الحَنين المُطْمَئِنّ

الحَنين المُطْمَئِن، هو ذلك الانفلات بين فضاءين منغلقين.
الفضاء المنغلق لا يؤذن بالعبور، والتسلّل لا يأبه به الغرباء.
والانفلات توق الحريّة إلى تحقيق كينونتها في المحتمل الإنساني. هو شغف الخطوط في الانزياح عن مسارات لم ترسمها، وقد ضجرت منها.
حكم الضجر، رسم الآتي بأقلام تعبت من لعبة التوقّعات وآثرت ملء الثغرات بالظلال.
الحَنين المطمئنّ، هو الإقامة في الوجوه المؤّجل رسمها، حيث لا سلطة للأشكال والأنواع والألوان إلى ما نحنّ إليه، هو العبور في السديم نحو نور لا تعيقه المسافات، هو السهوة المتكاسلة عن موعد صحوتها، والعزف مع سمفونية الخريف لشوبان في عذوبة نغماتها عبورا الى عالم اللأشكال.
أن تكون الطريق لهوتك، وليس ما على جنبيها، أنت في حال استكانة الروح.
أن تعتزل ربط الصور بأسبابها ومسبّباتها، أنت في حضن المدى.
أن تبطل فكرة المنتمي واللامنتمي، أنتَ في حضرة الطمأنينة.
القفز فوق اللغة، فوق التأويلات والإمكانات والاحتمالات، القفز بطمأنينة الواصل إلى مشتهاه، شغف القفز في الرحلة، من دون أن تأبه إلى ساعة الوصول، أنت في سكينة المقام.
الحنين المطمئن، هو القبول بكلّ ألبوم الصور، صورك صغيرًا بلا أسنان، وقد خبّأتها تحت الوسادة، تميمةً فيها تحقيق الأماني، مع عينين لا تشبهان عينيك، مع ندوب طوت فيها صمود الأبطال المرتبط بوجع المثال في حكايات ما قبل النوم. هو السكن في اللافتات التي أعلَنت يومًا عن منتجات ما عادت موجودة، إلا في ضحكة مصنّعيها.
الحنين حركة تشدّ إلى ما كان، والحنين المطمئنّ حركة تعيش في السكون، ذلك السكون المعتّق بالراحة، كضمّة الأبديّة، تلك التي تعطي أمان حضن الأم في ضمّته الأولى والأخيرة وما بينهما، ذلك الحضن الذي لا يمكن أن ننفصل عنه ولو شبّه لنا ذلك.
أمّا الحنين غير المطمئنّن فهو ذلك الماء الذي نكثر منه فنغرق، ونشرب منه فلا نرتوي، هو كالأرض التي تلفظ أبناءها لأنّهم غادروها، فلا الهروب منها يداوي، ولا البقاء فيها ينمّي..
الحنين غير المطمئنّ، يشبه النوم في بئر عميقة، بانتظار أخوة يوسف، لإعادة فصول جديدة، تغيّر مصائر كثيرة.

الحنين حركة تشدّ إلى ما كان، والحنين المطمئنّ حركة تعيش في السكون، ذلك السكون المعتّق بالراحة، كضمّة الأبديّة.

تَناظُر الأصيلين في حوار العمر يغدو حكاية الآتي من الأيّام: أصالة الحدث في زمان حدوثه، وأصالة الأشخاص المكوّنة للحدث في صورتهم المحفورة في القلب والروح، مع كلّ محمولاتها، ومفاعيل هذه المحمولات، والحواس في استقالة مسبقة قبل الطرد، لعدم الحاجة، والحنين مطمئنّ إلى مرجعياته الخالية من الأنساق والمفروضات والموجبات، مطمئنّ إلى القلب في صدق تفاعلاته وانفعالاته، مطمئنّ إلى العودة في صدى نداءاتها ودعاءاتها، ولا سلطان للأمكنة، فهي تُستحضر عند استدعائها بلا اعتراض، وكأنّ الأمكنة تلك الجغرافيا السائلة الذي يُوضّب إكسيرها في قنينة، وفلّينتها في إمرة صاحبها الخبير في تبادل الأنخاب، هذا الإشباع الذهني والبصري الذي يحترفه الحنين، هو النخب الذي يرفع، وقالب الحلوى في غفلة المحتفى به مع بقعة من كريما مشاغبة على أنفٍ يمدّ رأسه من نشوة الفرح،
هو تلك الوقفة أمام كشك لبيع منقوشة الصعتر، تأتي به إليك كلّما رأيت منقوشة أو شممتها،
تلك القصاصات الورقية المشلّعة من أكثر من صحيفة، لتكمل وجهًا أضاعته السنون، لتكمل نصًّا تركه كاتبه للزمن كي يعطيه صورته الأخيرة، تلك القصاصات التي تتنبّأ بالحنين المعتّق بحكايا لن تتوّج بلقاء أو بقاء، كوجوه رسمت من ظلال.
الحنين المطمئنّ؟ محطّة بين طريقين، أو عنوان لنصّ تُرك لنا حريّة إكماله، أو فلنقل خلوة بين نضالين، وفي كلّ الأحوال نعود إلى الانفلات بين فضاءين، ما عُلم منه مضى، مقرونًا بالحنين، وما لم يعلم منه يكتب بأحرف من ظنّ وأمل وعبث.

٭ كاتبة لبنانية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية