الحداثة المستعارة

الكثير من الكلام المنسوج حول مفهوم الحداثة؛ ظل ردحا من الزمن يتداول بين الأوساط الثقافية العربية، كموضة سادت منتصف القرن العشرين، تكشف عن الرغبة المحمومة لمسايرة ركب الحضارة الغربية، التي قطعت أشواطا عديدة تجعل الذات العربية في الطرف الأقصى، ذلك أن الحداثة باعتبارها إفرازا حقيقيا لأنساق ثقافية أكثر فاعلية وإنتاجية، وكوعي وجودي لتجاوز هيمنة الكنيسة، وتعبير عن الرغبة في بناء فكر عماده العقل والتقنية، الأمر الذي أفرز حداثة متأصّلة في تربة تتلاءم مع السياق التاريخي والثقافي المنتج لها، لكن في المقابل نجد أن العرب، بعد مرحلة صدمة بونابارت/ صدمة الحضارة الغربية، واختيار مسلك النهضة للخروج من واقع الاستعمار والتخلف، جاءت مرحلة المثاقفة أو بصيغة أخرى التلاقح الحضاري المصطنع، ليجد المثقف نفسه في مواجهة ثقافة متنورة، وعقلانية وضعت حدّا فاصلا بين الدين والسياسة، فكان المخرج الذي سلكه يتمثل في استعارة الحداثة كمفهوم يحمل دلالة الوعي بضرورة تقويض النسق التقليدي، لكن التساؤل الذي يطرح: هل هذه الحداثة يمكنها أن تعبّر عن الأنا العربي مقابل الآخر؟ وهل الشروط المتوفرة لدينا هي نفسها لدى الآخر؟ فالإجابة عن هذين السؤالين سيكشفان حقيقة الأمر الواقع.
فإذا كانت الحداثة الغربية نتاج سيرورة تاريخية جوهرها التحول والتجاوز والبناء، فإن الحداثة العربية ستولد مشوهة لأنها غير منبجسة من واقع العرب المتخلف، الذي يعكس صور الجهل والأمية بشكل مثير للقلق، ولوعي شقي ما زال المثقف العربي تحت رحمته إلى اللحظة الراهنة، ذلك أن النسق التقليدي ما زال يؤمن بالخرافات والشعوذة، ويستحيل الفصل بين الثابت الديني والإرادة للإبداع.
من هنا يتجلى الصراع المحتدم بين ثقافتين وفكرين متناقضين ومتباعدين، فكر أصولي متشبث بالكائن لا يؤمن بالممكن، وفكر حداثي ينظر إلى المستقبل بعين الأمل، لكن الأمر ليس بهذا التصور، وإنما دليل على أن الحداثة العربية تفتقر لأطر مرجعية فلسفية وثقافية، ما جعلها رهينة الاستلاب الثقافي والحضاري، فجاءت هذه الحداثة لقيطة على بنية عربية مهترئة وهشة.
ولعل الأسباب الكامنة وراء الفشل، الذي حالف إقامة حداثة عربية، تكمن أولا في الفهم الخاطئ للحداثة، فقد عدّها الكثيرون، تخطيا وتجاوزا للسائد، بدون هضم هذا المهيمن واستيعابه، والعمل على إضافة لبوس الجدة بعد الوعي به.
وثانيا ـ أعتقد ـ أنه ناجم عن الانبهار بالحداثة الغربية التي وقع في فخها المثقف العربي بعيدا عن الندّية التي يجب أن تكون، لكونه فاقدا لما جرى في أوروبا من تقويض لكل الثوابت المعيقة لتحرر العقل من قيود الكنيسة، بل إن هذا المثقف ما زال مطوقا بأغلال التقليد والفكر الرجعي والذهنية القبلية، فالتحرر والقيود أمران متناقضان، فالأنا مقيدة بكل صنوف الحجر على العقل، والآخر محطم لكل ما يعيق الذات من معانقة ضياء العقل، بنيتان لا يمكن أن تستقيما، بل ستظلان في تباعد يستحيل الزمن تقليص فجوته، وثالثا يتمثل في كون الحداثة الغربية تمتلك الأطر المعرفية والفلسفية، التي أسهمت في تحقيق الطفرة الحضارية، في حين أن الحداثة العربية هي مجرد صدى لصوت الحداثة الغربية؛ بل يمكن القول إن الحداثة العربية عمودها النقل، دون الخلق، ما جعلها مقلّدة أكثر من مبدعة، لأنها تفتقر للوعي العميق للحياة والوجود والذات والمعرفة، على حد قول عبد العزيز حمودة. فالحداثة ليست ترفا فكريا أو حضاريا بقدر ما هي ذاك الوعي المنبثق من جوهر اللحظة التي تعلن فيها الذات عن رغبتها في الخروج من ضيق التقليد إلى رحابة التفكير، وهذا ما ينقص الذات العربية، التي لم تستطع تمزيق جلباب الأسلاف، بخلق نمط حضاري نابع من تربة الواقع، وليس استقدام نموذج له شروطه التي تختلف عن شروطه، وهنا مكمن السبب الرابع.

الحداثة تظل ممكنا مستحيلا، في ظل معطيات ثقافية واجتماعية ليس لها القدرة على تخطي الثابت لإنجاز المتحول، هذا الأخير المتجلي في ضرورة القطع مع البنى والأنماط التقليدية، بعد الاستيعاب المعقلن للماضي بكل حمولاته التاريخية والحضارية والفكرية، والمستقبل المنفتح على مشروع مجتمعي، يؤمن بالاختلاف بدل التطابق.

لا غرابة في كون الثقافة العربية لعبت أدوارا مهمة في تشكيل الوعي العربي، بنسق ثقافي أسه النص، باعتباره هوية الذات في حوارها مع الآخر الفارسي واليوناني، ما أثمر فكرا عربيا كانت له بصمته وميزته، الأمر الذي يطرح السؤال الآتي:
ما الذي جعل الثقافة العربية تابعة لا فاعلة؟
في هذا السياق لابد من استحضار الحيثيات الكاملة في وضع كهذا، تتمثل في الاعتقاد أن الثقافة العربية لا تضاهيها أي ثقافة أخرى، ثم الانغماس في الانغلاق تجاه الآخر، ما ولّد ذهنية ترفض التجديد، بدون أن ننسى البنيات الاجتماعية والسياسية، التي كرست هذه النظرة إلى الآخر. وبمجرد الاستيقاظ من السبات الذي نسجته حولها لقرون وجدت نفسها متخلفة وغير قادرة على الإنتاج والإسهام، فحاولت استعارة الحداثة الغربية، ليس في إطار التفاعل الإيجابي، بل في سياق الأخذ بدون الغربلة، ما أوقعها في التقليد والسير على هدى النمط الغربي، ما جعل الحداثة العربية مليئة بالفجوات والثقوب، والراجح أن ما تعيشه من انسداد أفق هذه الحداثة تعبير واضح على أن استعارة حداثة الغرب اعتراها العديد من الإشكالات المرتبطة بغياب وعي بضرورة خلق حداثة عربية تجيب عن أسئلة ثقافة عربية بدل السقوط في شرَك الاتباع بدل الابتداع.
والمتأمل في مسار الحداثة الغربية يستخلص منه أنها نتاج ثلاثة قرون مليئة بمنعطفات فكرية وفلسفية وعلمية، تمثلت في بروز مذاهب فلسفية حطّمت العلاقة التي تربط بين ما هو ميتافيزيقي (الله) والإنسان والعالم واللغة، بعبارة أخرى قامت بتفتيت المعرفة، بدون نسيان نسبية إنشتاين وتجريبية لوك ومثالية كانط مرورا بشك نيتشه ووصولا إلى أفكار هيدغر، حول الوجود ـ كما بيّن ذلك عبد العزيز حمودة ـ فكان من الطبيعي التوقف قليلا لتأمل واقع الحداثة عند العرب؛ فلم تكن نابعة من الذات، وإنما مأخوذة من تربتها لاستنباتها في تربة تختلف اختلافا جذريا، في طبيعتها وتاريخها وتحولاتها، بل تغيب فيها كل الشروط المسهمة في بلورة الحداثة الغربية، انطلاقا من النهضة إلى منتصف القرن العشرين، ومن ثم فلا يمكن الحديث عن حداثة واعية بمجريات الانعراجات الفكرية والعلمية، التي ميّزت هذا المسار للحداثة الغربية، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، فحداثة العرب مستوردة ومنتزعة من جذورها، وبالتالي فمن المستحيل أن تعطي نتائج سليمة، لأن المنطلق كان مبنيا على الأخذ لا على الخلق. هكذا نخلص إلى أن ثمة مفارقة جلية بين حداثة عرفت كيف تبني وجودها، انطلاقا من تراكمات تاريخية وحضارية، اتسمت بالتجاوز والتخطي، والاعتماد على العلوم المعرفية وتستند إلى خلفيات فلسفية، أحدثت قطائع مع الثوابت، بفتح أفق متحول ومجدّد لأسئلته وقضاياه، وحداثة مصطنعة ودخيلة على ثقافة مؤمنة بالثابت وكارهة للمتحول، وذلك جوهر المفارقة.
وما نخلص إليه هو أن الحداثة تظل ممكنا مستحيلا، في ظل معطيات ثقافية واجتماعية ليس لها القدرة على تخطي الثابت لإنجاز المتحول، هذا الأخير المتجلي في ضرورة القطع مع البنى والأنماط التقليدية، بعد الاستيعاب المعقلن للماضي بكل حمولاته التاريخية والحضارية والفكرية، والمستقبل المنفتح على مشروع مجتمعي، يؤمن بالاختلاف بدل التطابق، ويساهم في بلورة حضارة تشيد وجودها انطلاقا من احترام الآخر، والعمل معه في بناء الإنسان، والسعي نحو تحديث العقل. وإذا لم يتحقق هذا الأمر في الواقع العربي فيمكننا التأكيد على أن الحداثة العربية ما هي إلا وهم من الأوهام، والأكثر من ذلك حداثة مستعارة لا تعكس حقيقة العرب.

كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اقتصادي:

    المطلوب هو العودة الى “الاصالة” في المقاصد والأخلاق وتبني “الحداثة” في الوسائل والادوات.. هذه هي باختصار تجربة ماليزيا.

إشترك في قائمتنا البريدية