إسرائيل لم تستطع أن تكظم غيظها من اتفاق المصالحة الفلسطينية

نبدأ مقالنا اليوم بالترحم على شهداء فلسطين.. عملية عسكرية إسرائيلية جديدة على قطاع غزة، وكأن الله كتب على سكان القطاع المحاصر اختبارا بعد اختبار، وثوابا من عند الله وصمودا حتى لو كان بغير اختيار. في كل مرة ضربت إسرائيل قطاع غزة كانت ترمي لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية، أو لربما كانت تأتي ضمن استراتيجية أكبر وأبعد من الحرب نفسها. ومن هنا وجب البحث في أسباب وأهداف هذه الحرب، خاصة أن العديد من ملامحها أصبحت مختلطة عند الكثيرين بعد أن أخذتهم صيحات وعويل الحرب بعيداً.
جاءت هذه الحرب بظروف دولية وإقليمية وداخلية مختلفة عن سابقاتها، وشكل كل ظرف من هذه الظروف أثراً ودوراً في تحديد شكل هذه الحرب، وبالتالي ما ستؤول اليه. دولياً، بدأ تغير واضح في معالم خارطة السياسة الدولية، فتصاعد الدور الروسي أصبح أمرا لا يمكن التغاضي عنه، وتراجع النفوذ الأمريكي أصبح أمرا لا يدعو للشك، وتعثر الأوروبيين وارتباكهم أيضاً أصبح أمرا معلوما، خاصة بعد واقعة القرم التي أكدت بعد أحداث سوريا ظهور القوة الجديدة/القديمة الروسية على الساحة الدولية. الصين راجعت مواقفها ودورها، فبعد أن كانت في الصف الأول ولاعبا رئيسا مع روسيا في الأزمة السورية، ارتأت التراجع للخطوط الخلفية، واكتفت بتصويت يعكس مصالحها بمجلس الأمن بعيداً عن أي أضواء أو تصريحات.
أما إقليمياً، فجاءت الحرب مع استمرار أحداث وتبعات الربيع العربي، وسقوط الإخوان المسلمين إكراهاً في مصر وطواعية في تونس، وفي ظل تأزم الأزمة السورية أكثر فأكثر، وتفاقم الأمور في العراق واليمن وليبيا، واستقرار الأمور إلى حد ما في إيران، بعد سلسلة من المحادثات وإجراءات بناء الثقة. التطورات في المنطقة العربية سريعة، لدرجة أنها أربكت أكثر الخبراء دراية وعلماً بقاطني هذه المنطقة. أما في إسرائيل، فائتلاف حكومي متهالك، وأزمة سياسية كبيرة دفعت الكثير من المسؤولين الإسرائيليين إلى إنتقاد نتنياهو وحكومته والمطالبة بإقالتها. فلسطينياً، جاءت الحرب هذه بعد وقت وجيز من المصالحة الوطنية الفلسطينية التي طال انتظارها، وتوقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وحادثة مقتل ثلاثة مستوطنين وجريمة قتل مواطن فلسطيني بدم بارد.
، وأصبحت تهدد وتتوعد لدرجة أن أقرب حلفائها طالبوها بالتروي وإعطاء الفرصة لحكومة الوحدة الوطنية. وكانت إسرائيل قد خيرت السلطة الفلسطينية مراراً وتكراراً في السابق بأن تختار بين المصالحة مع حماس أو السلام مع إسرائيل، إلى أن قرر الفرقاء طي صفحة الانقسام، فتعمقت جراح صانع القرار الإسرائيلي أكثر، خاصة بعد الموقف الدولي المبارك لحكومة الوحدة، الذي اعتبر صادماً في إسرائيل، خاصة الموقف الأمريكي.
جاء هذا التطور مع تراجع في شعبية إسرائيل دولياً وبشكل غير مسبوق، وشهدت علاقات إسرائيل الدبلوماسية فتوراً لم تشهده من قبل، فبدأ قادة إسرائيل اتهام السلطة بعزلها دولياً، في محاولة لاستدرار عطف من تبقى من داعميها من المجتمع الدولي، ولكن بدون جدوى. نعم، استطاع الفلسطينيون خلال السنوات الأخيرة ترتيب أوضاعهم الدولية، وبات المجتمع اليوم أقرب للرواية الفلسطينية من الرواية الإسرائيلية، وانتقل الحديث عن مقاطعة مؤسسات ومنتجات وبضائع إسرائيل ومستوطناتها من مستوى الشارع إلى المستوى الرسمي، فأخذ العديد من الدول مواقف صارمة حيال ذلك.
إذا ما أخذت جميع هذه المعطيات في الاعتبار، وبالتوازي مع الأزمة الداخلية في إسرائيل، التي جعلت رئيس حكومة إسرائيل في أرق يومي، نجد أن البحث عن مخرج للأزمة الداخلية والخارجية أصبح أمراً حتميا وغير قابل للنقاش. وعند الحديث عن الجبهة الداخلية، نجد أن تماسك جبهة إسرائيل الداخلية – وهي الجبهة الهشة بطبيعتها – تعتمد على الشعور بالخوف والتهديد الخارجي. ومن هنا، فافتعال أزمة خارجية لم يكن أمراً جديداً أو تفكيراً مستحدثاً على صانع القرار الإسرائيلي، ولكن أين تكون الوجهة هذه المرة؟
رغم وجود تأييد شعبي كبير في إسرائيل لسياسة حكومتها المناهضة لإيران، إلا أن استطلاعات الرأي أظهرت فتوراً حيال أي هجوم على إيران، أضف لذك علم صانع القرار الإسرائيلي بخطورة اتخاذ قرار الهجوم على إيران بدون وجود ضمانات أمريكية وغربية. إذاً، الخيار الإيراني سقط، فماذا عن خيار الجبهة الشمالية؟ وعلى الرغم من حجم الأرق الذي يسببه حزب الله لقادة إسرائيل، إلاً أن إسرائيل تعي حجم الإمكانيات العسكرية واللوجستية التي يتمتع بها حزب الله، وتدرك أن ما استنزف من قدرات الحزب في الأزمة السورية ليس كثيراً لتأمن مفاجأت الحزب وضرباته. إذن، الجبهة الشمالية باتت مغامرة غير محسوبة، فماذا عن الخيار الفلسطيني؟
إن صحت الرواية التي تقول بأن إسرائيل هي من افتعل قصة مقتل المستوطنين الثلاثة أم لم تصح، فإن إسرائيل كانت معنية بتصعيد الموقف اليوم أكثر من أي وقت مضى، ووجدت من الطرف الفلسطيني الحلقة الأضعف لتحقيق مخططاتها، خاصة إذا أخذت الظروف الإقليمية المناسبة وانشغال الجميع بأحوالهم المضطربة. نعم، اتهمت إسرائيل حماس وعددا من عناصرها بقتل المستوطنين الثلاثة، إلا أن مستوطني الاحتلال لم يمهلوا حكومتهم الوقت لتنفيذ ما تصبو إليه بحادثة قتل المستوطنين الثلاثة، فانطلقت ذئاب الحقد، بعد أن غذى نتيناهو وليبرمان التطرف في قلوبهم أكثر وأكثر، لتتصيد أي فريسة فلسطينية وكانت الضحية هذه المرة طفلا في السادسة عشرة من عمره.
نقلت إسرائيل المعركة إلى قطاع غزة، وهو ما كانت تصبو إليه من البداية، أي بمعنى إقحام حركة حماس رسمياً في مواجهة مع إسرائيل، ليس هدفها بطبيعة الحال إنهاء حماس. وقد يلحظ المتابع تسلسل العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة، فبعد أن كانت تضرب الأراضي الزراعية الخالية، أصبحت كل بقعة في قطاع غزة هدفاً للصواريخ الإسرائيلية. المواجهة المطلوبة، التي لم تكشف إسرائيل عن أهدافها علناً، تهدف الى استدراج حركة حماس والفصائل المقاومة لرد الفعل، وإطلاق المزيد من الصواريخ على البلدات الإسرائيلية.
إسرائيل، وهي تعلم تمام العلم حجم الخسائر البشرية والمادية المتوقعة من صواريخ المقاومة الفلسطينية، وحدت جبهتها الداخلية من جديد، على الرغم من بعض الانتقادات هنا وهناك، ولم يعد أي حديث في الشارع الإسرائيلي إلا عن حركة حماس والفصائل المقاومة والخطر القادم من قطاع غزة.
لم تتوقف المكاسب الإسرائيلية من هجومها على غزة عند هذا الحد، فبعملية الجرف الصامد، أرادت إسرائيل أن تظهر للعالم أن الفلسطينيين لم يتغيروا، بل هم ذاتهم الذين يقتلون ويقصفون الإسرائيليين «المدنيين». وبكل صاروخ ينطلق من قطاع غزة على المدن المحتلة داخل إسرائيل، تقترب إسرائيل أكثر من تحقيق أهدافها غير المعلنة.
تغيرت النبرة الأمريكية حيال الفلسطينيين، وعادت لنبرتها القديمة واتهام حركة حماس بالإرهاب وأحقية إسرائيل بالدفاع عن نفسها.
دول أخرى اتخذت الموقف نفسه ـ مثل فرنسا ـ حتى أن الأمم المتحدة باتت من جديد أقرب للموقف الإسرائيلي منها للموقف الفلسطيني. حجم المكاسب التي جنتها إسرائيل من هذه الحرب لم يتوقف هنا أيضاً، فبالحديث عن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أزعجت إسرائيل، نجد أن أي برامج وأهداف لحكومة الوحدة كانت تتعلق بالتحضير للانتخابات وتجسيد الوحدة الوطنية ذهبت أدراج الرياح، حيث تغيرت الأولويات التي فرضتها أحكام الأمر الواقع. إسرائيل راهنت أيضاً- كما راهنت دوماً- على تباين المواقف السياسية للفرقاء الفلسطينيين، حيال سبل التعامل مع عدوان كهذا، وهو الأمر الذي قد يعني انتكاسة جديدة للوحدة الفلسطينية والعودة للانقسام.
المكسب الجديد من الجرف الصامد هو استنزاف قدرات الفصائل المقاومة رويداً رويداً، وهي تعلم أن مخزون السلاح في قطاع غزة أصبح محدوداً مع تضييق الخناق والحصار وتفجير الأنفاق بين قطاع غزة ومصر. ومن هنا، فالنتيجة الأقرب بعد هذا العدوان أن تقبل إسرائيل بوقف لإطلاق النار، وأن تصادق على هدنة تحاول بقدر الإمكان من خلالها إضعاف وتحييد قدرات حماس والفصائل المقاومة في قطاع غزة، للدرجة التي تستطيع أن تسوقها في شارعها الداخلي، ولكن مع إبقاء حماس قوية بما يكفي أيضاً (عسكرياً وشعبياً) للمحافظة على فرص الانقسام الفلسطيني. ولكن، الأمر الذي لم يكن في حسبان صانع القرار الإسرائيلي هو انتفاضة الضفة الغربية وهبة فلسطينيي الداخل لينصروا إخوتهم في قطاع غزة. إسرائيل بطبيعة الحال مستمرة في مخططاتها، إلا أن استمرار هذا الحراك في الضفة الغربية والداخل المحتل سيربك المخطط الإسرائيلي، وسيضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية أكثر فأكثر.
ومن هنا، فإن وحدة الشعب الفلسطيني هي معيار نجاحة، وسلاحه الأقوى أما كل التحديات، فما حدث في قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس المحتلة، والداخل الفلسطيني أكبر دليل على أن كل ما حاوت إسرائيل أن تفعله عبر هذه السنين سقط صريعاً أمام صخرة الانتماء.
فبأي عقل بشري يمكن أن تتخيل أن يحدث هذا، قسمت إسرائيل سكان البلاد جغرافيا، وفصلتهم عن بعضهم ثقافياً، وخلقت لكل بقعة من بقاعها واقعا مجتمعيا واقتصاديا وسياسيا مختلفا، ولكن حين وُضع الانتماء على المحك، انتفض الجميع بلا استثناء، ليقولوا نعم، فلسطين تحيا…تعيش.. فلسطين باقية وأبداً لن تموت، لأنك يا فلسطين.. الاستثناء.

٭ كاتب فلسطيني

فادي الحسيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية