وهذا ما أخاف الحلفاء ، وهي فضحت الاتفاقية الاستعمارية السرية ، سايكس بيكو ، وهذا ما حفز شعوب الشرق للثورة ضد البريطانيين والفرنسيين ، ومعنى هذا أن هناك خطرا محدقا بقوى الحلفاء ، وإذا تفوق الألمان بدعم روسي ، فإن الضرر بالمصالح الأمريكية سيكون واضحا في أوروبا وفي المكسيك ، خاصة وأن أمريكا تطمح إلى الانتشار والتغلغل كبديل متجدد عن الامبراطوريات الأوروبية ، لذلك كان التدخل الأمريكي في الحرب الأهلية الروسية لمصلحة الجيش الأبيض الذي يقاتل جيش الثورة الروسية الأحمر، وهذا دليل على القلق الأمريكي المتزايد من روسيا وامبراطوريتها السوفيتية، وهذا ما سنتلمسه لاحقا بتشعبات الحرب الباردة ، بعد أن أجبر الحلفاء على تقبل التحالف العسكري مع روسيا في مواجهة النازية الألمانية.
لتأتي الكيسنجرية بعدها ، وتمارس دبلوماسية قذرة من نوع آخر، جدار صد ضد التأثيرات المتراكمة للدول الشرقية، الاستثمار بالخلاف الروسي الصيني ، قطع الطريق على تمرد أمريكا اللاتينية ، كوبا – الحصار القذر ، الأرجنتين – دعم إرهاب الدولة بحرب قذرة على قوى اليسار والبيرونية ، في شيلي الدفع باتجاه انقلاب عسكري دموي .
هذه حالة الدبلوماسية القذرة لسياسة الهيمنة الأمريكية حول العالم ، ومازال الحال على المنوال نفسه، لكن دوام الحال من المحال.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية