الأساطير التي نحيا بها

حجم الخط
0

يميز جورج لوكاش بين الواقعي والحقيقي. فالواقعي ما وقع فعلا، أو ما هو ممكن الوقوع. أما الحقيقي فهو ما وقع فعلا، لكنه قد لا يكون واقعيا، أي أنه مناقض لما يجري في الواقع إجمالا. فقد نجد مثلا إقطاعيا أو رأسماليا مختلفا عن غيره ممن هم في طبقته: إنه يعامل الأقنان أو العمال معاملة حسنة، ويعطيهم حقوقهم كاملة، وهم راضون عن تصرفاته معهم. لكن الواقع الحقيقي مختلف عن هذه «الحقيقة» لأنها شاذة، ولا يمكن تقديمها على أنها الواقع الفعلي، إلى جانب التمييز بين الواقعي والحقيقي يمكننا إضافة «المتخيل» باعتباره الصور الذهنية المشكَّلة عن أي حدث، وأيا كان نوعه، والذي تلعب فيها التأويلات والتفسيرات دورها في تثبيته، في حقبة ما، لدى الذوات المختلفة والمتناقضة والتي تعاملت معه بأي شكل من الأشكال، في حينه أو بعد حقبة من الزمن.
يربط جيلبير دوران المتخيل بالإنسان الرمزي في مختلف أبعاده الوجودية، ويحدده لاكان بقوله بأنه المقولة التي بواسطتها يتم ربط «الرمزي» (كما يدركه اللاوعي) بالواقع، ما يعكس الرغبة في الصورة التي للذات عن نفسها. وبتعبير آخر فإن أي متخيل هو واقع. كما أن الواقع هو أيضا متخيل. فالصورة التي نكونها عن شخصية عنترة، مثلا، من خلال السيرة الشعبية العربية تجعلنا أمام متخيل ينبع من واقع. كما أن عنترة في ديوانه الشعري واقع متخيل لأن أي واحد يمكنه أن يشكل من خلال متخيله صورة واقعية ما عنه.
فتح الأندلس حدث واقعي، لأن العرب مارسوا فتح الكثير من البلدان، ومن بينها الأندلس. وبالتالي فهو حقيقة تاريخية. تتميز الحقيقة التاريخية كونها «حدثا» وقع في «زمن» ومكان معينين. ولا يمكن لأي كان أن يشكك في هذا الحدث التاريخي. ما خلا ذلك من تفاصيل تتعلق بهذا الحدث ـ الفتح يدخل في نطاق التفسيرات والتأويلات حسب منطلقات المؤرخ، أو الراوي. وكل منهما يسعى لإعطاء روايته ما يعضدها، ويدعمها، وهو يعمل على تجميع كل ما يوفر لها ما يرى من مسوغات، بغض النظر عن صحتها أو بطلانها. لذلك فالحقيقة التاريخية نسبية جدا، شأنها في ذلك شأن كل حقيقة، لأسباب تتعلق بوجهة النظر التي تقدمها.
ولما كانت تلك «الحقيقة» التاريخية قابلة لأن تسرد من منظورات متعددة ومتباينة، كان التداخل بين الواقعي والمتخيل. وتظل الحقيقة موزعة بينهما، لذلك لا غرابة أنه في كل زمان نجد من يدعي أنه يقدم الحقيقة التاريخية، التي ظلت محجوبة عنا في كل التاريخ؟ وإلى الآن ما نزال نجد الاجتهادات التي لا حصر لها عن أسرار بناء الأهرام، وفي كل مرة نجد أنفسنا أمام «حقيقة جديدة» تلغي سابقاتها.
ما هو الأهم في الحدث؟ هل واقعيته؟ حقيقته؟ خياليته؟ إن الحقيقة والواقع محدودان في التعبير عن خصوصية الحدث في المتخيل الجماعي، لأن تلقيهما يتحقق من خلال متخيل معين، لذلك كان الجانب الخيالي لأي حدث هو مولد المتخيل الجماعي لأنه يعطي للحدث خصوصيته الرمزية، وتتجسد من خلاله صور الخيال الإنساني الذي يتكون بشأنها. ومتى تكرست صورة ما عن حدث ما من منظور خيالي، تصبح أهم من أي تفسير واقعي أو حقيقي، وإن كان مبنيا على أساس «علمي».
كثر الحديث، حاليا، عن طارق بن زياد وأصله وفصله، وحول خطبته الشهيرة. فهناك من يؤكد وجوده، و»حدث» إحراقه السفينة. وبالمقابل هناك من ينفي كل ما قيل عن الحدث، ويستدل على ذلك بما يراه مناسبا من حجج وبراهين، ويعتبر كل ما قيل عن طارق مجرد أسطورة. ولما كانت الأسطورة مجرد نتاج «استعارة» من الواقع، أو «بديلا» عنه، أو «تمثيلا ذهنيا» له، صارت أهم من كل الحقائق والوقائع التي تثبتها لنا الكتابات غير الأسطورية، فإذا كنا نحيا بالاستعارة على حد قول لايكوف وجونسن، فإن الأسطورة بدورها ليست تحريفا لوقائع أو حقائق، لأنها تمسي هي أيضا حقيقة وواقعا، ومن يدعي نهاية أسطورة تتعلق بالدين الإسلامي أو غيره، أو واقعة أو حقيقة تاريخية تتصل بتاريخ الأمويين، أو المغرب، بدعوى أنه «اكتشف» معلومات جديدة ظلت مخفية حتى حصل الكشف على يديه، نقول له: لا يمكنك ادعاء نهاية أسطورة بـ»حقيقة علمية» جديدة عمي عنها الناس في كل التاريخ، عليك أن تخلق «أسطورة» جديدة يمكن أن يصدقها المتخيل الجماعي؟ ودون ذلك خرط القتاد.
أتساءل يا صديقي خزعل ماذا يقدم لنا قولك «بأن أنبياء بني إسرائيل هم ملوك سومر؟» وماذا نفيد من القول بأن طارق بن زياد لم يحرق السفن؟ والأمثلة كثيرة لو أردنا استقصاءها، مما يمتلئ به الفضاء الشبكي من «حقائق» جديدة؟ إن خطبة طارق التي وثقت لنا حرق السفن «أجمل» وأبقى في الذاكرة من كل ما كتبه التاريخ. كما أن شخصية دون كيشوت «أكثر واقعية» من آلاف الشخصيات التاريخية الحقيقية الإسبانية. إن ما يبقى في المتخيل الإنساني هو الأجمل والأكثر إبداعية من الواقع والحقيقة، وليست الأسطورة سوى حقيقة من بين حقائق أخرى.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية