الانتماء إلى الآخر في لوحات العراقي فاضل طعمة

حجم الخط
0

يتواصل مدار الذهن عند الفنان فاضل طعمة وفق تأثير سعة أُفق المرئيات التي تتعدد وتُستجد، وتنمو على أنماط المحركات الرؤيوية والدوافع المرتبطة بصيرورة الإنسان في المكان حصراً، حيث ينتج مثل هذا النوع من الأنماط التي تتواءم وتتناسب ما بين الفنان والإنسان الآخر، بين الإنسان وبيئته المتمثلة بالجماعات والصيرورة الاجتماعية المحدودة أو المتسعة في آن واحد، وفق منظومة الفنان وطبيعته. وهي نتائج شغلت العقل التحليلي الاجتماعي والنفسي بما يتعلق أكثر عند الفنان ومنهج النص، كونها مجموعة سلوكيات تتعلق بتشكّل النموذج الإنساني. كون النماذج البشرية منحدرة من قاع الحياة.

التركيز والاستعانة

الأمر الذي يتطلب نوعاً من التركيز والاستعانة بالوسائل التي من شأنها توسيع محيط الدائرة التي يشغلها الإنسان الذي نعنيه، والذي عكسته لوحات الفنان فاضل طعمة، ليس من باب الوظيفة الفنية والتركيز على فعالية اللون باعتباره مفردة لغوية فنية، ولسانا قادرا على الإحاطة بالمشهد، وبالقدر نفسه الذي تجسده العلاقة البنيوية لمثل هذه النماذج التي تمارس فعلها اليومي في أمكنة مشاعة ومحتوية لحاجات الجميع. فهي علاقات عرض وطلب، تؤسِس لنمط من العلاقات الواسعة بين الإنسان وما يراه ويحتاج فعله في الأمكنة استجابة لديناميكية الحياة، وهي الأسواق والأمكنة المشاعة. فهي أمكنة الترقب وعرض السلع وإقامة العلاقات الحميمة بين الفرد والجماعة.
فاضل طعمة فنان ملتزم، يرى وجوده أكثر فاعلية وسط محيط البسطاء وهو محيط يتسع باستمرار، طالما ثمة حركة دائمة في الأسواق والأمكنة الشعبية.
إن سر لوحة الفنان كونها وبتقدير فعله الفني أكثر قدرة على الايحاء والاتساع والاحتواء، لأنها أمكنة تتسع للمشاعر والأحاسيس البسيطة، غير أنها بليغة بتأريخها الفئوي والطبقي. وهو مدخل ينتمي إلى حقل علم الاجتماع الذي يُحدد انتماء الإنسان لأخيه الإنسان.
وتطور فعله كما يرى الفنان حصراً. وهو حاصل تحصيل إبداعي ينتجه العقل الفني لطعمة. كما يُحدد انتماءه الطبقي لهم. فنماذجه تفترش الأرض من جهة، ويتحدد وجودها بالنساء المقهورات التاركات بيوتهنَّ من أجل كسب وسائل العيش
.يعرضنَّ بضاعتهنَّ في الأمكنة المفتوحة، حيث تظهر ملامح القناعة والاستقرار، جراء تلك المساهمات البسيطة، المحاطة بالحس الإنساني الكبير. فنساء الفنان قويات كما يظهرنَّ من خلال القناعة بالوجود الخاص والعام. فهنَّ نساء التجربة والحبكة الوجودية. والفنان ينظر لهنَّ بعين الخط واللون، ويحاكي وجودهنَّ اليومي باللون الدال والخالق لتعتيق الحياة الشعبية بحمولاتها البسيطة المنفتحة على الوجود بتلقائية طبقية وفئوية واضحة ومدروسة فنياً.
الاستعانة بالسرد فعل يمارسه كل فنان، لكن الخصوصية الفنية على من يخلق بلاغة الممارسة الفنية الذاتية.
وهو مبدأ وحق فني إبداعي. من هذا المفهوم ينطلق الفنان في اختيار الكيفية التي يخلق بواسطتها صورة حياة الآخرين اليومية. فالمراقبة العميقة تستوقف الفنان عند أدق الأفعال عند الآخر، وأصفى التلقائية في السلوك العفوي اليومي الذي يعكس الكثير من الخصائص عند الآخر، خاصة النساء اللائي شغلنَّ سطوح لوحاته.
والوقوف عند ظاهرة أو مشهد يعني نوعا من التطابق في الحس الذاتي للمراقِب، حيث يخلق تخاطراً يتطلب تحفيز الآليات التي يستعين بها الفنان. وطعمة شديد الاهتمام بالأجزاء التي يبلور بواسطتها مشهد الشخصية من جهة، والفعل المؤدى من قبله من جهة أخرى. وهي مواكبة ذات حساسية شديدة الرهافة في تجسيد المشهد. لعل لوحات الفنان تعمل على تعميق المُشاهَد، مثله مثل الفنان الفوتوغرافي، الذي لا يكتفي أيضاً بما يُشاهِد، بل يستعين بحواسه. فهو يستعين بوسيلتين هما (الضوء والظِل) لخلق عالم متكامل يُثير الأسئلة ويُشبع الذات الرائية، ثم يجسد ما يراه ويتخيله وليس بما هو ماثل.
تماماً كالفنان التشكيلي الذي يستعين أيضاً بالضوء والظل، لكنه يتمتع بحرية التصرف بالألوان ودرجاتها. وهو فعل يخص ما يقدمه الفنان فاضل من مثل هذه الممارسة. فاللون تتداعى درجاته وفق رؤيته وتشوفه لما يُشاهد ويتخيّل. فاللون والخط آليتان تدفعان بمخيلة الفنان إلى السعة والحرية في بناء تفاصيل لوحته بسردية بصرية محكمة البناء وشفافية التعامل. فالتدرج في اللون أبجدية فنية يجد الفنان فيها متسعاً لتنفيذ ما يجده مطالعاً ومتطابقاً مع رؤاه وملكته الفنية والفكرية. ففي الأُولى يملي على التفاصيل صيرورة سردية مرنة يلعب اللون دوراً فيها؛ كذلك يجسد الانحياز الفكري ـ الاجتماعي لمردياته.
كما أنه لا يُملي نوعاً من القسر على نماذج وفضاء ما يرى، بقدر ما يستعين باحتمالات الفعل عند النموذج، خاصة في استرخاء شخصياته حتى وهي تؤدي فعلها في السوق. فالنساء مبتهجات بما يقدمنَّ على قارعة المساحات المفتوحة والأرصفة، وباسترخاء تام. فهنَّ شخصيات غير متوترة. وهذا يعني أن لديهنَّ قناعات ذاتية بما يؤدينَّ.
إن الاقتراب من علامات البيئات وتجسيدها في الفن واحدة من ممكنات الفنان الفنية والفكرية أيضاً؛ ذلك لأنها تعمل على تجسيد الرؤى.
والفنان قد استفاد مثلاً من رموز المقدس لأنه يتعامل يومياً مع رموز المدينة (كربلاء) بما تعنيه مكاناً ومقدساً في التاريخ. فهي مدينة القباب والمنائر والطقوس والشعائر اليومية. لذا تجسدت مثل هذه الرموز في لوحاته بروحية فذة وهيبة واضحة. ومثل هذا رموز الأمكنة التي لها علاقة بتشكيلات المدينة عبر مسمياتها ورموزها.
وقد تخطى هذا في اتجاه بيئة الأهوار وما تحمله من كثافة في الرموز ابتداء من الماء (المسطحات) مروراً بحيوان الجاموس والسمك والزورق وطبيعة البناء من القصب والبردي. فهو لم ينظر إليها على أنها وحدات بيئية فحسب، وإنما حاول تجسد العلاقة البنيوية بين رموزها من جهة، والتخاطر الحاصل ضمن بنيته كفنان يكتشف بيئة أُخرى.
فهو قد نشّط آلياته الفنية ووسع نظرته الرؤيوية، وبذلك حقق مشاهد لها ميزاتها الفنية والفكرية كما ذكرنا. كما نلاحظ بوضوح درجة القرابة بين الفنان والبيئات، بما يؤكد تمسكه بالعلاقة بينه وبين الآخر، وبالتالي مع الجماعات.
وهو نوع من الطرد للوحشة التي قد يخلقها اللقاء بالآخر. فهو بذلك يخلق علاقة مرهفة معهم عبر التآلف مع الأمكنة التي تضمهم وتحتوي أفعالهم. وهو سلوك دال على شفافية ذات الفنان وحبه للانتماء للإنسان والمكان، خاصة وهو يجسد مشهد النسوة المقهورات بمقاييس التشكل العائلي، ووجودها وسط مكان تبتاع فيه بضاعة كالسمك والخضار، وإلى غير هذا من أجل الكسب المادي لغرض العيش بكرامة. فهنَّ نساء غير نادمات؛ تظهر على هيئاتهنَّ صور القناعة والتآلف مع كل ما يُحيد بها، بمعنى التكيّف مع المستجد الذي صيغت به حياتهنَّ. فهنّ نساء قنوعات وصابرات، بمعنى قويات الشخصية.

مساحات اللون وتجسيدها

لعل الفنان بتعامله مع اللون لا يبتعد عن الفنانين الانطباعيين، لكنه يمتلك خصوصية التعامل أيضاً،ذلك استناداً إلى طبيعة فعل الفنان الذي يجسد الاستثناء المألوف. فكيف يكون استثناء ومألوفاً؟
سؤال يضعنا أمام حقيقة لا يمكن إغفالها كما ذكرنا، بقدر ما نعمل على خلق في البحث عن أساليب تعامله مع اللون. ففي جانب اختياراته للموضوعات والمَشاهِد أساساً؛ فقد استهوته الفعاليات القريبة من بنيته الفكرية، ونقصد البنى الاجتماعية التي أولاها نظراته الفاحصة الدقيقة، والنظر إلى ما لا تنظر إليه العين العابرة. فالجميع يرون في المشاهِد خارجها، بينما الفنان يدرك خفاياها، تفاصيلها في فعالياتها وأجزاءها الخفية. لذا نجده حدد نظرته إلى كل ما شاهده وعاش بين خفاياه ومعلناته، فكان عطاؤه قد أسبغ على اللون كيفية، لا نقول جديدة، وإنما جسّد علاقته باللون كفنان،والكيفية التي يظهر عليها النموذج في المشهد.
اللون الذي أسبغه على نماذجه، سواء من الرجال أو النساء يلعب دوراً فسلجياً وتشخيصياً. ففي الجانب الأول يعني به حالة النموذج وهو يمارس أفعاله على الرصيف، أو المساحات المفتوحة، أما تشخيصياً، فقد عمد إلى أن يُظهره على قناعة واضحة بكل ما آل إليه الحال.
ومن النادر أن يُظهر نوعاً من الضجر.فالألوان تعمل على خلق المناخ النفسي، حيث تكون القناعة حاضرة. فالألوان تولد نوعاً من الاستقرار النفسي لما تمتلكه من صفاء وشفافية. فهو يبتعد عن القاتم منها، وينحو باللون إلى الانفتاح من خلال إثارة درجاته القوية التي تتآلف مع الوضع النفسي للنموذج.
والنموذج كما تعكسه الألوان ذو فعل تسوية مع المصائر التي هو عليها. وهذا بطبيعة الحال يعكس الحالة النفسية للفنان وهو يتعامل مع نماذجه.
كذلك نجد في ما تجسده ريشته نوعاً بين موجودات السطح.
ونعني به التعامل بين العارض للبضاعة والمشتري. كذلك ما هو متوفر بين الأفراد من الجماعات التي تجتمع في المكان. فهي تعكس أُلفتها مع المكان في اتجاه توائمها مع الآخرين. إذ تبدو الجماعات مؤتلفة المزاج، ورائقة في تصرفها. كل هذا يسبغه اللون وتنوعه على السطح.
إن الفنان فاضل طعمة قد تميّز في التعامل مع اللون بقدر تعامله مع النماذج وسلوكها وفعلها الاجتماعي. وهو يعمل على استحضار اللون لمقوماته، لأن الأبجدية البصرية التي يمتلكها الفنان، أو سواها من أدوات، باستثناء ممارسة التصوير الفوتوغرافي الذي يطل من خلاله باستمرار في رصد ما حوله وحول الأفراد والجماعات. وهو ذو تأثير واضح على ملكته المزدوجة التركيب والممارسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية