الثلاثية النسوية لمحمد خان

تدللت أوراق الجنسية المصرية على المخرج المصري محمد خان حتى بلغ الحادية والسبعين، على الرغم من مولده بالقاهرة لأم مصرية!
في الأوطان المتواضعة يكون أحد السببين كافيًا (الأرض أو الأم) لحصول المولود على الجنسية، لكن مصر والدول العربية كافة لا تعرف بيروقراطيتها فضيلة التواضع التي تتمتع بها دول أخرى كثيرة.
توقفت البيروقراطية المصرية عند الأب الباكستاني لمحمد خان دون اعتبار لمصرية الأم أو لمولده في حي السكاكيني بقلب القاهرة. وعندما احترف السينما صارت أفلامه برهانًا على مصريته يكفي وحده لمنحه الأوراق، لكن شيئًا عنيدًا كأقدار فقراء أفلامه ظل يؤخر هذا الحدث. وعندما تفجرت ثورة 25 يناير ولدت معها أحلام أكبر منها.
ساد اعتقاد بأن الثورة قادرة على تحقيق المعجزات وبينها معجزة صغيرة بمنح الجنسية لمحمد خان. لكن المعجزة الصغيرة أجهضت مع غيرها، وهكذا وجدت القضية مكانها بين القضايا الكثيرة المؤجلة، واستمرت الحملة الداعية لمنح الجنسية المصرية للمواطن المصري حتى وقع الرئيس عدلي منصور الأسبوع الماضي القرار الذي تزامن مصادفة مع طرح ‘فتاة المصنع’ أحدث أفلام خان في دور العرض.
يقدم الفيلم أحلام فتيات مشغل ملابس بالحب والزواج، ولا يلبث أن تتجسد هذه الأحلام في صورة شاب وحيد جاء للإشراف على المشغل. ولأن رجلاً واحدًا لا يصنع ربيعًا للحب، سرعان ما دفنت الفتيات أحلامهن تحت ماكينات الحياكة، باستثناء هيام، الفتاة الجريئة التي تذهب بعيدًا في التعبير عن حبها، وتزوره في بيته حيث يعيش مع أمه وأخته. لكن الأم سرعان ما تطردها باعتبارها أقل من أن ترتبط بابنها، والشاب ينقطع عنها عقب قبلة وحيدة ضخمتها الشائعات حتى صارت حملاً. ولم تدافع هيام عن نفسها ضد الشائعة، وبين أن يقتلها أهلها أو يزوجوها من شريكها في الحمل المزعوم اقتادوه خطفًا ليجبروه على الزواج، وعندما رأت المشهد قفزت من الشرفة، لكنها لم تمت. تعافت بعد الحادث وانتهى الفيلم بدخولها إلى حفل زفافه من عروس أخرى لترقص تحقيقًا لوعيدها له الذي أسمته نذرًا.
تذكرنا آلية تضخم الشائعة وإذلال كشف العذرية برائعة يوسف إدريس حادثة شرف. لكن الأهم هو أن ‘فتاة المصنع’ تكمل سلسلة روائية تبدو همًا مسيطرًا على محمد خان؛ إذ لا يمكن أن نمر على أحلام الفتيات المجهضة دون أن نتذكر فيلمين سابقين لخان: ‘أحلام هند وكاميليا’ و’بنات وسط البلد’.
الثلاثية تجعل من خان مبدعًا نسويًا؛ فهو يسرد حكاية الطبقة الشعبية في العشوائيات، من خلال تركيز على المرأة، يرى همومها بعين أنثوية، بل لا يرى في الأفلام الثلاثة سوى المرأة؛ فهي الأقوى والأكثر شهامة وصدقًا، بينما يبدو الرجل في الأفلام الثلاثة ضعيفًا دائمًا، نذلاً غالبًا، وميتًا أحيانًا!
تخلص كاميرا محمد خان للحارة العشوائية والبيت الفقير. وهو تقليد أفرط مخرجون مصريون في استخدامه. وبينما تأتي الصورة عند بعض المخرجين كفضيحة وعند بعضهم شعارًا سياسيًا أو تسلية لمن لم يسعدهم الحظ برؤية البؤس؛ فإنها في سينما محمد خان، وفي ثلاثيته النسوية تحديدًا تقوم مقام الصفعة. وكأنه يأخذ على عاتقه معارضة مقولة لويس بونويل: ‘أصنع أفلامًا لأثبت أن هناك عوالم أفضل من هذا العالم’.
محمد خان يثبت أن هناك عوالم أسوأ من العالم الذي يعرفه أي منا، لكنه لا يدعنا نستسلم لمشاعر الشفقة؛ فهناك في مواجهة بؤس العالم بشر أصلب مما نعرف، بمعنى أدق هناك نساء أقوى مما نتصور، يتحايلن على الحياة بأكثر من عمل في اليوم لتوفير اللقمة المرة، وهناك مع ذلك شهية مفتوحة للحب.
في الفيلم بعض روائح واقعية الثمانينيات ربما بسبب بعض الموتيفات التي قفزت من تلك الحقبة مثل السنترال ‘مكتب هاتف عمومي’ في الحارة على الرغم من وجود الهواتف المحمولة في أيدي بطلات الفيلم. وكان بيزنس السنترالات الصغيرة أحد تجليات سفر المصريين للعمل في الخليج، ولم تعمر الظاهرة طويلاً، إذ قوضها انتشار الهاتف المحمول.
ربما يكون الحدث السعيد في ‘فتاة المصنع’ هو ميلاد نجمة سينمائية جديدة اسمها ياسمين رئيس. ظهرت ياسمين من قبل في أدوار صغيرة المساحة بأفلام محدودة القيمة، لكنها في فيلم خان نجمة مبهرة. ويبدو أن ترصيع الفيلم بأغنيات سعاد حسني ليس مجرد احتفاء بسندريللا السينما العربية كما صرح محمد خان، بل محاولة لخلق تواز فني بين نجمة فيلمه ‘موعد على العشاء’ وبين نجمة ‘فتاة المصنع’ التي تشبه سعاد حسني في قربها من القلب وفي مظهر العفوية الذي يعكس تمكنًا من حرفة التمثيل.
نجمة تعشق الكاميرا خفة روحها وسيكون مستقبلها عريضًا، إن كان هناك من مستقبل للسينما التي تواجه تحدي القرصنة على الإنترنت.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسن:

    البنت زاكية اه انما تشبه سعاد حسني لأ

  2. يقول suleiman ahsaad USA:

    مبروك يا استاذ محمد خان على نيلك جنسية وطنك .

  3. يقول sami sarbi:

    انا من اشد المجبين والمتحمسن للمخرج المميز محمد خان واقول لة مبروك لانك قابت الحصول على الجنسية المصرية بعد ان مرور اكثر من سبعين عاما وانت تطالب بها كونك ولدت في ارض الكنانة مصر ومن ام مصرية ولكن محدمد خان لم يكترث للموضوع وتابع نجاحاتة وابداعة خاصة في فلمة السينمائي الرائع زوجة رجل مهم للراحل اجمد زكي وساركتة البطولة ميرفت امين
    محمد خان نموزج للفنان المهف الحس والمبدع ومع اخساسة بالغبن والظلم لعدم حصولة علي الجنسية المصرية لم يكن للموضوع اي تاثير نفسي علية لان جواز السفر هو لتسهيل الحياة ولا يمكن ان يكون لة اي دور في الابداع

إشترك في قائمتنا البريدية