التطبيع… التباسات فلسطينية… آمال المثلوثي ونادي الوحدات

حجم الخط
0

ما زالت تداعيات حدثين محليين تلاحقنا، وتثير بيننا مجددا عناصر الالتباس حيال مسألة تحريم التطبيع الثقافي مع إسرائيل؛ فالحدث الأول تمحور حول الانتقادات الشديدة التي رافقت زيارة الفنانة التونسية آمال المثلوثي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإصرارها على إحياء عدة حفلات في مدينتي رام الله والقدس، بينما اضطرت، في النهاية، لإلغاء حفلها في مدينة حيفا، خاضعة لضغوطات بعض الجهات التي تنادي بضرورة مقاطعة إسرائيل ثقافيا.
أما الحدث الثاني فيتعلق بنادي الوحدات الرياضي الأردني، الذي أعلنت إدارته قبل أيام معدودة أن لديها «توجها بعدم المشاركة في مباراة ضد فريق شباب الأهلي الإماراتي في الملحق المؤهل لدوري أبطال آسيا لكرة القدم لوجود شبهة تطبيعية»؛ والمقصود بهذه الشبهة هو مشاركة اللاعب الفلسطيني مؤنس دبور ابن مدينة الناصرة، المحترف حاليا ضمن صفوف النادي الأهلي الإماراتي، حيث سبق له وشارك كلاعب دولي ضمن منتخب إسرائيل. لقد أرجأت إدارة نادي الوحدات حسم قرارها في آخر اجتماع لها، لبحث تفاصيل هذه المسألة «بطريقة فنية وتفصيلية أكثر» كما جاء في الأخبار.

هناك اعتباطية قاسية أحيانا في نشاطات لجان المقاطعة، وملاحقاتهم لبعض الفنانين والأدباء الذين يقررون المجيء لفلسطين للوقوف مع أهلها والتضامن معهم

ما زالت مسألة تحريم التطبيع مع إسرائيل تخضع «لعادات وموروث قبائل العرب»، حيث لن نجد حولها إجماعا عريضا، من شأنه، لو وجد، أن يسهم في تحويلها إلى قضية موحِّدة ومؤثرة؛ ونجد في المقابل، أن بعض الفئات من الناشطين السياسيين الراديكاليين، استغلوا الأوضاع العربية الراهنة وتدهور الحالة السياسية والاجتماعية في معظم الدول العربية والإسلامية، وغياب أو ضعف مكانة الحركات الوطنية المركزية، وشل دور الصفوة والنخب وإخمادها، وعيّنوا أنفسهم أوصياء على وضع المساطر التعريفية لمعاني التطبيع، وقواعد تحريمه، ثم أعطوا لأنفسهم الحق بإصدار صكوك الغفران للناس، أو دمغهم بختم المطبّعين، كما حصل في السنوات الأخيرة، عندما تدخلت هذه الفرق، ولاحق زعماؤها فنانين ومثقفين جاءوا إلى فلسطين للمشاهدة والتعلم وللتضامن. تختص لجان مناهضة التطبيع مع إسرائيل في تحريم التطبيع الثقافي، بينما لا يلاحق القيمون عليها المطبّعين في المجالات والميادين الأخرى، وهي في الواقع الميادين الأخطر والأكثر تأثيرا في مصير فلسطين وفي مصالح شعوب الدول العربية، فأصول تحريم التطبيع بدأت سياسية وتبنتها علنيا أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية والعالمية الحليفة؛ وهذه المقاطعة السياسية استوجبت بالضرورة، لعقود طويلة، المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، أو الكيان الصهيوني، كما كانوا يدعونه، وكذلك المقاطعة العسكرية والأمنية؛ ثم كانت المقاطعة الثقافية بمثابة تحصيل حاصل، ومثلها مقاطعة مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته. لم يعد هذا الواقع قائما؛ وجميعنا يعلم كيف ومتى انخلعت جميع السدود، ومتى سقطت قلاع المقاطعة، علنا أو في السر، حتى أصبح، على ما يبدو، التشبث بالمقاطعة الثقافية هو الخيار اليتيم المتاح والشعار الأسلم لمن يرفعونه ويتشددون بضرورة إنفاذه؛ لأنه، بكل بساطة، يستهدف الأفراد – من فنانين وكتاب وشعراء ومهنيين خاضعين لنقابات قادرة على محاسبتهم كالكفرة وكالمرتدين- ولا يتعاطى مع أنظمة الحكم القوية أو المستبدة، ليست المطبعة مع إسرائيل وحسب، بل المتحالفة معها، ولا يتعاطى كذلك مع أصحاب رؤوس المال المتشابكين مع أقرانهم الإسرائيليين في الأسواق العالمية، أو من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، أو عن طريق عالم المصارف، وغيرها من أدوات إدارة شؤون العالم ودوله.
لا اعترض على حق من يعمل على جبهة معارضة التطبيع الثقافي مع إسرائيل، أو يواجه بسببها المحاسبة، كما في حالة اللاعب مؤنس دبور وفريق الوحدات الأردني؛ لكنني، كما كتبت مرارا في الماضي، أوكد مجددا أن هنالك اعتباطية قاسية أحيانا في نشاطات تلك اللجان، وفي ملاحقاتهم لبعض الفنانين والأدباء الذين يقررون المجيء لفلسطين للوقوف مع أهلها والتضامن معهم من على أرض الوجع والنزف؛ فتلك اللجان تعلن أن نضالها موجه من أجل مصلحة فلسطين وأهلها. وإذا كان هذا هو الهدف، فلتكن مصلحة فلسطين وأهلها هي المسطرة التي يجب أن تخضع لها قراراتهم وتقيّم بحسبها مآلاتها. لقد قرأت لوائح لجان المقاطعة وناقشت بعضها في الماضي؛ ومع احترامي لمن وضع نصوصها ومعاييرها، سواء عندنا في الداخل أو في فلسطين المحتلة، أو في تونس، أو في عمان، فهي مليئة بالشعارات أو بالتناقضات، أو بالمعايير الملتبسة والقابلة للتأويل والمساءلة. لن أدخل في التفاصيل الآن، فالتطرق إليها سيدخلنا في متاهات لسنا بحاجة إليها. وبعيدا عن الشعارات والتنظير أنا أومن بأن من يأتي خيامنا مناصرا حقنا دون قيد أو شرط، أو دون مداهنة لإسرائيل ولمؤسساتها، وداعيا على الاحتلال وعلى جلاوزته وزارعا الأمل والجمر في رماد حرائقنا، وماسحا الدمع بشغاف قلبه من عيون أطفالنا، لا يمكن أن نعتبره مطبّعا، وأن نزيله من قواميسنا؛ بل هو مناضل نظيف ونصير للحق، بالقول وبالفعل. هكذا كانت التونسية آمال المثلوثي التي جاءت القدس وفي صدرها أنهار من لهفة وحب، وحملت في يمينها راية فلسطين وصوّبت سبابة يسراها نحو عين العدو، وظللت سماءها بالندى وبالكوفية المرقّطة، وغنّت بحماسة وبشجن كما غنى الإمام: «يا فلسطينية، وانا بدي أسافر حداكو، ناري بايديّ وايديّ تنزل معاكو على راس الحية وتموت شريعة هولاكو..» فاهتز الشيخ والرمح والحجر.
لا أعرف من وضع النصوص الخاصة بتحريم التطبيع الثقافي مع إسرائيل، سواء في تونس أو في فلسطين، لكنني على قناعة، إذا كان الهدف هو مصلحة فلسطين وشعبها فهذا ما حققته آمال التونسية بيننا، فلها من فلسطين وأهلها كل الحب والتبجيل، مع أنني تأسفت لأنها آثرت ألا تحيي حفلها في مدينة حيفا؛ وحيفا، في هذه المقاربة الجميلة، هي أخت للقدس ورام الله، ولكن هذه قصة أخرى قد نعود إليها.
قبل خمسة أعوام نقل على لسان اللاعب محمد صلاح تصريح مفاده أنه سيترك فريقه، ليفربول، اذا تعاقدت إدارته مع اللاعب مؤنس دبور، وكانت حجته وقتها السبب نفسه الذي تطرقت إليه اليوم إدارة نادي الوحدات الأردني. أستطيع طبعا أن اتفهم تساؤلات اللاعب صلاح، إذا فعلا حصلت حينها، وأستطيع أن أتفهم أيضا تردد نادي الوحدات حيال مشاركة اللاعب دبور في منتخب إسرائيل لكرة القدم، ورغبتهم في استيضاح بعض التفاصيل الفنية والتقنية؛ لكنني لن أتفهم موقفهم إذا أفضى في النهاية إلى مقاطعة دبور، أو أي فريق يلعب فيه. لقد كتبت يومها رسالة مفتوحة لمحمد صلاح حاولت أن أبدد فيها شكوكه إزاءنا، نحن المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، وإزاء هوية مؤنس دبور الفلسطينية الإسلامية؛ وحاولت كذلك أن أضيء أمامه ما خفي عن علمه، وأن أوضح له ما جهله عن واقعنا المعقد والملتبس. ما قلته في حينه لمحمد صلاح ما زال جيدا اليوم ومناسبا أكثر أمام الأخوة في نادي الوحدات لأنهم أبناء الجرح الفلسطيني، وحراس التغريبة الفلسطينية التي حرسها على الضفة الأم، أهلنا نحن، ويحرسها اليوم نحن الباقون في حلق القدر. تجهل العرب قصتنا، نحن المنزرعون في وطننا، والجهل كان مطبوعا في نفوس أشقائنا، أما أنتم، يا اخوتنا في التراب، فيجب أن تعرفوا فصول الحكاية، كل الحكاية. ولعل النائب في البرلمان الأردني خليل عطية قد ذكّركم بها قبل أيام، حين توجه إليكم من غيرته عليكم وعلى مصلحة القضية ناصحا وقائلا: «’شعرت بالقلق مثل غيري من الحريصين على مسيرة نادي الوحدات، جراء التقارير التي تتحدث عن سيناريو مقاطعة المباريات مع فريق إماراتي بسبب وجود اللاعب الفلسطيني مؤنس دبور. وأربأ بالأخوة والأحبة في نادي الوحدات إثارة شبهات الجمهور بناء على افتراضات تساوي بين الجلاد الصهيوني الإسرائيلي والضحية من أبناء شعبنا الفلسطيني.. إن اللاعب دبور فلسطيني عربي أبا عن جد، ولا يمكن بحال من الأحوال خدمة العدو الإسرائيلي والإساءة لأهلنا من أبناء فلسطين المحتلة عام 1948.. اللاعب مؤنس دبور مثل غيره «نجم فلسطيني» في قلب الكيان، وله سمعة رياضية احترافية طيبة ومواقف وطنية مسجلة ومعروفة، انتهت عند اعتزاله اللعب لصالح فرق العدو ووجوده على رأس فريق عربي شقيق خدمة للمحترفين من أبناء شعبنا الفلسطيني». لقد وضع بيان النائب خليل عطية معظم النقاط على حروفها، وشدد في بيانه الشامل على تعقيدات واقع الشباب الفلسطيني داخل إسرائيل وعلى معضلات التناقض الهوياتي وتجاذباته الدائمة بين المواطنة والوطنية. ما كتبه النائب عطية مهم للغاية وفي توقيت مناسب، بينما من المؤسف والمزعج أن نقرأ موقف بعض المنظرين الذين كتبوا في مسألة التطبيع، وحول حدود مواطنة مؤنس دبور ووطنيته الناقصة بسبب قبوله أن يكون لاعبا في منتخب إسرائيل، وهم بأنفسهم يعملون في جمعيات ومؤسسات ومعاهد دراسات ممولة من جهات تصنّع التطبيع وحليفة لإسرائيل، وبعضهم يعتبرون من أقرب شركائها في التخطيط والتربص بالشعب الفلسطيني وبقضيته. إنهم وكلاء التطبيع غير المباشر وبُناته الخطيرون. عنهم وعن نظرياتهم في التطبيع والتتبيع سأكتب.
لقد تعلمنا في فلسطين، بعد أن أضعنا حلم البرتقال وفككنا ضفائر عذارانا على باب خيمة، أن نكون واقعيين مثل رائحة الزعتر، وأن نصغي دائما لحدسنا، وأن نأخذ حذرنا من المزايدين والمغرضين والمتلفعين بالثقافة المبهرجة. فأهلا بالتونسية والتحية للوحدات.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية