أوروبا تبحث سقف أسعار للغاز مع استمرار اعتمادها على الغاز الروسي

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

يجتمع غدا مجلس وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي لاتخاذ قرار نهائي بشأن وضع سقف لأسعار الغاز المستورد، بعد أن فشل الوزراء خلال الفترة منذ تموز/يوليو حتى الآن في حسم الخلافات بشأن الأركان الرئيسية لسقف الأسعار، بما في ذلك معايير تحديد السقف نفسه، وآلية تطبيقه، ونوعية العقود التي يسري عليها، وكيفية وظروف وقف العمل به. وقد فشلت الولايات المتحدة في تعويض أوروبا عن خسارة إمدادات الطاقة الروسية، وفرضت أوروبا عقوبات أدت إلى هبوط هذه الإمدادات ما أدى إلى ارتفاع حاد في الأسعار خلال فترة بناء المخزونات التجارية. وتبدي الحكومة الألمانية شكوكا قوية في فعالية فرض سقف للأسعار، وتحذر من أن ذلك قد يضر بالاقتصاد. بينما عرضت الحكومة البلجيكية اقتراحا مرنا بربط سقف الأسعار بمستوى الأسعار في سوق الغاز المنافسة في آسيا. وعلى العكس من ذلك تبدي دول أخرى مثل جمهورية التشيك وإيطاليا تشددا كبيرا وتطالب بوضع سقف منخفض جدا عن أسعار السوق حاليا، وهو ما يمكن أن يؤدي فعلا إلى هروب ناقلات الغاز المسال عن أوروبا.

العقود الطويلة لن تتأثر

في كل الأحوال لن تستطيع دول الاتحاد الأوروبي تعديل نصوص عقود الإمدادات القائمة بالفعل مع شركات أوروبية أو أمريكية أو أفريقية أو شرق أوسطية، وهو موضوع ما يزال مفتوحا للنقاش بين وزراء الطاقة، الذين لم يتفقوا أيضا على طبيعة العقود التي سيسري عليها قرار سقف الإنتاج. الدولة الوحيدة التي يمكن أن تتأثر هي مصر، لانها تعتمد على بيع شحناتها من خلال السوق الفورية. ومع ذلك فإن تدفق الإمدادات المصرية عبر قنوات الإمدادات التابعة لشركات أوروبية أهمها إيني الإيطالية وبريتش بتروليوم اليريطانية من شأنه أن يخفف الآثار السلبية. وكانت قطر قد وقعت أخيرا عقدا طويل المدى لإمداد ألمانيا بالغاز المسال. ومن المبكر تقدير مدى تأثير القرار على السوق، لكن من المؤكد أن رغبة الاتحاد الأوروبي في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي محدودة جدا، فما يزال الروس يزودون أوروبا بما يقرب من ربع احتياجاتها من الغاز. وبينما تستطيع روسيا إيجاد أسواق لتصريف الغاز، كما فعلت بالنسبة للنفط الخام، فإن أوروبا لن تستطيع إيجاد موردين يعوضون إمدادات الغاز الروسي.
وقد اتفق الخبراء على أن أي دولة في العالم لن تستطيع تعويض احتياجات أوروبا من إمدادات الغاز الروسي، كما أكدت الدول المصدرة للنفط والغاز هذه الحقيقة. ونظرا لأن أوروبا لا ترتبط بعقود إمدادات طويلة الأجل للغاز الطبيعي مع دول أخرى غير الجزائر خارج القارة، مثلما كانت ترتبط مع روسيا، فإنها ستعتمد بالضرورة على سوق البضاعة الحاضرة، وهي سوق تستحوذ على حوالي 25 في المئة من الإمدادات العالمية فقط ويضيق حجمها إلى حد كبير في فصل الشتاء. رئيسة المفوضية الاوروبية أورسولا فون در لين اعترفت في الأيام الأخيرة بأن الاتحاد الأوروبي سيواجه في العام المقبل عجزا في إمدادات الغاز بحوالي 30 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 7.4 في المئة من حجم الاستهلاك في العام الماضي الذي بلغ 412 مليار متر مكعب. وكان الاتحاد الأوروبي قد قرر تخفيض كمية الاستهلاك طوعيا بنسبة 15 في المئة في الفترة الممتدة من أول اب/أغسطس من العام الحالي إلى نهاية اذار/مارس من العام المقبل، أي بمقدار 61.8 مليار متر مكعب، بحيث ينخفض الاستهلاك إلى 350.2 مليار متر مكعب. وبذلك فإن العجز في الإمدادات طبقا للرقم المعلن يعادل 10 في المئة تقريبا من الاحتياجات. إذا لم تتمكن أوروبا من تغطية هذا العجز فإنها ستتعرض لأزمة إمدادات كبيرة في محطات إنتاج الكهرباء والمصانع والاستهلاك المنزلي. ولم تقدم المفوضية الأوروبية حتى الآن أفكارا واضحة بخصوص ذلك.
لكن النقص المتوقع في الإمدادات لن يؤثر كثيرا على السوق خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، حيث أن دول الاتحاد الأوروبي احتاطت مبكرا لتوفير مخزون تجاري ضخم من الغاز والبترول، حتى تتجنب أزمة اجتماعية واقتصادية. ووصلت كمية المخزون التجاري للغاز المسال نسبة لا تقل عن 87 في المئة من الطاقة الاستيعابية لمرافق التخزين. المفوضية الأوروبية والشركات العاملة في قطاع الطاقة لن تنتظر حتى نفاد المخزون، وإنما هي تحاول من الآن العمل على إيجاد حلول تجارية، بالبحث عن موردين على أساس تعاقدات قصيرة الأجل، وإقامة مرافق أكبر للتخزين، خصوصا أرصفة استقبال الغاز المسال وإضافة مرافق تخزين جديدة. ومع ذلك فإن قرار وضع سقف لأسعار الغاز من المرجح أن يؤدي إلى تعقيد مشكلة إمدادات الغاز المسال الروسي المنقول بحرا. وفي حال صدور قرار أوروبي بفرض سقف لأسعار الغاز المسال الروسي، كما فعلت بالنسبة لأسعار النفط المستورد بطريق البحر، فإن روسيا قد تلجأ للرد على ذلك بتقليص إمدادات الغاز عبر خطوط أنابيب نوردستريم-1 الذي يمر عبر أوكرانيا، وتورك ستريم الذي يمر عبر تركيا، وكذلك الخط الذي يمر عبر بولندا. وقد خفضت روسيا فعلا الإمدادات إلى 11 دولة في الاتحاد الأوروبي إلى ما دون الحد الأدنى للكميات المتعاقد عليها، لأن هذه الدول رفضت الانصياع للنظام السعري الجديد بسداد قيمة الغاز بالروبل الروسي، وهو النظام الذي أدخلته روسيا قبل نهاية الربع الأول من العام الحالي ردا على العقوبات الأوروبية والأمريكية.

روسيا تخفض صادراتها

وتظهر الإحصائيات الأوروبية أن الانخفاض في إمدادات الغاز الطبيعي الروسي عبر خطوط الأنابيب في الربع الثاني من العام الحالي وصل إلى 90 في المئة عبر خط بيلاروسيا، و 51 في المئة عبر أوكرانيا، و12 في المئة عبر نوردستريم، و 14 في المئة عبر خط السيل التركي «تورك ستريم». وبلغت كمية التخفيضات في الإمدادات الروسية 43 مليار متر مكعب خلال الفترة منذ بداية العام وحتى نهاية شهر اب/أغسطس الماضي.
ولتعويض هذا الانخفاض لجأت أوروبا إلى زيادة الاعتماد على الإمدادات من مصادر أخرى أغلى ثمنا مثل الجزائر والنرويج، إلى جانب التعاقد على شراء شحنات فورية من الغاز المسال الروسي بأسعار مرتفعة أيضا. وقدرت صحيفة «فاينتشال تايمز» أن واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال الروسي زادت بنسبة 42 في المئة منذ بداية العام حتى نهاية تشرين الأول/اكتوبر، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021. وذكرت أن حجم الغاز الطبيعي المسال الذي تم تسليمه من روسيا في الأشهر العشرة الأولى من عام 2022 بلغ 17.8 مليار متر مكعب. ووفقا للصحيفة، يمثل الغاز الطبيعي المسال الروسي 16 في من إجمالي واردات الغاز المنقولة بحرا إلى الدول الأوروبية خلال الفترة المشمولة، وكان المشترون الرئيسيون هم بلجيكا وإسبانيا وهولندا وفرنسا. وإذا جمعنا واردات أوروبا من الغاز الروسي (الطبيعي والمسال) سنجد إنها استقبلت 62.1 مليار متر مكعب عبر خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، من الغاز الروسي و 17.8 مليار متر مكعب بواسطة الناقلات المبردة للغاز المسال. أي أن المجموع يصبح 79.9 مليار متر مكعب منذ بداية العام. وبافتراض إنها ستنجح فعلا في تخفيض استهلاكها طوعيا في عام 2023 إلى 350 مليار متر مكعب، فإن هذا يعني انها ستستمر في الاعتماد على الغاز الروسي بنسبة 22.8 في المئة تقريبا من احتياجاتها. وهو ما يعني أن أوروبا قد تستطيع تقليل اعتمادها على الغاز الروسي لكنها لا تستطيع الاستغناء عنه تماما، مع تحمل التكلفة الإضافية للأسعار وتأثير تقلبات السوق.
في الوقت نفسه فقد ارتفعت الواردات من الغاز المسال من خارج روسيا بحوالي 28 مليار متر مكعب جاء معظمها من الولايات المتحدة وقطر ومصر والجزائر، كما زادت الواردات من الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب بمقدار 17 مليار متر مكعب، جاء معظمها من منتجي الغاز الطبيعي الأوروبيين ومن الجزائر أيضا.
وبعد أن تمكنت معظم الدول الأوروبية من بناء مخزونات تكفي تقريبا لتغطية احتياجات فصل الشتاء فقد تراجع الطلب على الغاز والنفط في تشرين الثاني/نوفمبر والنصف الأول من كانون الأول/ديسمبر بنسبة تصل إلى 25 في المئة، وهو ما يفسر التراجع الحالي في أسعار التعاقدات الفورية. وساعد انخفاض الطلب على هبوط أسعار الغاز المسال في أوروبا إلى ما دون 30 دولارا للقدم المكعب في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وهبوط سعر النفط الخام الروسي (خام الاورال) إلى ما دون 50 دولارا للبرميل في الأسبوع الأول من كانون الأول/ديسمبر بسبب تحديد سقف الأسعار. وسوف يساعد هذا التراجع في الأسعار على إعادة بناء المخزونات تدريجيا بأسعار أرخص من التي تحملتها الحكومات والشركات عند بناء المخزون في صيف العام الحالي. وكان الاتحاد الأوروبي قد أصدر قرارا ملزما للدول الأعضاء برفع كميات المخزون إلى ما لا يقل عن 80 في المئة من طاقة التخزين المتاحة بحلول بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ومع استمرار السحب من المخزون بعد ذلك سيواصل الطلب الارتفاع لكن بمعدلات أقل.
ومن المتوقع أن يحاول وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم غدا التوصل إلى حل وسط بشأن سقف أسعار الغاز، يتسم بالمرونة الكافية لتجنب تعرض أوروبا لأزمة حادة في إمدادات الغاز في العام المقبل. وكانت أسعار الغاز قد قفزت في ربيع العام الحالي، أي بعد نشوب حرب أوكرانيا، إلى حوالي 335 يورو لما يعادل ميغاوات/ساعة من الغاز. لكن الأسعار أخذت في التراجع بعد ذلك لتصل إلى 225 يورو، ومع ذلك فإن هذا السعر يظل مرتفعا جدا بما يعادل 3 مرات قياسا إلى ما كان عليه في بداية العام. في مقابلة مع مجلة «بوليتيكو أوروبا» أعرب رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دى كرو عن تفضيله لصيغة مرنة تربط سعر الغاز المستورد في أوروبا بسقف لا يتجاوز 5 في المئة أعلى من متوسط سعر الغاز في آسيا، لأن السقف في هذه الحالة لن يكون رادعا للبيع في أوروبا، بل على العكس سيمكن الموردين من البيع في أوروبا بأسعار أفضل. وتقف ألمانيا والنمسا وهولندا في صف الدول المترددة حيال فرض سقف لسعر الغاز، وهي تخشى ردود فعل عكسية، أخطرها تحول الإمدادات إلى الأسواق الأعلى سعرا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية