التطرف اليهودي وخطايا اللا ـ موقف الغربي

قبل عملية حماس بمدة قصيرة انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي شريط يظهر فيه عدد من الشبان اليهود وهم يعتدون بالشتم والبصاق على جمع من المسيحيين كانوا في مسيرة دينية في أزقة القدس القديمة. وكان من المفترض أن تنجم عن هذه الحادثة (التي لها مثيلات متكررات) نتيجتان على الأقل: الأولى هي استفاقة العالم الغربي، المسيحي تاريخا وثقافة، على حقيقة التطرف الديني اليهودي. والثانية هي إعلان المؤسسات الدينية المسيحية الكبرى، مثل الفاتيكان وقيادات الكنائس الأرثوذكسية والبروتستانتية الخ، شجبها القوي لهذه الممارسات الهمجية ومطالبتها للسلطات الإسرائيلية بضمان احترام أتباع جميع الديانات في الأرض المقدسة، وكف أيدي المتطرفين من أتباع الديانة اليهودية عن بقية الناس من سكان وحجاج وزوار. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث رغم أن بعض كبريات القنوات التلفزية العالمية بثت هذا الشريط (ولو أنها لم تتبع بث الخبر بأي تعليق أو تفسير أو تنزيل لهذه الحادثة الشائنة في سياقها الحقيقي، أي سياق التطبيع الإسرائيلي مع ممارسات الاضطهاد الديني الناجم عن استفحال عقدة الاستعلاء اليهودي العنصري داخل الدولة العبرية التي يحبها العالم الغربي ويعطف عليها ويتداعى لها سائر جسده الاجتماعي والثقافي بالسهر السياسي والحمى العسكرية. وليست «الفزعة» الغربية عموما، والأمريكية خصوصا، لنجدة إسرائيل منذ 7 أكتوبر إلا الدليل الأحدث في سلسلة طويلة من الأدلة.
ولم ينتبه إلى خطورة هذه الحادثة ويأخذها مأخذ الجد في بريطانيا إلا المناضل اليساري توني غرينشتاين صاحب كتاب «الصهيونية أثناء الهولوكوست». وهو مناضل مثابر لا يكلّ ولا يمل، ولا يزال واقفا بالمرصاد لزعيم حزب العمال كير ستامر ولكامل القيادة العمالية الخانعة كل الخنوع للسرديات الإسرائيلية، والتي كان من أسباب تواطئها على التخلص من زعيم الحزب السابق جيرمي كوربن أنه مناصر لقضايا التحرر الوطني، وفي طليعتها القضية الفلسطينية.

كانت جريدة الديلي ميل اليمينية، التي تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن درك الضحالة والفجاجة الذي انحط إليه النقاش السياسي في بريطانيا، هي التي تزعمت الحملة الشعواء ضد جيرمي كوربن، وكان دليل الإدانة الدامغ الذي أتت به ضده فصدّقه كل راغب في التصديق

وكانت جريدة الديلي ميل اليمينية، التي تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن درك الضحالة والفجاجة الذي انحط إليه النقاش السياسي في بريطانيا، هي التي تزعمت الحملة الشعواء ضد جيرمي كوربن، وكان دليل الإدانة الدامغ الذي أتت به ضده فصدّقه كل راغب في التصديق، ومعظم البريطانيين راغب إلا من رحم ربك، أنها نشرت صورا للقاء جمعه مع بعض قادة منظمة التحرير في تونس في الثمانينيات!
وقد استاء توني غرينشتاين من الصمت المطبق الذي يقابل به العالم الغربي حقيقة الاضطهاد الديني الذي يسلطه غلاة المتدينين اليهود على أتباع الديانات الأخرى في فلسطين، فوجّه رسالة مفتوحة إلى كبير أساقفة كانتبري، رئيس الكنيسة الأنغليكانية، جاستن ولبي يسأله فيها: كيف يمكنك أن توفق بين واجبك المتمثل في الصدع بالحق والسعي لإحقاق العدل وبين امتناعك عن المجاهرة بانتقاد الأبارتهايد الإسرائيلي والاضطهاد اليهودي للمسيحيين الفلسطينيين؟ ولأن غرينشتاين كاتب ذو أسلوب لاذع فقد استهل الرسالة بالقول: «فضلا عن أن الكنيسة الأنغليكانية ركن من أركان الدولة البريطانية، فإن لها، حسبما أعلم، علاقة ولو عابرة بالمسيحية والأناجيل. وذكّر الكاتب كبير الأساقفة بقوله، في المحاضرة التي ألقاها يوم 6 سبتمبر عن المصالحة في الشرق الأوسط، إن السلام لا يمكن أن يأتي ويحل إلا من داخل المنطقة: «إني على وعي تام بأنه لا توجد حلول جاهزة من هذه الجهة (بريطانيا) أو أي جهة أخرى خارج المنطقة. نحن لسنا هناك. وليست تلك المنطقة وطنا لنا أو سكنا. وليست فيها حياتنا ولا جذورنا. إني أتحدث بصفتي رجلا أبيض وكبير أساقفة كانتربري». ويعلق غرينشتاين بأن كلمات التنصل هذه كان يمكن أن تتخذ ذريعة لإشاحة الوجه عما كان يحدث في ألمانيا النازية أو في جنوب إفريقيا زمن الأبارتهايد، ذلك أننا لم نكن هناك أيضا، ولم تكن جنوب إفريقيا أو ألمانيا وطنا لنا أو سكنا!
وبعد أن يذكّر غرينشتاين كبير الأساقفة بمسؤولية بريطانيا عن التراجيديا الفلسطينية، يقول له: بما أن العنصرية في تعريفك هي اللاسامية حصرا (لأنه لا توجد أي عنصرية أخرى!) فهل كانت اللاسامية هي المسؤولة عن جرائم العبودية؟ أو عن الأبارتهايد في جنوب إفريقيا؟ أو عن المجاعة التي عمت في إيرلندا بسبب سياسات الاستعمار البريطاني؟
ولكن ربما يبطل العجب من تقاعس الكنيسة الأنغليكانية عن نصرة المسيحيين في فلسطين إذا علمنا أن كبيرها مؤمن أن الدليل على أن إسرائيل ليست دولة أبارتهايد هو أنه ليس لديها دستور!

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية