استهداف الصحافيين الفلسطينيين والتواطؤ الدولي… الدحدوح واليونسكو

في 27 مايو 2015 اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار التاريخي 2222 (2015) المتعلق بحماية الصحافيين في النزاعات المسلحة. وقد أدخل هذا القرار موضوع حماية الصحافيين والعاملين في مجال الصحافة والأطقم المساعدة ضمن القانون الدولي الإنساني، خاصة ما يتعلق بحماية المدنيين الذين يخضعون للحماية كما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة.
القرار يحدد مسؤولية الدول في حماية الصحافيين وعدم التعرض لهم وتسهيل مهماتهم، ومحاكمة كل من يتعرض لهم أو يلحق الأذى بهم، ويحرّم الإفلات من العقاب، ويمنع اعتقال الصحافيين أو خطفهم أو تعريضهم للعقاب أو التعذيب. ويدعو القرار ليس فقط إلى حماية الصحافيين والعاملين معهم من الطواقم الفنية بل يعتبر معدات الصحافي وأجهزته التي يستخدمها في عمله خاضعة للحماية. والقرار مكون من 19 فقرة عاملة، وينتهي بمطالبة الأمين العام بإدراج مسألة حماية الصحافيين والانتهاكات التي يتعرضون لها في تقاريره المتعلقة بحماية المدنيين في مناطق النزاعات المسلحة.
وقد حاولت بعض الدول ونقابة الصحافيين المعتمدين في الأمم المتحدة الضغط باتجاه تعيين مبعوث خاص للأمين العام، متخصص في مسألة حماية الصحافيين وتقديم تقارير دورية حول الانتهاكات التي يتعرضون لها في جميع أنحاء العالم، إلا أن هناك دولا لا تريد لمثل هذا المنصب أن يرى النور، وبالتالي لم تنجح المحاولة. لكن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) بدأت منذ عام 2011 تراقب عمليات قتل الصحافيين وتدرج ذلك في تقاريرها السنوية. وتؤكد اليونسكو أن العنف ضد الصحافيين يزداد حدة وانتشارا أثناء تغطية الانتخابات، والنزاعات المسلحة. ففي عامي 2019 و 2020 مثلا جرت انتخابات في 70 دولة، وتم تسجيل 759 حالة انتهاكات لحقوق الصحافيين، بما في ذلك استخدام العنف ضدهم، الذي يصل إلى درجة القتل. وفي العام الحالي ستجري انتخابات في 81 دولة، فاحتمال العنف ضد الصحافة سيزداد كثيرا. لكن اليونسكو لا تملك أدوات الحسم والعقاب. كل ما تقوم به هي محاولات التشهير ووصم المنتهكين بالعار. وقد أنشأت منصة مراقبة لموضوع قتل الصحافيين ومتابعة عدم الإفلات من العقاب لمرتكبي الانتهاكات بحقهم.

قتل الصحافيين والاعتداء عليهم، خاصة في فلسطين أمر اعتادت عليه قوات الاحتلال لأنهم يظهرون الحقيقة ويكشفون للعالم زيف الرواية الصهيونية، التي تلعب دائما دور الضحية

وحده الكيان الصهيوني لا ينصاع لقانون ولا يهمه لا التشهير ولا الفضائح ولا الإدانة ولا الشجب ولا العار. فقتل الصحافيين والاعتداء عليهم، خاصة في فلسطين أمر اعتادت عليه قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين والأجهزة الأمنية في كل مكان وزمان، بل إن إسرائيل تتعمد قتل الصحافيين الفلسطينيين، لأنهم يظهرون الحقيقة ويكشفون للعالم زيف الرواية الصهيونية، التي تلعب دائما دور الضحية، علما أن الضحايا الحقيقيين هم الواقعون تحت الاحتلال والحصار ونظام الفصل العنصري. إنها الكيان الوحيد الذي يقتل الصحافي ثم يوضع اللوم عليه، ويرفض تحمل المسؤولية، وحتى لو ثبت بالدليل القاطع الذي لا يقبل أي مجال للشك كحالة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي أثبتت التحقيقات المستقلة التي قامت بها لجنة الأمم المتحدة المستقلة لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، والتي ترأسها نافي بيلاي المفوضة السابقة لحقوق الإنسان.
في عام 2003، أطلق جندي إسرائيلي النار على مصور الأفلام الوثائقية البريطاني جيمس ميلر فأرداه قتيلاً في غزة. أصدر تحقيق في المملكة المتحدة حكما ضد الجيش الإسرائيلي بالقتل غير المشروع، رفضت إسرائيل محاكمة الجندي المسؤول، لكنها دفعت تعويضا للعائلة قدره 1.5 مليون جنيه إسترليني. وقد قبلت العائلة التعويض لأنه «ربما يكون أقرب ما يمكن أن نصل إليه من اعتراف بالذنب من جانب الإسرائيليين». مقتل الصحفي البريطاني ميلر جزء من نمط الممارسة التي ينفذها جنود قوات الاحتلال بسهولة، عبر إطلاق النار على أي شخص يريدونه – ليس فقط الصحافيين، بل أيضاً مسؤولي الأمم المتحدة وعمال الإغاثة، والأطفال الفلسطينيين. وقد صرح مدير مكتب «الجزيرة» في فلسطين وليد العمري، خلال مؤتمر صحافي في نابلس بعد هبة «سيف القدس» في مايو أن الاحتلال قتل 55 صحافيا فلسطينيا خلال قيامهم بعملهم الصحافي منذ انتفاضة الأقصى عام 2000. وقد اعتدى الاحتلال على مقرات الصحافة في غزة ودمر 33 مقرا في قطاع غزة في مواجهات 2021. لكن حرب الإبادة على غزة أظهرت تربص القوات الفاشية بالصحافيين الفلسطينيين وعائلاتهم واستهدافهم بالقتل لأسباب لا تخفى على أحد، أهمها عدم نقل الحقيقة للعالم الخارجي، حيث ساهمت فيديوهاتهم بتعبئة الرأي العام العالمي ضد حرب الإبادة، خاصة مجازر الأطفال. فحسب لجنة حماية الصحافيين (CPJ) قامت إسرائيل بقتل أكثر من 70 صحافياً وعاملاً إعلاميا في الحرب في غزة، ما جعلها الأكثر دموية للصحافيين منذ عقود. وتقول اللجنة إن حجم وظروف عمليات القتل، بما في ذلك التهديدات المباشرة للصحافيين وعائلاتهم من قبل المسؤولين الإسرائيليين، دليل على استهداف الصحافيين الفلسطينيين في غزة.
أما الفلسطينيون فقد وصل عدد الصحافيين الذين أعدمتهم قوات الاحتلال إلى أكثر من 110. الغريب أن اليونسكو في تقريرها السنوي لم تدرج إلا مقتل 65 صحافيا من بينهم 27 فلسطينيا فقط، وثلاثة لبنانيين وإسرائيليان اثنان. بالنسبة للبنان والكيان فالأرقام صحيحة. أما بالنسبة لفلسطين فالأرقام غير صحيحة ومتعمدة، ويجب أن لا يتم السكوت عنها، إنها إهانة للشعب الفلسطيني وتعامٍ متعمد عن حجم الضحايا التي يقدمها بمن فيهم فئة الصحافيين. والغريب أن الكتاب الإرشادي لليونسكو يشير إلى أن الحماية تشمل الصحافي والتقني والعامل مع الصحافي وكلهم يسجلون ضمن الضحايا، إذا ما سقط أحد هؤلاء قتيلا، لكن في الحالة الفلسطينية قررت المديرة العامة لليونسكو أودري أوزولاي، ابنة مستشار الملك المغربي، التي تعتبر نفسها فرنسية، علما أنها تتحدث العربية، أن تغير قواعد التصنيف للتخفيف من الأرقام بقدر المستطاع. لقد تابعت بياناتها، التي تذكر كلمة «التعبير عن القلق» عندما يتعلق الأمر بقتل الصحافي الفلسطيني، بينما تستخدم عبارة «إدانة مقتل الصحافي…» إذا كان من لبنان أو أفغانستان أو سوريا أو الكونغو. المرة التي استخدمت فيها عبارة «إدانة» هي في حالة استهداف الصحافي حمزة وائل الدحدوح وزميله مصطفى ثريا ربما لأن الجريمة بشعة جدا وواضحة المعالم، حيث تم استهدافهما بمسيرة. جاء في بيانها يوم 9 يناير: «أُدين مقتل حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا، وأدعو إلى إجراء تحقيق كامل وشفاف في ملابسات وفاتهما، وأُكرّر دعوتي إلى احترام القرار 2222 (2015) الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن حماية الصحافيين والمهنيين العاملين في وسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بوسائل الإعلام، باعتبارهم مدنيين في حالات النزاع. في معظم حالات قتل الصحافيين». قبل إدانة مقتل حمزة الدحدوح، كانت أوزولاي تصدر بيانات تعبر فيها عن القلق فقط، أو الشجب في أحسن الحالات، لكن هول الجريمة التي وقعت للصحفي وائل الدحدوح التي أودت باستشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده، ثم عادت آلة القتل لتخطف ابنه البكر حمزة. إن مأساة وائل الدحدوح قد لا يكون هناك مثيل لها وتجسد معاناة الشعب الفلسطيني بكامله. فمن جهة تجرع وائل مأساة عائلته أولا، ثم استهدفه شخصيا وأصيب في يده واستشهد مصوره سامر أبو دقة أمامه. ولما لم يتوقف عن كشف الحقائق عادوا إلى ولده البكر لقصم ظهر والده الذي أبى أن ينحني أو يتخلى عن سلاحه المكون من كاميرا وصوت صادق. وقد أثرنا أكثر من مرة في المؤتمرات الصحافية لماذا لا يصدر الأمين العام أنطونيو غوتيريش بيانا خاصا في هذه الحادثة ويدين ما يحدث، لكن المتحدث يدور حول الموضوع دون جواب واضح.
وأود في النهاية أن أثني على كل من قدم واجب المواساة لوائل وهم بالملايين، لكنني أود أن أخص بالذكر ثلاثة رؤساء فقط، على حد علمي، قدموا هذه اللفتة الإنسانية: الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. غزة ستغير المعادلات جميعها ونحن بانتظار فجر جديد تكون فيه الكلمة العليا لأبطال الخنادق لا لرواد الفنادق.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية