«علمتنا الحياة»… نماذج من التفكير اللبناني بكل تعقيداته وتطلعاته

صدر حديثا للإعلامي جورج طرابلسي (مسؤول الصفحة الثقافية في جريدة «الأنوار» على مدى عقود)، كتاب «علمتنا الحياة» جمع فيه 365 مشاركة من لبنانيين على اختلاف أعمارهم ومهنهم وخلفياتهم الفكرية ومكانتهم الاجتماعية.
يكتسب هذا الكتاب أهميته الكبيرة في أنه مرآة تعكس اختبارات الوجدان اللبناني في عمق تفكره أمام واقعه، انطلاقا من ماضيه وتاليا آليات تطلعاته نحو الآفاق الجديدة التي يمكن أن يحملها المستقبل. أن يكثف المرء ما تعلمه طوال حياته، في عبارة أو اثنتين أو ثلاث عبارات، ليس أمراً سهلاً، لكن الأولوية في الانتقاء، تعطي خلاصة تجربته بعداً جديداً، تجعلنا نقف بإجلال واحترام أمام ما تكتنزه من حكمة، يمكن أن تضيء على الواقع اللبناني، في أطيافه كافة، وعلى امتداد جغرافيته المزينة بفسيفساء المشارب الفكرية والثقافية والدينية المتعددة.

بين المعاناة اللبنانية الواحدة ولحظات التجلي

هل تجسد هذه المشاركات التأملية اختبارا وجدانيا وفكريا حقيقيين ناتجين عن احتكاك بالواقع، سبقته تأملات حثيثة أنتجته؟ أم هي مجرد لحظات في صفوة التأمل بعيدة عن إمكانات تحققها؟
يظهر التفاوت جليا في طبيعة المشاركات في هذا الكتاب، وهذا أمر طبيعي إذا ما أخذنا بالحسبان ثقافة الأولويات التي تميز كل فرد من المشاركين، ولو أنهم جميعا ينتمون إلى وطن واحد، ويختبرون المعاناة اللبنانية الواحدة، على امتداد مساحة لبنان من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، مرورا بمتنها وبقاعها ووسطها، إلا أنهم من ميادين علمية مختلفة، على تفاوت في الأعمار، ومعظم الذي استُكتبوا هم بين العقد الرابع والتاسع، مع وجود عدد قليل في العشرينيات، أي هم الذين جايلوا الحرب اللبنانية وتبعاتها، ومنهم من عايشوا أسباب اندلاعها والمرحلة الذهبية اللبنانية.
تشكل هذه المشاركات ردا على سؤال الإعلامي جورج طرابلسي معد الكتاب، ماذا علمتك الحياة؟ وبما أن عدد الأسطر محددة بين السطرين والثلاثة أسطر، كان لا بد للمشاركين من التكثيف، كذلك إعلاء فكرة على حساب أخرى. لذلك، تأتي هذه القراءة في النصوص أقرب إلى قراءة التوجه الفكري والإنساني عند اللبناني، في وقفة أمام مسيرته الطويلة، ليست وليدة لحظتها. وتغدو هذه النصوص، في تكثيف اختباراتها، أقرب إلى توليفة، لا هي خاطرة، ولا هي حكمة ولا هي تأمل ولا هي رأي.

نص النسيج اللبناني والنصوص الفردية

لن أدخل في التعريفات عند حافة المصطلح في تحديد النوع الأدبي، خاصة في زمن «هجرة الأجناس الأدبية» لكننا أمام نصوص، نظلمها إذا صنفناها ضمن الخواطر، لأنها ليست آنية وليدة لحظتها، ولا هي حكمة، لأن نسبيتها تجعلها حكما خاصا، وليس حكما عاما، خاصة حين ندرك تعارضها وتناقضها في مقابلة أخواتها، كذلك لا نستطيع أن نطلق عليها تأملا، ولو أنها نصوص تتأمل في محطات الحياة الكثيرة التي اختبرها أصحابها، وقد شاء معد الكتاب، أن يكون المشاركون من أجيال مختلفة، لأنهم يمثلون عصرنا الحالي بمختلف شرائحه العمرية، وتاليا تتيسر إمكانية المقارنة بين رؤيتهم إلى الحياة والكفاح فيها وسبل عيشها ومقاربة هذه الرؤى، كل من منظور خبرته، أو ما سمحت به الحياة أن يختبره، وما سمحوا به لأنفسهم، اختبارا والمرونة التي يتمتعون بها إفصاحا.
كذلك لن ندخل في دراسة جمالية الأقلام، لأن غائية الكتاب في مسعاها الفكري لا تحتمل مجال التنافس البلاغي، ولو أن قسما كبيرا من المشاركين هم من أصحاب الأقلام والأكاديميين والإعلاميين والمربين والمثقفين والأطباء والمهندسين وأصحاب المهن الحرة، على اختلاف نسيجهم اللغوي وأسلوبهم في بناء الجملة وتركيبها، ومعجم كلماتهم والبناء الفني لنصهم، وكيفية استلهامهم أساليب التراث الفنية أو الحداثة. لتبقى الأنا الفردية، بمنزلة الشريان الذي تمر به تجارب الذات الساردةِ، خلاصةَ مسيرتها واقتناعاتها المتحصلة عبر السنين، بأسلوبها وبصمتها الخاصة، ضمن مجتمعها الذي كونت ذهنيتها في بيئته.
لذلك، هذا الكتاب هو نص كبير، وهذا النص الكبير هو مجموعة نصوص صغيرة، يشكل كل منها عالما بحد ذاته. إذن نحن أمام نص هجين يخلط الذاتية بالموضوعية والواقع بالممكن والخيال بالذاكرة والموروث الديني والاجتماعي بالعصري والسائد. نحن أمام نص يمزج السرد بالوصف لمسيرة حياتية في محطتها الراهنة. وهذه النصوص الصغرى هي كائنات لغوية، أجل، لكنها أيضا كائنات اجتماعية تحيا في الضوء والظل معا، تحمل خطابا لا يُقرأ بعيدا من إرثه الطويل، نصوص تحمل فرادتها بصمة، في مقابل تكونها نسيجا يتماهى والمجتمع اللبناني في عمقه الضارب في موروثه الاجتماعي والديني معا، يقدم صورة لبنان المعاصرة.

ليس سهلا أن يكتب الإنسان ما علمته الحياة، لأنه حين يستعيد ماضيه، في أصعب لحظاته وأكثرها صراعا بين المثال وما يحتّمه الواقع، فهو أمام امتحان الخلاصة، والخلاصات لا تحتمل التداعيات والاستطرادات، ولا تشتت الموضوعات، لذلك نرى أن معظمهم يصورون التفكك من أجل التشبث بقيم تتمثل بالانسجام والائتلاف.

التوق إلى الطوباوية والواقع المغاير

هل هذا النص هو نص الواقع المعيش؟ أم هو نص التوق إلى عالم المثال مع الاعتراف الباطني بعدم إمكانية عيشه، وضرورة إحيائه في الضمير الإنساني؟ يحضرني هنا ما افتتح به الفيلسوف اللبناني مشير باسيل عون كتابه النقدي «أهؤلاء هم اللبنانيون؟» في التحري عن طبائع اللبنانيين: «يعاتبك عاشقو الهوية اللبنانية على واقعيتك الصماء، ويحثونك على التطلع إلى قمم المثُل التي ينهض عليها لبنان في أبهى رسومه المتألقة. فتحتار ويتنازعك ضربان من الشعور المربك. فإما الركوب المريح في مركب المثاليات، والإعراض عن انسدادات الواقع اللبناني، وإما الالتصاق المرير بوقائع التاريخ اللبناني وانعطاباته والانسلاخ عن مراقي الرجاء المتوهجة بأجمل الوعود اللبنانية».
يعرض كتاب «علمتنا الحياة» نماذج من التفكير اللبناني بتشابكاته وتعقيداته، وما ينطوي على عناصر متناقضة تجعل القارئ يعيد التفكير في هذا النسيج المنتمي إليه، هذا المجتمع المتعدد بانحيازه مرة إلى تمجيد العقل، ومرة إلى تمجيد المشاعر الإنسانية. كذلك تحكم هذه المشاركات منظومة من القيم التي تجعلك تثمن هذا التوق الواضح إلى الطوباوية عند اللبناني، على مستوى التنظير والثغرة على مستوى تطبيقه في حيز الواقع. إذ أجمع معظم المشاركين على تمجيد العزة والكرامة في عيش تفاصل الحياة، ورجاء التسليم بحلوها ومرها، مع تثمين التضحيات حسبانها قدر أصفياء القلوب ومحبي الحياة والكشف عن جمالياتها، وأن الفرح الحقيقي لا يتم إلا بالتشارك الكياني مع الآخر، وأن التواضع من معايير الوعي الإنساني، وهو سبيل إلى الفرح. وأن الحياة لا تكتسب معنى وجودها بالحرية في ارتباطها بالمسؤولية، وأولى خطواتها، فعل التحرر عبر العقل، التحرر من أسر الماضي وهمومه، لكنه تحرر لا يبتعد عن أصالة التراث، حتى نكاد نلمح في بعض النصوص تناقضأ يجعلنا في التباس المعنى أو التباس القراءة.

ظاهرة الاقتباس من الموروث والتسليم مقابل الكفاح والتحدي

ثمة ظاهرتان تشيران إلى ضرورة التوقف عندهما في هذه النصوص، وهي ظاهرة الاقتباس من أجل تمجيد القيم، وظاهرة الكفاح مقابل التسليم أو العكس،
ما يطرح جدية التساؤلات الآتية: لماذا آثرت شريحة كبيرة من كتاب هذه النصوص الاقتباسَ من الكتب الدينية، ما يُفترض أن يكون اختبارهم الشخصي بلغتهم الخاصة؟ لماذا بدّلوا مساحة تعبيرهم الخاص باقتباسات من الكتب المقدسة للأديان التي ينتمون إليها؟ خاصة تلك التي تمجد القيم الروحية والاجتماعية؟ دون أن ننسى تلك التي تعمل من أجل الآخرة؟ (أولئك قلة في هذا الكتاب لا يشكلون ظاهرة في حد ذاتها). ولماذا لجأ قسم كبير منهم أيضا إلى الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة المتوارثة شفاهة أو كتابة؟ كذلك ظاهرة الاقتباس من بعض القصائد الحكمية؟ أما الأسئلة الناتجة عن الظاهرة الثانية، فهي أسباب أو دواعي الكفاح المستمر بعد انتهاء الحرب، والعيش في ظل دولة ديمقراطية، حيث يفترض أن المواطنين يعيشون في أمان وسلام؟
ليس سهلا أن يكتب الإنسان ما علمته الحياة، لأنه حين يستعيد ماضيه، في أصعب لحظاته وأكثرها صراعا بين المثال وما يحتّمه الواقع، فهو أمام امتحان الخلاصة، والخلاصات لا تحتمل التداعيات والاستطرادات، ولا تشتت الموضوعات، لذلك نرى أن معظمهم يصورون التفكك من أجل التشبث بقيم تتمثل بالانسجام والائتلاف. هم في معظمهم يصورون لايقينيةَ ما ينتظرهم في الواقع المتقلب، وعدم ثبات ما يحيط بهم، مقابل الثبات في التسليم الكلي للمشيئة الإلهية، وأقتبس أيضا من عون: «الوجدان هو الموضع الذي فيه يحس الإنسانُ بنفسه وبحقيقة أفكاره وأقواله وأفعاله. ومن أغرب غرائب الدنيا أن اللبناني عاد لا يُحس شيئا في وجدانه، ولكأنه أراد لهذا الوجدان أن يتعطل، أو ارتضى تعطلَه على وجه الإكراه. والمعلوم أن مصيبة المصائب تكمن في تعطل الوجدان الذاتي. فاللبنانيون ذاقوا في التاريخ القريب والبعيد الأمرين من أنفسهم ومن الآخرين، فأحسوا بلوعات كيانهم إحساسا حادا بلغ بهم إلى حدود انعدام الإحساس. فإذا بوجدانهم اللبناني يتعطل رأفة بهم وبقدرتهم على الإحساس الإضافي».

وجدان الكثرة ووجدان القلة

وكأن الوجدان الاجتماعي والفكري عند اللبناني لم يخرج من هالة التسليم الإلهي، فجاءت قلة قليلة متمردة تعلن راية الشغف بالحياة، والإقبال عليها حبا وفرحا وغوصا، مقابل تمجيد الألم وانتظار الخلاص في العالم الآتي، انتظارا للعدالة الإلهية.
أصحاب هذه النصوص يصورون اختبارهم مع مجتمع النفاق الاجتماعي، والتواء المعايير عند الأحكام من أجل التمسك بما هو عكس ذلك. وكأنهم يتأملون في «الجدلية الناشطة بين وجدان الكثرة ووجدان القلة». قد تكون هذه النصوص تعبيرا عن رفض زيف الأوهام هذه ووعدا ذاتيا بالالتزام في سبيل الإنسان في لبنان. نحن إذن أمام نص فسيفسائي، تماما كالمجتمع الذي نعيش فيه، التوق إلى عالم المثال، حاجة ضرورية، أو ربما من أبرز مكوناته، لكن الحذر الدائم الذي يعلنه أصحابه، يجعلنا نتوقف أمام هذه المفارقة بين الفكر والسلوك. واللافت أيضا، أن هذه النصوص تعد بالرجاء، وكأن اللبناني وطائر الفينيق توأمان، فالسعي والإصرار والصبر، من أكثر الكلمات ترددا مع مترادفاتها، وهي مرتبطة بالتفكير الرجائي والولادة الجديدة.

السؤال النقدي الملح حول النهضة اللبنانية

في الخاتمة، لا بد من القول إن هذا النسيج، يومئ إلى سؤال النقد الذاتي الملح، وقد تتنوع الإجابات ضمنا حسب تنوع كتابها، إذ كيف لبلد مثل لبنان، يظهر معظم نخبوييه هذا الوعي الاجتماعي المكتمل النضج في التسامح والتجاوز وإعلاء القيم (في الكتابة النظرية، كما في هذا الكتاب)، وهو قريب من التفكك والانحلال؟ هل يمكن اعتبار هذه النصوص نوعا من توقيف الزمن عند لحظاته الأكثر مجدا في المثالية والتعاضد، تم التعبير عنه بطريقة متماسكة مثالية، من أجل تجاوز الوضع الحالي أو ربما إنكاره؟ هذا ما يحتاج إلى دراسات موسعة حول المجتمع اللبناني، في إعضالاته البنيوية الكثيرة. ربما تهيئ مثل هذه النصوص المقتضبة النفسية اللبنانية للخوض في مشروع الإصلاح الذاتي الفردي، حتى يتمكن اللبنانيون جماعة ووطنا أن ينهضوا نهضة واحدة ويجددوا إنسانيتهم المعذبة وينعشوا معيتهم النازفة.

أكاديمية وروائية لبنانية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    الصديقة العزيزة الدكتورة ناتالي : دائما متألقة ومواظبة على العطاء.يسعدني أن أقرأ لحضرتك.تحياتي للسيد أسعد أنطوان.

إشترك في قائمتنا البريدية