التاريخ والسينما: هندسة الراي العام بالتأثير المتبادل!

من المعروف ان السينما والتلفزيون يعتبران المصدر الرئيسي للترفيه في العالم، فعندما يشاهد المرء فيلما سينمائيا يشاهد حركة وأمرأة جميلة وأشياء لا يراها في الواقع اليومي ويسمع الموسيقى وهو جالس في منزله دون ان يفكر فهي تسلية كسولة جدا تكون فيها جميع حواسه محاصرة من قبل الفيلم، ومع الاخراج الماهر يكون المرء غير قادر على التفكير بمحتويات الفيلم التي تكون لديه احداثا يتقبلها المشاهد بكل رحابة صدر على الرغم من معرفته التامة بأن ما يشاهده تمثيل، بل ان الفيلم يخترق عقل المشاهد الذي يبدأ بالاعتقاد بأن الأحداث التي يشاهدها في الفيلم هي الحقيقة، فمشاهدة الفيلم السينمائي شبيهة بعملية تنويم مغناطيسي.
ما لا يعرفه الكثيرون ان الافلام هي ايضا المصدر الرئيسي للمعلومات التاريخية فبالاضافة الى ما ذكرناه أعلاه يمتاز المواطن العادي شرقا وغربا بقلة ثقافته واطلاعه وان قرأ شيئا فهو على درجة كبيرة من الضحالة الثقافية فمثلا كلما زرت اكبر مكتبة في مدينة فرانكفورت الالمانية اسأل الموظفين عن اكثر الكتب مبيعا والجواب المعتاد هو ‘هاري بوتر’، واما اكثر القصص الأكثر جدية مبيعا فهي قصص مثل قصة ‘شفرة دافنشي’ التي ليست افضل حالا من ‘هاري بوتر’. و’شفرة دافنشي’ مثال بارز هنا، فهي عن التاريخ حيث قدمت سردا لأحداث على اساس انها تاريخ على الرغم من عدم وجود أية علاقة بين القصة والتاريخ الحقيقي. وكم من مدعي الثقافة (عربا وأجانب) قالوا لي بأن القصة مثال للأدب والتاريخ معا، وبذلك تمتاز السينما بتأثير كبير وضار على الرأي العام بل انها تساهم وبشكل فعال في هندسته، وهل يعترف القائمون على صناعة السينما بهذا الاتهام؟ طبعا لا، بل انهم يبالغون بالادعاء بان هذا غير صحيح، فالسينما كما يزعم القائمون عليها لا تظهر سوى اشياء موجودة اصلا في المجتمع وان للسينما رسالة فلسفية اجتماعية ! وفي الواقع انهم يدافعون عن ارزاقهم فهم يجنون الملايين من هذا الهراء.
وسأقوم في هذا المقال بعرض بعض الأمثلة البسيطة لتوضيح وجهة نظري مع الأخذ بنظر الاعتبار اننا لسنا هنا بصدد الأفلام الخرافية أو الجانب السياسي للأفلام السينمائية حيث سيقتصر موضوعنا هنا على الأفلام السينمائية التي تتناول مواضيع تاريخية.
ففي فيلم The Da Vinci Code أي ‘شفرة دافنشي’ الذي يؤكد مؤلفه ان جميع المعلومات التاريخية فيه حقيقية 100%، ثم تنازل في مقابلة لاحقة ليقول 99%، اننا نجد ان القصة تعتمد على مفاهيم الـHoly Grail وزواج ماريا مجدلينا من المسيح وانجابها لطفلة منه وقيامها بأخذ الطفلة الى فرنسا. ولكن هل هذه حقائق تاريخية؟ كلا، فالـHoly Grail اسطورة أوروبية ظهرت في اوروبا في القرن الثاني عشر ولا أحد يعرف معنى هذا التعبير ولذلك لم استطع العثور على ترجمة مناسبة له، كما أصبح موضوعا خصبا للنقاش. واما زواج ماريا من المسيح وانجابها منه ثم هجرتها الى فرنسا فأسطورة من العصور الوسطى أيضا ومن المحتمل ان اختلاق هذه الأسطورة كان لاسباب اقتصادية، ففي العصور الوسطى ادع الكثير من الكنائس وجود علاقة بينها وبين شخصيات في التاريخ المسيحي لأن هذا يجلب الحجاج ومعهم الأموال. ومن المناسب ان تدعي كنيسة في جنوب فرنسا انه قد بنيت في مكان وصول ماريا في فرنسا بل التنويه الى وجود رفاتها هناك لأن هذا سيجلب الحجاج والتبرعات. ومن المعروف ان احدى عشرة كنيسة في اوروبا ادعت في نفس الوقت امتلاكها لرفات احد القديسين.
وهناك مثلا فيلم The Patriot أي ‘الوطني’ عن حرب الاستقلال الأمريكية (1775 1783). وأود ان اذكر القارىء ان الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بثلاث عشرة ولاية اسستها انكلترا عند احتلالها لتلك المنطقة في أمريكا الشمالية وثم بدأ الانكليز بالهجرة اليها وحصلت بعد ذلك حرب الاستقلال الأمريكية التي انتهت بانسحاب انكلترا واعلان الولايات الثلاث عشرة كدولة مستقلة واطلق عليها اسم الولايات المتحدة الأمريكية. لقد كان هذا الفيلم عن البطل الوطني الأمريكي بنجامين مارتن الذي كان في الواقع شخصية خيالية تماما مثل الكثير من الشخصيات في هذا النوع من الافلام. كما كان الأمريكيون يتحدثون في الفيلم اللهجة الأمريكية الحالية اما الانكليز فكانوا يتحدثون بلهجة ارستقراطية حديثة مما يعطي الانطباع ان الانكليز كانوا جيشا اجنبيا يحتل الولايات المتحدة، بينما في الواقع ان الطرفين تكلما نفس اللغة واللهجة لأن الطرفين كانا من انكلترا، فسكان الولايات الثلاث عشرة الامريكية كانوا انكليزا هاجروا هم أو آباؤهم الانكليز الى الولايات الثلاث عشرة لأنها كانت تحت السيطرة الانكليزية ومن الحقائق التاريخية ان الكثير من السكان المحلين آنذاك أيد الجانب الانكليزي في هذه الحرب ومن المفارقات ان بنجامين فرانكلين، وهو احد اشهر سياسيي الجانب الأمريكي ويعتبر من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة واكثرهم علما، دخل في خلاف حاد مع ابنه لأن الابن أيد الجانب البريطاني الذي عينه حاكم ولاية نيو جرسي وقد تبرأ بنجامين منه نتيجة لذلك، فحرب الاستقلال الأمريكية لم تكن سوى حرب أهلية بين انكليز وانكليز.
وبعد هذا المثال لنأخذ أمثلة أخرى اكثر شهرة في تاريخ السينما مثل فيلم Birdman of Alcatraz أي ‘رجل طيور في الكاتراز’ الذي انتج عام 1962 ومن تمثيل برت لانكاستر الذي برع في تمثيل الرجل الثوري الوسيم الذي يدافع عن الحق. وقام في هذا الفيلم بتصوير مجرم معتوه وكأنه ثائر من اجل العدالة وعالم كبير وعبقري لا يكذب ابدا (الا انه يقتل وعلى ما يبدو ان هذا ليس بالمهم بالنسبة للفيلم). فهنا يمثل لانكاستر دور روبرت ستراود، السجين الثائر والمتمرد على النظام المتمثل في السجن. وحسب الفيلم فان هذا السجين يتحول الى عالم في الطيور ويتحدث بلهجة راقية وهادئة. وفي الواقع ان كل هذا لم يكن سوى سيل من الأكاذيب. فروبرت ستراود الذي كان ابعد ما يكون عن الوسامة لم يكن سوى قواد حكم عليه بالسجن لقتله رجلا لم يدفع قيمة اتعاب عاهرة عملت لحسابه ثم قام بقتل حارس في السجن لسبب بالغ التفاهة مما ادى الى الحكم عليه بالسجن مدى الحياة قضى منها 42 سنة في السجن الانفرادي. ومما هو جدير بالذكر ان روبرت ستراود لم يترك على انفراد مع احد قط بسبب ميله الشديد الى الهجوم الوحشي او الجنسي الشاذ على اي شخص امامه بشكل لا يمكن السيطرة عليه. وقد تكلم الكثيرون عن مدى وحشيته وشذوذه الجنسي الى درجة ان البعض وصف الفيلم بالمهزلة وطلبوا من برت لانكاستر الاعتذار للجمهور عن النفاق الذي كان السمة الطاغية في الفيلم.
ولنأخذ فيلما آخر كمثال وهو ‘Gladiator’ أي ‘المصارع’ من تمثيل رسل كرو. والفيلم عن مصارعي العصر الروماني والمصارع هنا هو رجل مسلح يقاتل رجالا مسلحين آخرين حتى الموت في ملعب يكون ممتلئا بالمشاهدين. وكانت هذه الفعالية ابرز انواع الترفيه آنذاك. واما المصارعين فكانوا عبيدا أو محكومين بالاعدام وأحيانا نادرة يكون المصارع متطوعا. يمثل رسل كرو هنا دور قائد عظيم يدعى مكسيموس تقوده سلسلة من الأحداث المؤسفة ليصبح عبدا ومصارعا بعد اغتيال ألأمبراطور الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس على يد ابنه كومودوس ليستولي الأخير على ألامبراطورية. وقد وظف المخرج خبراء مشهورين في التاريخ الروماني ولكن بدون جدوى، فالطبع يغلب التطبع والانحراف عن الحقيقة كان هائلا. فلا يوجد شخص يدعى مكسيموس في التاريخ الروماني، كما ان الامبراطور الأب لم يتعرض للاغتيال على يد ابنه ولم يقتل أصلا بل توفي بالطاعون. واما الامبراطور الابن فحكم لعدة سنوات وليس لفترة قصيرة كما ظهر في الفيلم ولم يمت في معركة مع عبد في الملعب بل انه من الصعوبة تخيل الامبراطور الروماني يهين نفسه بالدخول في معركة مع عبد وهو الذي يستطيع اعدامه متى شاء.
ولم تكن الأفلام العربية التاريخية افضل من مثيلاتها الغربية ولهذا مقال آخر.
*كاتب عراقي يقيم في اليمن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فوكاش:

    أحسنت
    لك جزيل الشكر ولجريدتنا

إشترك في قائمتنا البريدية