الجزائر والغرب: سجال لا ينتهي حول الحرية الدينية

محمد سيدمو
حجم الخط
0

الجزائر ـ «القدس العربي»: في أعالي العاصمة الجزائرية، تنتصب كنيسة السيدة الأفريقية كإحدى أعرق وأكبر دور العبادة المسيحية في القارة السمراء. وفي معظم مدن البلاد الكبرى، لا تزال ثمة كنائس قائمة، مع أن نسبة المسيحيين تقدر بنحو مئتي ألف فقط على أقصى تقدير. لكن رغم ذلك، تتلقى الجزائر سنويا انتقادات لاذعة حول ملف «الحرية الدينية» من حكومات ومنظمات غربية، بات ينظر إليها حتى من بعض الأوساط الحقوقية الناقدة، على أنها تنطوي على قدر من التحامل والكيدية.

ولعلّ ما أوحى بهذا الانطباع لدى كثيرين، البيان الذي أصدره وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والذي أدرج فيه الجزائر مع كل من أذربيجان وجمهورية أفريقيا الوسطى وجزر القمر وفيتنام على قائمة المراقبة الخاصة لتورطها في انتهاكات جسيمة لحرية الدين أو تسامحها معها.
وقال بلينكن بلسان معطي الدروس إنه «يتعين على الحكومات وضع حد للانتهاكات المماثلة للهجمات على أفراد الأقليات الدينية وأماكن عبادتهم وأعمال العنف الطائفي والسجن لفترات طويلة بسبب التعبير السلمي والقمع العابر للحدود الوطنية والدعوات إلى العنف ضد الطوائف الدينية، بالإضافة إلى الانتهاكات الأخرى التي نشهدها في أماكن كثيرة حول العالم».
ومع أن هذا التصنيف يتكرر كل عام، إلا أن وقعه هذه المرة كان خاصا، فقد تزامن مع العدوان على غزة المدعوم أمريكيا بالسلاح في الميدان والفيتو في مجلس الأمن، وهو الأمر الذي فضح وفق كثيرين، انتقائية الولايات المتحدة وازدواجية معايير في التعامل مع الملف الحقوقي بشكل عام، فهو خاضع للمصالح قبل أن يكون منطلقا من مبادئ.
وإذا كانت أمريكا وفق ما يقوله المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر، حريصة على الحرية الدينية، فكان من باب أولى أن تضم إسرائيل إلى قائمة الانتهاكات ضد الحرية الدينية، إذ لا يبدو أن هناك «مثالا أشد قساوة لمنع المتدينين حتى من دخول معابدهم مثلما تفعله إسرائيل بالمسلمين في فلسطين ومنعهم من دخول المسجد الأقصى وحرمانهم من الصلاة في رحابه».
وخارج المزاج العام السياسي الرافض أصلا لاستقبال ملاحظات من الولايات المتحدة بسبب سياساتها المزدوجة، تقدم الخارجية الجزائرية في كل مرة ردا دبلوماسيا على هذه التقارير بلغة رافضة لمضمونها لكنها مستعدة للتعاون.
وعلى هذا الأساس، أعرب وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في محادثات عبر الهاتف مع الوزير الأمريكي أنتوني بلينكن، عن أسفه لما تضمنه البيان الأخير للخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية من «معلومات مغلوطة حول الجزائر».
وأبرز أن البيان الأمريكي «قد أغفل الجهود التي تبذلها الجزائر في سبيل تكريس مبدأ حرية الاعتقاد والممارسة الدينية، وهو المبدأ الذي يكفله الدستور الجزائري بطريقة واضحة لا غموض فيها». كما عبّر عطاف عن استعداد الجزائر لاستقبال السفير الأمريكي المتجول للحرية الدينية الدولية بغية تسليط الضوء على الحقائق وعلى التزام الجزائر الفعلي بصون مبدأ حرية المعتقد وفقاً لالتزاماتها الدولية.
وفي هذه النقطة، كأن التاريخ يعيد نفسه، ففي ردها على تقرير الحرية الدينية سنة 2016 انتقدت الخارجية الجزائرية ما اعتبرته «تجاهل ثلاثة عناصر هامة» تبين مدى إتاحة الجزائر لأتباع مختلف الديانات السماوية ممارسة شعائرهم بحرية في إطار القانون، من بينها مرسوم شباط/فبراير 2006 الذي يعكس احترام الدولة الكبير لكل الديانات السماوية، واستفادة الجمعيات الدينية على اختلاف انتماءاتها من دعم مالي بدون تمييز من الدولة التي تقوم بالاعتناء بأماكن العبادة وترميمها، و«كون الأشخاص الراغبين في تطوير نشاط في المجال الديني مطالبون بأن تكون لهم الصفة والأهلية من السلطة الدينية التابعين لها».

مضمون تقارير الحرية الدينية

لكن ما الذي ترصده هذه التقارير ويثير في كل مرة الغضب الجزائري؟ تقدم في العادة، تقارير الحرية الدينية التي تصدرها الخارجية الأمريكية كل سنة إحصاء تقريبيا لأتباع الديانات والمذاهب، حيث تقدر عموما عدد الجماعات الدينية من مسيحيين ويهود وأحمديين وشيعة بأقل من 1 في المئة، وتؤكد أن عدد اليهود أقل من 200 بينما تراوح المسيحيين من 20 إلى 200 ألف، وفقا لتقديرات ممثلين عنهم.
وتتضمن هذه التقارير سنويا وقائع عن إشكالات إدارية يواجهها أتباع أديان ومذاهب أخرى في الجزائر، علما أن البلاد تعتمد رسميا المذهب المالكي السني في مرجعيتها الدينية وعلى أساسه تصدر الفتاوى الفقهية وتضبط الأمور التعبدية والشعائرية.
وفي السنوات السابقة، خاصة بين 2013 و 2020 والتي عرفت ظهور بعض أتباع المذاهب في الجزائر مثل الأحمدية أو ما يعرف بالقاديانية وكذلك تحول بعض الأشخاص إلى المسيحية في عدد من المناطق، امتلأت تقارير الحرية الدينية، بملاحظات حول وجود اضطهاد لهؤلاء الأشخاص، وهو ما كانت ترد عليه السلطات الجزائرية دائما بأن حرية العقيدة التي تكفلها القوانين الجزائرية لا تعني فوضى الممارسة.
ونجد في تلك التقارير وقائع عن ملاحقات طالت أتباع هذه المذاهب، ففي سنة 2018 تم التركيز بشكل خاص على الأحمدية بعد تحقيقات طالبت 205 أحمدي في 2017 وهي من بين السنوات التي عرفت ذروة نشاط هذه الطائفة، وتناول التقرير بالتفصيل التهم التي لاحقت هؤلاء مثل إنشاء جمعية دينية غير مسجلة وجمع الأموال دون ترخيص.
كما ترصد التقارير تصريحات المسؤولين الحكوميين حول الجماعات الدينية وأتباع المذاهب، ووجهت في السابق ملاحظات شديدة حول ما قاله مسؤولون حكوميون في فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عن الخطر الذي تمثله تيارات على غرار السلفية والوهابية والإسلام الشيعي وعن تأثيراتها التي تهدد المرجعية الوطنية الجزائرية وحديثهم عن أن طقوس الأحمدية ليست من الإسلام.
كما تنقل التقارير باستفاضة حديث بعض ممثلي الديانة المسيحية عادة دون ذكر أسمائهم، وانتقادهم لما يعتبرونه انحيازا من المحاكم الجزائرية في القضايا العائلية خاصة الطلاق ضد المتحولين عن الإسلام وانتقادهم منع السلطات الجزائرية التبشير الذي تمارسه مجموعة غير مسلمة ودعوتها الكنائس على حد قولهم إلى تقليص عدد من الأنشطة المتعلقة بالتبشير، مثل توزيع الكتب المسيحية وإقامة مناسبات خاصة بالطائفة المسيحية.
وتتناول تقارير الحرية الدينية أيضا قرارات السلطات الجزائرية بغلق بعض الكنائس غير المرخصة واضطرار بعض المسيحيين لاتخاذ بعض المنازل ومقار المؤسسات كنائس لإقامة شعائرهم، بسبب تأخر السلطات في منح التراخيص الضرورية، وما تواجهه الجمعيات المسيحية في الحصول على الاعتماد الضروري للنشاط أو التطابق مع قانون الجمعيات لسنة 2012 وعدم قدرة المسيحيين على استيراد الكتب، حيث يتم إجبارهم على الانتظار مددا طويلة التراخيص.
ولا تغفل هذه التقارير حتى تعاطي السلطات مع المساجد في البلاد. وتقول في كل سنة إن وزارة الشؤون الدينية تراقب خطب الجمعة في المساجد، ويقوم مفتشوها باستدعاء الأئمة الذين يروجون لأفكار متطرفة، وأن السلطات تراقب النشاط داخل المساجد، خاصة ما يتعلق بتجنيد أفراد في جماعات متطرفة، ومنع اجتماع الأفراد بها خارج أوقات الصلاة.

نظرة المجتمع للحرية الدينية

من جانب آخر، باتت التقارير في السنوات الأخيرة تخصص جزءا من مادتها لرصد نظرة المجتمع الجزائري لمن يخالفونه التوجه المذهبي أو الديني. وتنقل في هذا السياق حديث مسلمين سابقين تحولوا إلى المسيحية، تعرضهم لمضايقات من أفراد عائلاتهم، وفي أماكن عملهم. وكيف أن بعض هؤلاء يخفون عقائدهم بسبب خوفهم من تعرضهم للأذى. وتقف أيضا عند التناول الإعلامي للحريات الدينية، إذ يتم استعراض مواد نشرت في القنوات والجرائد الجزائرية تشير إلى وجود علاقة بين الطوائف الدينية وقوى أجنبية، وهي ما تعتبره التقارير تعزيزا لفكرة المؤامرة. وتتحدث أيضا عن ترديد أفكار جاهزة حول اليهود مثل أنهم يسيطرون على العالم أو أنهم أسباب كوارث المسلمين في العالم وتعتبر ذلك إشارة لوجود نظرة معادية للسامية في المجتمع.
وفي هذه الزاوية، يعتقد الباحث في علم الاجتماع نوري دريس بعيدا عن النظرة التي قد تكون موجهة لهذه التقارير، أن ثمة خصوصية جزائرية تولدت في فترة الاستعمار الفرنسي حول علاقة الجزائري بالآخر المخالف له في الدين وبالأخص منهم المسيحيون واليهود.
وأوضح دريس في حديث مع «القدس العربي» أن كل تمثلات الجزائريين للآخر إنما تشكلت خلال الفترة الاستعمارية، وأول لقاء بين الجزائري المسلم والآخر غير المسلم كانت في تلك المرحلة، فالمجتمع الجزائري كان ريفيا منغلقا إلى حد ما وأرض الجزائر لم تكن أرضا للتعددية الدينية، باستثناء الجماعات الدينية اليهودية التي كانت تعيش تدينها بشكل غير ظاهر، مثلما كان الحال عليه في المشرق.
لذلك، يقول الباحث إن أول اتصال بالمسيحيين خصوصا كان اتصالا عنيفا، فقد عرفهم الجزائريون كغزاة محتلين وربما هذا ما أعاد تنشيط الذاكرة البعيدة التي تعود إلى فترة الحروب الصليبية. أما جزائر ما بعد الاستقلال، فقد تبنت حسبه سياسة شعبوية يعقوبية تقوم على وحدة العناصر المشكلة للهوية: وحدة الدين وحدة اللغة وحدة الحزب وحدة النقابة..، فالمسألة إذا كانت سياسية متعلقة بتصور بناء الوحدة الوطنية ولم تكن مسألة دينية.
أما بخصوص اليهود، فموقفهم من الاستعمار ثم من الثورة هو الذي سيحدد مصيرهم لاحقا بعد الاستقلال، فأيديولوجية الحركة الوطنية (ثورية وماركسية حزب الشعب مضاف إليها الطابع الاسلامي المحافظ لجمعية العلماء المسلمين) لم تترك خيارات واسعة لدولة الاستقلال. وهكذا -يضيف دريس- أرغم عنف الثورة وعنف حرب الاستقلال كل المتعاونين مع الاستعمار على الرحيل، ولم يكن الأمر يتعلق بترحيل ديني أو تصفية دينية ولم تكن البتة تشبه محاكم التفتيش، بل جميع من غادر إنما فرّ من تعاون مع الاستعمار بغض النظر عن دينه، والحركى (المتعاونون مع الاستعمار) المسلمون خير دليل فقد فروا هم كذلك لأن موقفهم كان مع فرنسا.
ويصل دريس في تحليله إلى أن دولة الاستقلال لم تكن دولة دينية ولم يكن يهمها تدين الناس ولم يكن هناك حضور واسع للتدين في الحياة العامة والسياسية ومع ذلك كان الجزائريون يعرفون أنفسهم كمسلمين وكدولة مسلمة وكان الإسلام جزءا من الثوابت، وهو ما يؤكد في الأخير أن موقف الجزائر من الحريات الدينية بعد الاستقلال لم يكن موقفا دينيا بل سياسيا، فالجزائر بقيت حذرة من صناعة أقليات دينية تستخدم سياسيا لاحقا وفي المقابل لم تكن لديها مشكلة مع تدين الناس ضمن الأطر التي وضعتها القوانين.

البروتستانت الأكثر احتجاجا

وقد يكون ما قاله نوري دريس في آخر كلامه مفسرا للصدام المتكرر بين السلطات الجزائرية والكنيسة البروتستانتية تحديدا، ذلك أن ثمة مخاوف من أن تؤدي مثل هذه الأنشطة لصناعة أقلية دينية وهو ما ترفضه الجزائر ولا تسمح به لأسباب كثيرة مجتمعية وسياسية.
وفي الواقع، كانت الكنيسة البروتستانتية في السنوات الأخيرة، الأكثر احتجاجا على ما تقول إنه التضييق الذي يطال أتباعها. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2019 نقلت منظمات حقوقية دولية أن السلطات الجزائرية أغلقت ثلاث كنائس بروتستانتية بما فيها «كنيسة الإنجيل الكامل» في تيزي وزو، وهي أكبر كنيسة بروتستانتية في البلاد.
وذكر ممثلون عن البروتستانت أنه تم إغلاق 12 كنيسة بروتستانتية بين تشرين الثاني/نوفمبر 2018 وتشرين الأول/أكتوبر 2019 في الغالب على أساس أن الدولة لم تعطِ رخصا لاستخدام هذه الأماكن للعبادة كما ينص المرسوم 03-06 للعام 2006 الذي يحكم الممارسات الدينية لغير المسلمين.
وتضم الكنيسة البروتستانتية 46 كنيسة وفق تقديرات هذه الطائفة، وهي تشتكي باستمرار من أن السلطات نادرا ما توافق على طلباتها بالاعتماد، ما يعرض كنائسها للإغلاق، في حين رفضت السلطات أيضا تجديد الاعتراف القانوني، وفق قانون الجمعيات لسنة 2012 بالكنيسة البروتستانتية كجمعية، وهو وضع تتمتع به منذ 1974.
وتؤكد السلطات الجزائرية من جهتها، أن تحركها لإغلاق كنائس هذه الطائفة ليس استهدافا لها ولكن لأنها كنائس عشوائية «لم توائم قوانين الجمهوري». ودافع وزير الداخلية السابق صلاح الدين دحمون، في تصريح شهير، عن قرار بلاده ضد شكاوى الكنيسة البروتستانتية بالقول، إن «ما تم غلقه ليست كنائس وإنّما هي مستودعات لتربية الدجاج وإسطبلات ومقرّات وبنايات فوضوية، حُوّلت إلى أماكن عبادة، دون الحصول على رُخص». وذكر أن «هذه الأماكن غير القانونية، كانت تُموّل من جهات مجهولة، وسُجّلت بها نشاطات مشبوهة» داعيا الراغبين في ممارسة الشعائر الدينية بالجزائر، إلى اتباع القوانين والأنظمة المعمول بها لافتتاح أماكن عبادة كالتراخيص والاعتمادات.
وعادة ما يحرك البروتستانت، تيارات اليمين واليمين المتطرف في فرنسا ودول أوروبية لمساءلة الجزائر حول وضع المسيحيين على أراضيها. وفي واقعة غلق كنائس تيزي وزو سنة 2019 وجّه 4 نواب فرنسيين أسئلة إلى الوزير الأول ووزير الخارجية، تطلب منهما التدخل لدى السلطات الجزائرية في هذا الموضوع. ومن هؤلاء النائب لويس أليو القريب من حزب اليمين المتطرف الذي تقوده مارين لوبان، والذي زعم أن آلاف المسيحيين يجدون أنفسهم محرومين من أماكن العبادة منذ منتصف سنة 2017 في وقت تُداهم السلطات الجزائرية الكنائس وتطلب من أصحابها رخص النشاط التي لا تمنح أبدا.
واللافت أن اليمين الفرنسي، أصبح في الأشهر الأخيرة، يوظف أوراقا وصفت بـ«المشبوهة» فيما يتعلق بالمسيحيين. ففي سؤال للسيناتورة فاليري بوايي عن حزب الجمهوريين اليميني، ربيع العام الماضي، موجه لوزيرة خارجية بلادها كاترين كولونا، تحدثت عن «قمع معتنقي المسيحية في منطقة القبائل» حيث ذكرت استنادا لإحصائية أنه في عام 2019 تم إغلاق 13 مكانًا للعبادة مخصصة للطقوس البروتستانتية، وكانت غالبيتها في منطقة القبائل. ولدى منطقة القبائل في الجزائر، خصوصية ثقافية ولغوية، وكانت في السنوات السابقة، ساحة للتبشير المسيحي ما دفع السلطات للتوجس من هذه الظاهرة وتحدث البعض عن وجود استهداف لمحاولة خلق أقلية دينية جديدة تستغل مثل هذه الخصوصيات للانتشار وزرع الفرقة في المجتمع الجزائري.
وبدا أن وزيرة الخارجية الفرنسية قد وعت لهذه الورطة في سؤال السيناتورة، ما جعلها تتجنب التركيز على منطقة القبائل بعينها. وأبرزت أن «شروط ممارسة العبادة من قبل السكان المسيحيين في الجزائر تقع ضمن اختصاص السلطات الجزائرية حصراً، التي هي مقيدة بالتزاماتها الدستورية والدولية». وأضافت أن المادة 51 من الدستور الجزائري تكفل حرية الرأي وممارسة الشعائر الدينية، ويحدد مرسوم عام 2006 شروط ممارسة الشعائر الدينية لـ«غير المسلمين».
عكس ذلك، يبدو وضع الكاثوليك أفضل بكثير وهم نادرا ما يقدمون شكاوى علنية، حتى أن وزير الشؤون الدينية الحالي يوسف بلمهدي استشهد بالأب الراحل هنري تيسيي رئيس أساقفة الجزائر وراعي الكنيسة الكاثوليكية لسنوات طويلة، والذي نفى وفق الوزير بأن «تكون الكنيسة قد تعرضت لمضايقات في الجزائر وأوصى بدفنه في بلادنا». وأكد أن هذه المعاني والقيم الرفيعة لا تزال عنوانا للخطاب الديني في الجزائر، مبرزا أن وزارته «تفتح دائما أبواب الحوار والتعاون مع ممثلي الديانات، وما يُطبق على الكنائس من قواعد وقوانين هو ذاته مُطبق على المساجد في بلادنا».

ماذا تقول القوانين الجزائرية؟

غالبا ما تنتقد التقارير والمنظمات الحقوقية الدولية القوانين الجزائرية الناظمة لنشاط غير المسلمين وهناك تركيز خاص على مرسوم 28 شباط/فبراير 2006 فما الذي يتضمنه هذا النص؟
هذا المرسوم، يحوي شقا تنظيميا وآخر عقابيا للمخالفين وهو ينص صراحة على منع التبشير لكنه يضمن في الوقت ذاته المبادئ الأساسية لحرية العبادة.
تشير المادة 2 من هذا المرسوم الذي اطلعت عليه «القدس العربي» إلى أن الدولة الجزائرية التي تدين بالإسلام تضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية في إطار احترام أحكام الدستور وأحكام هذا الأمر والقوانين والتنظيمات السارية المفعول واحترام النظام العام والآداب العامة وحقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
وتضمن الدولة، بموجب هذا النص التسامح والاحترام بين مختلف الديانات كما تستفيد الجمعيات الدينية لغير المسلمين من حماية الدولة ويحظر استعمال الانتماء الديني كأساس للتمييز ضد أي شخص أو جماعة.
لكن النص يضع شروطا لممارسة الشعائر الدينية، فمثلا يخضع تخصيص أي بناية لممارسة الشعائر الدينية للرأي المسبق من اللجنة الوطنية للشعائر الدينية، ويمنع ممارسة أي نشاط داخل الأماكن المخصصة لممارسة الشعائر الدينية يتعارض مع طبيعتها ومع الأغراض التي وجدت من أجلها وتخضع البنايات المخصصة لممارسة الشعائر الدينية للإحصاء من طرف الدولة وتستفيد من حمايتها. وتُنظم الممارسة الجماعية للشعائر الدينية من قبل جمعيات ذات طابع ديني، يخضع إنشاؤها واعتمادها وعملها لأحكام المرسوم والتشريعات سارية المفعول.
ويشترط النص أن تتم الممارسة الجماعية للشعائر الدينية في البنايات المخصصة لذلك دون غيرها على أن تكون عامة وظاهرة المعالم من الخارج. ويشير إلى أن التظاهرات الدينية تتم داخل بنايات وتكون عامة وتخضع للتصريح المسبق.
ووضع المرسوم لدى الوزارة المكلفة بالشؤون الدينية والأوقاف، لجنة وطنية للشعائر الدينية، تتولى السهر على احترام حرية ممارسة الشعائر الدينية والتكفل بالشؤون والإنشغالات المتعلقة بممارسة الشعائر الدينية وإبداء رأي مسبق لاعتماد الجمعيات ذات الطابع الديني.
أما في الشق العقابي، ينص المرسوم على المعاقبة بالحبس من سنة إلى 3 سنوات وبغرامة مالية تصل إلى 1800 دولار كل من يلقي خطابا أو يعلق أو يوزع مناشير في أماكن العبادة أو يستعمل أي دعائم سمعية بصرية تتضمن تحريضا على عدم تطبيق القوانين أو قرارات السلطات العمومية أو ترمي إلى تحريض فئة من المواطنين على العصيان.
وفي جانب التبشير، يعاقب القانون بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة تصل إلى 7000 دولار «كل من يحرض أو يضغط أو يستعمل وسائل إغراء لحمل مسلم على تغيير دينه أو يستعمل من أجل ذلك المؤسسات التعليمية أو التربوية أو الاستشفائية أو الاجتماعية أو الثقافية أو مؤسسات التكوين أو أي مؤسسة أخرى أو أي وسيلة مالية ما» أو من «يقوم بإنتاج أو تخزين أو توزيع وثائق مطبوعة أو أشرطة سمعية بصرية أو أي دعامة أو وسيلة أخرى بقصد زعزعة إيمان مسلم».
كما يعاقب بالحبس من سنة إلى 3 سنوات وبغرامة تفوق 2000 دولار كل من يجمع التبرعات أو يقبل الهبات دون ترخيص من السلطات المؤهلة قانونا.

نشاط محدود لغير المسلمين

وفي تعليقه على التعامل القانوني مع نشاط غير المسلمين في الجزائر، يقول المحامي والحقوقي المتخصص في هذه المسائل، إن التقارير الدولية المنتقدة تستند على صرامة القوانين والتشريعات في الجزائر والتي تخضع الممارسات الدينية لمجموعة من النصوص تعقد من ممارسة النشاط الديني وتربطه بإجراءات أغلبها للرقابة الإدارية والأمنية المشددة في كثير من الأحوال، وهو ما تبرره السلطات في غالب الأحيان بالحرص على عدم استغلال الدين لأغراض أخرى لاسيما الإرهاب.
ويبرز بادي أن النشاط الديني للأقليات هو بحد ذاته غير نشيط في أصله، فالأقليات المسيحية مثلا لا تعاني حسبه من أي إشكال في مسألة نشاطها الديني طالما تقيدت بالشروط والإجراءات التي تفرضها الإدارة، أما عن الأقليات الأخرى فقد تم متابعة الأحمدية مثلا في وقت سابق، قبل أربع أو خمس سنوات وأغلبهم تحصل على البراءة ولا أعتقد أن هناك متابعات ضدهم في الوقت الراهن.
وينتهي الحقوقي للقول إن نشاط الأقليات الدينية في الجزائر محدود جدا تخضعه السلطات لإجراءات ترفض هذه الأقليات في أغلب الأحيان الإذعان لها. ورغم حدوث بعض التجاوزات من طرف السلطات، إلا أنها -وفق بادي- غير واسعة النطاق لا ترقى لأن تجعل الجزائر على قائمة المراقبة، ما يجعل التقييم الأمريكي الأخير مجانبا للصواب إذا ما أسقط على واقع الممارسة الدينية للأقليات.
ولا يستبعد المحامي بناء على ذلك، أن يكون التقييم الأمريكي للحرية الدينية مبنيا على مغالطات أو تحامل مسبق بسبب بعض المواقف التي تتخذها الجزائر بخصوص قضايا الساعة ومناطق التوتر في العالم، والتي تتناقض فيها مواقف الجزائر تماما مع مواقف الإدارة الأمريكية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية