البارانويا بتمرير صفقة القرن وهزيمة القومية العربية

حجم الخط
3

وأخيرا أخرج ترامب بطاقة السحر من جيبه، التي حاول الترويج لها وأعوانه سنوات طويلة، وبالمعنى العام «ينطبق عليه المثل القائل «تمخّض الجبل فولد فأرا»، فهو ردد الحل الصهيوني المعروف، وأضفى عليه اعترافا رسميا أمريكيا، وما يشبه الاعتراف الدولي (بحكم تأثير واشنطن عل العديد من دول العالم) في العديد من المسائل.
ترامب ذكر بوجه عام عناصر السيادة الإسرائيلية على كامل الأرض الفلسطينية، ورغم ما ادّعاه من حرص على الفلسطينيين، لكنه نزع منهم أي عنصر للسيادة على وطنهم، مع تأكيده على أن القدس الموحدة ستظل عاصمة الدولة اليهودية، ولن نساومها يوما على أمن أرض إسرائيل التاريخية.
نتنياهو كان أوضح من ترامب في تفصيل بنود «صفقة القرن» بالقول: كل الأرض غرب نهر الأردن ستظل تحت السيادة الإسرائيلية، القدس ستظل موحدة وهي مفتوحة لأصحاب كل الأديان. ستظل السيطرة الأمنية الإسرائيلية قائمة. مشكلة «اللاجئين الفلسطينيين»هي خارج الحل، ستحافظ إسرائيل على الوضع العام مدة أربع سنوات، تكون فرصة للفلسطينيين للتفكير في البنود خلالها. معروفة مواقف إسرائيل بالطبع من المستوطنات، بأنها ستتبع إسرائيل. سيتم ضم منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت، ويجري العمل على ضم المنطقة C (تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية). فما الذي سيتبقى للفلسطينيين من أراضي لحكمها؟ الصفقة عمليا تفرض الاستسلام بالكامل على الفلسطينيين، وتبقيهم رهينة للاحتلال الصهيوني.
سارع الرئيس عباس إلى إلقاء خطاب يرفض فيه الصفقة رفضا تاما، وكذلك الفصائل الفلسطينية، وكل الهيئات الشعبية والنقابية الفلسطينية، أعلنت رفضها وتصديها العارم لها، كما خرجت جماهيرنا الفلسطينية إلى الشوارع في قطاع غزة والضفة الغربية فورا، وفي عز الليل، تردد شعارات الصمود والوقوف أمام الكيان والولايات المتحدة، في محاولة فرض الصفقة على الفلسطينيين. بالمعنى الفعلي، أزيحت العوائق أمام تجاوز الانقسام وتحقيق المصالحة، وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، فاجتماع القيادة الفلسطينية في رام الله حضرته كافة الفصائل الفلسطينية، بما فيها فتح وحماس. باختصار شديد، لن تمر الصفقة، ولن يجدوا فلسطينيا واحدا يقبل بها، وربما تُقبل السلطة الفلسطينية على حلول دراماتيكية، تعيد الصراع إلى مربعه الأول. المطلوب من الكل الفلسطيني الجلوس معا لمناقشة طرق وأساليب التصدي للصفقة، وإيجاد السبل العملية الكفيلة لإفشالها في مهدها.

المطلوب من الفلسطينيين الجلوس معا لمناقشة طرق وأساليب التصدي للصفقة، وإيجاد السبل العملية الكفيلة لإفشالها في مهدها

من ناحية ثانية، قال نتنياهو إن هدفه الكبير هو التغلب على التهديد الإيراني، «كما تغلبنا على التهديد الكبير الذي تمثل بالقومية العربية».
من الواضح تماما أن نتنياهو ارتفعت معنوياته بحضور وفود من 40 دولة من بينهم رؤساء ـ بوتين وماكرون ـ ورؤساء حكومات وملوك، ونائب الرئيس الأمريكي مايك بينس، وولي العهد البريطاني الأمير تشارلز، لما سمي مهرجان «أوشيفتز» في ذكراه الـ 75. يمكن التخمين أن ثنائي الشر الصهيوأمريكي لن يتراجع عن الفرصة الذهبية الراهنة، لتطبيق خطة أحلام اليمين الفاشي الصهيوني في دولة العدو، عبر توجيه ضربة قاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني لتصفيته نهائيا، يعتقدون أن فرصتهم أصبحت متاحة بعد كل هذا الاهتراء الرسمي العربي، ليس فقط لتجاوز المخاطر والأزمات الشخصية، التي تعصف بترامب نفسه (يُحاكَم)، ونتنياهو ايضا (مُتهَم رسميا بالفساد). وقد تأكد أن ترامب يقدم رشوات لنتنياهو عندما بدأت واشنطن تطبيق بعض بنود صفقة القرن، عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية إليها، ثم إنزالها عن جدول الأعمال ومعها مسألة الأونروا، ثم رفض الاعتراف بوجود لاجئين فلسطينيين ولم تجد (واشنطن وتل أبيب) رد فعل «مُزلزل» أو سحب سفراء او تلويح باتخاذ إجراءات عملية، تجعل ثمن الازدراء الأمريكي لكل ما هو عربي وإسلامي باهظاً. وَجد ثنائي الشر الصهيوالأمريكي هرولة عربية غير مسبوقة، باتجاه التطبيع مع تل أبيب، وسط صمت عربي مُريب «عن زيارات سرية وأخرى علنية لمسؤولين رفيعي المستوى من الصهاينة». ولماذا يقلقون وقد تابعوا ما يسمى بزعماء العالم الحر، وهم يتبارون لتقديم فروض الطاعة لليهود في «كرنفال الهولوكوست» الذي انتهى للتوّ في «ياد فشيم»؟ ولماذا يتباطأ إذن ترامب ونتنياهو (ومعهما مُجرم الحرب.. غانتس) في اغتنام الفرصة الراهنة.
من الواضح تماما أن نتنياهو بعد منتدى «أوشفيتز» وحضور كل هذا الحشد العالمي إلى الكيان، قد أصيب بجنون العظمة «البارانويا»، بارانويا نتنياهو صورت له فكرة أنه تمكن من القضاء على القومية العربية، لعلم نتنياهو كما اتّفق كلّ النّسابين في العالم، أن شعوب العالم قد تفرَّعت من نسل نوح، حيث أنجب ثلاثة أبناءٍ، وهم: حام، وسام، ويافِث، وقد كان سام -الابن الثاني- أبا العرب، وقد نسب ابن إسحاق خمسة أبناء إلى سام بن نوح هم: أرفخشذ، ولاوِذ، وإرَم، وأشوذ، وغليم. وعرف نسب العرب من قحطان وعدنان منذ آلاف السنين. القومية العربية هي الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، وأن دولة عربية واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج. إيمان العرب بأنهم أمة، قديم وربما من الصعب معرفة بداياته، فكان يظهر افتخار العرب بجنسهم في الشعر العربي، وفي عهد الإسلام تجسدت القومية بشعور العرب بأنهم أمة متميزة ضمن الإسلام. علينا عدم الخلط بين العروبة كهوية والقومية العربية كنهج سياسي وأيديولوجي أصيل. القومية العربية هي فكر منفتح بعيد عن الجمود، يواكب التطوّرات. وقدّم بل أسهم بدور كبير في الحضارة العربية. القومية العربية احترمت الإثنيات العرقية الموجود فيها، وكانت إطارا جمع كل الطوائف والمذاهب العربية، فالحديث التزييفي الغربي والصهيوني عن الأقطار العربية، مبني على قاعدة أن الشعوب القاطنة فيها هي تجمّعات طائفية ومذهبية وعرقية وليست عربية الهوية. عمل كثيرون بدأب على إنضاج فكرة القومية العربية، سياسيا وأيديولوجيا على مدى وجودها، لكن أبرز مؤسسي الفكر القومي العربي الحديث، ساطع الحصري، واضع اللبنات الأولى لأسس الوحدة العربية. زكي الأرسوزي يدعو إلى الثورات السياسية والفكرية والاقتصادية. محمد عزة دروز مفكر وكاتب ومناضل قومي عربي، إضافة إلى نضاله السياسي، كان أديباً ومؤرخاً.‏ عبدالرحمن الكواكبي أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر، التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي، قسطنطين زريق مؤرخ أُطلق عليه أكثر من لقبٍ. بينها: شيخ المؤرّخين العرب، ميشيل عفلق مفكر قومي عربي مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، ولد في دمشق وأكمل دراسته الجامعية في باريس. بعدها عاد إلى دمشق وتنقل بينها وبين بيروت والقاهرة وبغداد، توفي في مشفى في باريس. جورج حبش سياسي فلسطيني ولد في اللد، وأحد أبرز الشخصيات الوطنية الفلسطينية يلقبه الشعب بالحكيم، شغل منصب الأمين العام للجبهة الشعبية حتى عام 2000.. مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهم الكثير. بالتأكيد عندما صرّح نتنياهو بغباء منقطع النظير عن قضائه على القومية العربية، فإنه لم يعرف الكثير من هؤلاء، ولا لمحات بسيطة عن أفكارهم ومواقفهم، وبالتالي هو لا يدرك معنى ولا امتداد القومية العربية في الوطن العربي والعالم.
نتنياهو عندما اعتقد واهما بالقضاءعلى القومية العربية كان يقارنها بالصهيونية، المخترعة، التي لا تمت للقومية أو الدين أو الأمة بصلة، فاليهودية ديانة، والصهيونية جاء إنشاؤها لتسويغ احتلال فلسطين، وطرد أهلها وإقامة دولتها، فلا جذور عضوية لها في التاريخ. مفكرو القرن من ماركس إلى إنجلز ولينين، رأوا فيها حركة استعمارية، ورجعية تمثل مصالح الرأسمالية. الصهيونية مرت بثلاث مراحل: الظهور كحركة سياسية، وكسب التعاطف، وإثبات الوجود. في منتصف القرن التاسع عشر وعلى يدّ مجموعةٍ من الحاخامات اليهود ومنهم، ليلنبلوم، وموسى هس، وثيودور هيرتزل المؤسس الرئيس، قاموا بعقد مؤتمرات وجمعيات للدعوة والترويج للصهيونية ومنها: منظمة أحباء صهيون، وحركة الإصلاح اليهوديّ، وغيرهما. مؤتمر بازل في سويسرا سنة 1897، اُعلن فيه رسميًّا قيام الحركة الصهيونية، وتمّ فيه اتخاذ العديد من القرارات السريّة والعلنيّة، وعلى رأسها تحديد وطن قومي لليهود في واحدةٍ من الدول التالية: كينيا أو الأرجنتين أو فلسطين، أو دول عديدة أخرى. وعد بلفور سنة 1917 الذي جاء من قبل وزير خارجية بريطانيا بلفور، الذي أكد فيه مباركة وتأييد الحكومة البريطانيّة لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التاريخيّة. زاد النشاط الصهيونيّ وبدأت هجرات اليهود تتوالى، كما زادت أعداد المهاجرين عند وضع فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ سنة 1922. انسحبت بريطانيا من فلسطين وأنهت الانتداب سنة 1947 ولكن قبل خروجها أعلنت قيام الدولة الصهيونية. ملخص القول لنتنياهو: شتان ما بين الثرى والثرّيا.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رجا فرنجية - كندا:

    ألشكرللدكتور فايز رشيدعلى مقاله لهذا اليوم. بالحقيقة ان موقف ألعالم من ألقضية ألفلسطينية هو موقف سلبي ومخز. كما يقول ألمثل “ﻣﺎ ﺣﻚ ﺟﻠﺪﻙ ﻣﺜﻞ ﻇﻔﺮﻙ” أن رفض كافة ألقيادات ألفلسطينية لصفقة ألقرن بأعتبارها “صفعة ألقرن” أدى الى وحدة كلمتنا. ألمهم هنا أستمرار وحدتنا وألعمل معاً لتحرير فلسطين. أن دوام ألحال من ألمحال, ويبدو أن ألوقت قد حان لبداية نهاية ألأمبراطورية ألأمريكية ومعها ولاية أسرائيل ألقابعة على أرض فلسطين.

  2. يقول تيسير خرما:

    لم تطبق بريطانيا وعد بلفور خلال حكم نصف العالم بل انكمشت بعد حرب عالمية فقررت الأمم المتحدة بعد ذبح أوروبا يهودها تهويد نصف فلسطين عام 1947 فأقام يهود دولتهم بها فسارعت مدن عربية وإسلامية وشرق أوروبية وروسية بطرد يهودها وقنص متنفذوها أملاكهم وصناعاتهم وتجاراتهم ووكالاتهم فوجه يهود الغرب دولهم لدعم إسرائيل فتوسعت إلى 80% من فلسطين، فأنشأت جامعة دول عربية منظمة لتحريرها بدعم جيوش عربية، فهزمهم يهود واحتلوا باقي فلسطين، فعدلوا هدفهم لدويلة على 20% من فلسطين بدعم سياسي فلم تقم ولو منزوعة سلاح وسيادة

  3. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراً أخي فايز رشيد. عندما شاهدت خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أول ماتبادر إلى ذهني, اليوم أكتشفت ياسيدي أن الإنقسام الفلسطيني يجب أن ينتهى! لقد جفت حناجر الشعب الفلسطيني وهو يدعو إلى وضع حد لهذا الإنقسام. أو على الأقل منذ أن رشحت صفقة القرن كان يجب على فتح وحماس وضع خطة استعداد لإعلان صفقة القرن. للأسف العرب عموما ليس لديهم إلا ردود الأفعال وليس لدينا منذ النكسة عام ١٩٦٧ سوى ردود الأفعال. فرصة الأمل في حرب ١٩٧٣ حولها السادات إلى مشروع مقاولة, أما سوريا ومن معها إلى مقاولة ومماتعة على رأي فيصل القاسم. انتفاضات الشعب الفلسطيني ومنذ الإتتفاضة الأولى عام ١٩١٩ وقبل وجود إسرائيل نفسها, شكلت حجر أساس في مقاومة المشروع الصهيوني الإستعماري, لكن إذا عدنا قليلا إلى لوجدنا أن القيادات الفلسطينية أساءت استغلالها واستثمارها لمصلحة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية برمتها. وهم في ذلك مثل أقرانهم من القيادات العربية, ذكاءهم السياسي للأسف ذو مستوى منخض بل ضحل. فهل بدأت مرحلة جديدة الآن من انتفضات الشعب الفلسطيني واستغلالها بذكاء وفاعلية كافية لإنقاذ القضية الفلسطينية على الأقل من صفقة القرن وكسرها وكسر شوكة ترامب ونتنياهو والصهاينة في أمريكا وإسرائيل معاً, وفي أعتقادي أن هذا ممكن.

إشترك في قائمتنا البريدية