التراث الثقافي في الفضاء المعرفي الأورومتوسطي: ‘ العالم العربي’ في باريس

حجم الخط
0

جولة عبر أروقة معرض ‘ألف ليلة وليلة’ بمعهد العالم العربي، في جنبات المتحف الجديد للمعهد، في قسم الفن الإسلامي المدشّن حديثا بمتحف اللوفر، وفي الأخير في متحف رصيف برانلي .
الفضاء الأورومتوسطي الممتد من النيجر إلى أقصى شمال النرويج ومن دبلن إلى دمشق ليس بالطبع فضاء سياسيا وجغرافيا تحده حدود قانونية، وإنما هو أكثر من ذلك فضاء ‘وظيفي’، أي عبارة عن شبكة من العلاقات، تأسست عبر التاريخ عن طريق التبادل والتفاعل المشترك والصراع، ومافتئت تتطور في الحاضر باستمرار. الفضاء الأورومتوسطي الكبير، شمال، جنوب، شرق وغرب المتوسط، فضاء تواصل مكثف أنتج معرفة مشتركة لاشك أن تعميمها وتقويتها يصبان في صالح السلم والرقي المشترك. لذا يعتبر النظر إلى كيفية التعامل مع الثقافات المسهمة في هذا الفضاء أمرا بالغ الأهمية، تضطلع فيه المعارض والمتاحف بدور جد مهم.

ألف ليلة وليلة
حتى الثامن والعشرين من نيسان/ أبريل 2013 يمكن لزائر معهد العالم العربي بباريس أن يشاهد معرض الف ليلة وليلة. غني بروابطه، أزرق زرقة الليل هو الرواق الأول للمعرض، حيث يقود الزائرين بداية إلى فيلولوجيا النص ذي الصيغ المتعددة، أي إلى تاريخه المنفتح، الذي يطل على ماضي الأمكنة البعيدة لبلاد فارس والهند.. يمر الطريق عبر الصيغ والروايات المختلفة للنص، ثم عبر مرحلة تدوينه في الشرق في مخطوطات يدوية تتخللها رسوم منمنمة بعناية، ليفضي في الأخير إلى ترجماته إلى اللغات الأوروبية، ابتداء من بدايات القرن الثامن عشر، التي شرعت في دمج الشمال في أتون النص القديم. من ستستهويه هذه المغامرة سيستعرض لا محالة دينامية مدهشة تثير فضوله وتساؤلاته عن الإطار التاريخي ‘الآخر’، وبصورة أقل ”الذاتي”، الذي أنتج فيه.
في الجزء الموالي من المعرض، الذي هو عبارة عن غرف صغيرة متتالية، تتبدى للزائرين بعض العلامات ذات الطبيعة الثقافية، أي تلك المعرفة الثقافية التي بواسطتها يمكن للزائر الأوروبي ان يقترب بصورة أفضل من فهم تلك القصص المشرقية. تقدم تلك المعرفة على لوحات مقروءة وكذا – قصد التقريب من الأذهان – على شكل قطع معروضات مختارة بعناية يتعرف من خلالها الزائر على ما كانت تعنيه مثلا الملاحة في العصر الوسيط في كل من بلاد العرب وفارس. عن سر تلك المخلوقات اللامرئية والخارقة (الجن وغيره) التي يواجهها أبطال الكتاب باستمرار.عن الكيفية التي كان ينظر بها إلى الحب والعلاقات الجنسية. أفلا تشكل الخيانة الزوجية بداية قصص ألف ليلة وليلة؟ كيف تم التعبير عن الانتقام والصراع والحرب بواسطة اللغة؟
يسلط الجزء الأخير من المعرض الضوء على تلاقي ألف ليلة وليلة بأوروبا، إذ يعرض نماذج جميلة لكيفية استحضار الموضوعات والمؤلف في الإنتاجات الفنية بالغرب نجينسكي ومجموعة الباليه ‘باليت روس’ يرقصون رقصة شهرزاد.
بيد أن الحديث في هذا الشأن عن فضاء معرفي مشترك حول ألف ليلة وليلة أمر ليس في محله. فبالكاد تتيح الأروقة الأخرى، بالإضافة إلى دليل المعرض خطوات محتشمة إلى مثل ذلك الفضاء. كيف ذلك؟ هل فقط لأنه تم تقريب الظواهر الثقافية الواردة في النص العربي الفارسي، سياقاتها التاريخية، من فهم القارئ الأوروبي؟ وبعبارة أفضل: لقد تم تقريب الزوار الغربيين من الفهم. ولكن هل نجح ذلك تماما بدون الانبهار بالشرق الأسطوري؟
حيث يظهر أن منحى التطور المعرفي في أوروبا يبحث عن سبيل آخر. إذ لم تعد الأسطورة هي موضع الاهتمام ولكن دقة الإدراك ووضوح التصوير. فبعد أن كانت غاية جالاند في طبعات ألف ليلة وليلة بداية القرن الثامن عشر هي أن يصور الشرق بمنظار الركوكو، أضحى أوائل القرن العشرين الاستيعاب العلمي الشامل عن طريق إينو ليتمان هو الغاية. لتغدو في بداية القرن الواحد والعشرين الدقة المثالية للترجمة على المستوى اللغوي على يد كلوديا أوت هي المبتغى.

المتحف الجديد لمعهد العالم العربي
من يصعد في عمارة معهد العالم العربي الجميلة والمضيئة التي صممها جون نوفيل إلى الطابق السابع، ويلج باب المتحف الجديد للمعهد، يشعر بجمالية الإخراج الرفيع لثقافة وثقافات العالم العربي في وحدة فنية نموذجية. اثنى وعشرون بلدا عربيا أسست مع فرنسا سنة 1980 معهد العالم العربي. الذي افتتح في الأخير سبع سنوات بعد ذلك.
تلكم الإثنى والعشرون بلدا ساهمت أيضا في إنشاء المتحف الجديد واختارت تصميما جد عصري أو على الأقل سمحت به .
لماذا يعتبر هذا التصميم عصريا؟ من ناحية، بالنظر إلى طريقة تهيئة فضاء المتحف، ومن ناحية أخرى بسبب الفكرة التي تصير جلية من خلال ذلك التصميم.
يأتي الزوار عبر سلالم أنيقة مشيدة بتقنية كبيرة ولا يلجون – كما قد تظنون – بناء مشرقيا مستنسخا عن مدينة فاس، وإنما قاعة طويلة شبه خاوية كلها مرايا باستثناء منافذ قليلة ضيقة ظلت فارغة، يشاهد المرء عبرها لقطات فيلم محيرة. شيخ كبير السن في لباس عربي يعبر باحة ثم يعود. من أين؟ إلى أين؟ في حائط المرايا يرى الزائرون أنفسهم باستمرار. وبانعكاس ذواتهم على المرايا يشعرون وكأنهم يهيأون للقاء مع ذلكم المختلف ثقافيا. إذ لا يحدث عندها انعكاس نرجسي متعجرف للذات. وإنما الإحساس الذي يفرض نفسه هو أشبه ما يكون بالاغتراب. هل ذلكم الانعكاس تحذير؟ إشارة لا بد منها؟
عند الخروج من قاعة المرايا يصل الزائر – وهو يلج قسم التراث المشترك – إلى قاعة مضيئة مشعة تمثل القاعة الرئيسية للمتحف. خروج من ظلمة التناقض الوجداني إلى نور ثقافة مضيئة أنتجها أناس عظام. ‘انسوا النسق الخطي، المقاربة التقليدية التي تعتمد التسلسل الزمني” كما تشير إلى ذلك صفحة المتحف على الإنترنت. انسوا، هكذا يمكن أن نتابع التحذيرات، التوصيفات النمطية والثابتة، انسوا التبسيطات، وكذا أقطاب الهيمنة التي كرستها النظريات التقليدية للثقافة.
يجسد المعرض (للأسف غير المنتهي حتى الآن) الثقافة والثقافات العربية في شكل مواضيع : التراث المشترك، المقدس، المدن، الفن، ثقافة العيش…
ما هو أصل الثقافات العربية؟ ليست قصصا وإنجازات قبائل البدو العربية قبل الإسلام وحدها، ولا أيضا الكتاب المقدس وحده، ولكنها أيضا حضارات مدن بلاد الرافدين، ووادي النيل وبلاد الشام.
هل العالم العربي إسلامي؟ أي نعم، ولكنه أيضا مسيحي ويهودي. هل يتكلم الناس في العالم العربي اللغة العربية؟ أي نعم، ولكن أيضا الأمازيغية والكردية والآرامية.

في القاعة الرئيسية المضيئة والمغطاة بثوب رقيق على شكل خيمة تنتصب دواليب زجاجية كثيرة عالية إلى حد الغرابة، الواحدة تلو الأخرى بدون إطار مرئي، لدرجة يخال الزائر معها أن باستطاعته ان ينظر عبرها حتى آخر القاعة.
علقت معروضات كثيرة تعالج موضوعات مختلفة بخيوط رفيعة إلى السقف، يخيل معها للمرء أنها تتأرجح. كل هذا يمنحك انطباعا بشفافية نادرة لا تخص فقط كل الثقافة العربية باعتبارها بنية منفتحة ومتعددة الأشكال والصيغ، ولكنها توحي أيضا بتداخل الموضوعات الثقافية فيما بينها وكذا الحقب التاريخية حتى العصر الحاضر.
فيما قبل كان متحف معهد العالم العربي متحفا خاصا بمنتجات الفن العربي والصناعة التقليدية، منذ 2008 تم الاشتغال على تصور جديد. وفي سنة 2011 حظي المتحف بصفة متحف فرنسي. ليفتتح سنة ألفين واثنا عشر. أما اليوم فيمثل المتحف أجمل وأذكى وأغنى معلما لثقافة تتميز بتعدد صورها وأشكالها. روبيرتو أوستنيلي مبدع ذلك التصميم الفني (السينوغرافيا) الرفيع يستحق هنا أن يشاد به.
لاشك أنه للتصميم الفني غير الخاضع للتسلسل الزمني سلبياته، حيث تبدو الثقافة والثقافات العربية جوهرية، مترفعة عن التغير الزمني وغير مدعوة فعلا للتطور.
نتمنى لمعهد العالم العربي أن يتجاوز قريبا مرحلة اللامبالاة وعدم الثقة وخلق الشماتة وحالة الصراع التي كثيرا ما شوشت ولازالت تشوش على امكاناته الهائلة، بحسب ما أشار إليه مؤخرا تقرير المجلس الأعلى للحسابات لشهر ايلول/سبتمبر 2012، الذي أثبت وجود اختلالات على مستوى التدبير. ربما تنجح الآن بداية جديدة أيضا في الإدارة والتسيير مع الرئيس الجديد وزير الثقافة الأسبق جاك لانغ.
تتحمل الحكومة الفرنسية نصف ميزانية المعهد، بالإضافة إلى هبات مشجعي الفنون من الاقتصاد الفرنسي كمؤسسة لاغاردير المانحة، على سبيل المثال. فيما يخص النهج المستقبلي للمتحف نتمنى، فضلا عن تكثيف العلاقات الثقافية بين فرنسا والعالم العربي، أن يتم الانفتاح على الفضاء الأكبر الذي هو الفضاء الأورومتوسطي الكبير الذي يمتد بين أوروبا وبلدان الساحل الافريقي، الذي يحتل فيه العالم العربي، المرتبط على مستويات عديدة بالشمال الأوروبي وبالجنوب الافريقي وبالشرق الأوسط، موقع الصدارة. كذلك في المانيا ينبغي أن يفكر مليا في هاته الشبكة من العلاقات .
ترجمة: عبد اللطيف بوستة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية