أقيم في غاليري «ضي» في القاهرة… معرض أعمال ثلاثة فنانين تحيي الموروث المصري وطقوسه

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: وسط صخب الهرولة إلى تلفيقات ما بعد الحداثة، التي استنفدت طاقتها في الغرب، وصار الفن يأتي من خلال تحولاتها إلى مواكبة الراهن، أو تجاوز سلبياتها.. رغم ذلك ما زال الفنان التشكيلي المصري، في مجمل التجارب، يلهث وراء أفكار انقضت، ظناً منه أنه بذلك يواكب العصر، إذ لم تكن أغلب تجاربه إلا تقليداً ومسايرة لما يستورد من تقنية وأفكار.. والحديث هنا لا يخص جيلا بعينه أو مجموعة من الفنانين، ونلحظ ذلك جيداً من خلال الظاهرة السنوية لكل من «صالون الشباب» و»المعرض العام» ناهيك عن المعارض الخاصة للفنانين الكبار ــ سناً ــ فلا نجد سوى التكرار الممل لأعمال كانت سبب شهرتهم، فاستمرت سيرتها تعاد منذ عقود.
من ناحية أخرى نجد بعض الفنانين الذين يحاولون، في جهد، التوفيق بين المخزون البصري المصري وتقنيات حديثة تعالج أفكارهم، ذلك رغم تباين هذه التجارب، ومدى نجاح الفنان في معالجة موضوعه.
وفي معرض أقيم مؤخراً في غاليري «ضي» في القاهرة، ضم ثلاثة فنانين حاولوا التعبير، من خلال الموروث الطقسي والشعبي المصري، عن قضايا ومشكلات معاصرة. ورغم التفاوت ما بين الفكرة وتجسيدها، وكذا التوسل بأساليب ومدارس فنية مختلفة، إلا أن النغمة الأساسية التي ترددها هذه الأعمال هي الموروث وتوظيفه والتفكير من خلاله.

الرحلة

جاء معرض الفنان مصطفى بط بعنوان «الرحلة.. القرية والأسطورة» ليتأكد العنوان من خلال لوحات تشبه التماثيل الطينية، التي يصنعها الأطفال في القرى، يتجسد ذلك في تشكيل أجساد الشخوص وألوانها في اللوحات، لكن خيال الفنان هنا يحاول الاقتراب من خيال الطفل، دون إخفاء العقلانية والخبرة الفنية الكبيرة، في تركيب علاقات عناصر اللوحة، والأجواء التي تقترب من السريالية، دون الاقتصار على عدم منطقية احتواء مثل هذه العناصر في لوحة واحدة.
فالقط والصقر الفرعوني (حورس) يقفان، كما الشخوص، في ثبات على الأرض، في شكل أشبه برسومات جدران المقابر الفرعونية، بينما الوجوه الممسوخة تطل على المشهد من بين غيوم كثيفة. ومن هذا الموروث القديم إلى موروث آخر يتعلق بأجواء أولياء الله الصالحين ومقاماتهم المقدسة، التي تحوّرت ــ بفعل واعتقاد المصريين ــ إلى امتداد لمقابر أجدادهم في مصر القديمة. هنا يختلط اللون الأخضر مع اللون الطيني، الذي يتشكل منه الجسد، مع ملاحظة أن الجسد الأنثوي هو الذي يحتل الصدارة دوماً، في أغلب اللوحات، تعبيرا عن حالة الاستمرارية التي تمثلها المرأة/الأرض، أو الحضارة ودلالتها بمعنى أدق. أما التعبير من خلال الرجل، فيتم عبر تجسيده على هيئة صنم مُشوّه، يرتدي غطاء رأس أشبه بالأراجوز (طرطور) هذا الصنم السلطوي، رغم ملامحه وتكوينه المرعب، إلا أنه في الحقيقة لا يحمل سوى رأس مهرج في مولد أو سيرك.

للفنان مصطفى بط

العودة

ومن الرحلة إلى «العودة» وهو عنوان معرض الفنان حسن غانم، الذي يقترب أكثر من الموروث الشعبي، وأجواء الموالد والاحتفالات الشعبية في القرى المصرية، إلا أنه لا يمتثل إلى سهولة الأشكال المعهودة، التي تحولت بدورها إلى كليشيهات. هنا نجد السيف والحصان، بعيداً عن وشوم الموالد، فوق أذرع الرجال، لنجد الفارس المزعوم يعتلي رأسه طرطور الأراجوز، تعلوه طائرة ورقية يحاول تطويعها في اتجاه الهواء.
ثم محاولة التواصل أيضاً ما بين أجواء المعابد الفرعونية، وبعض من رموز وأكسسوارات الشخصيات مثل «مفتاح الحياة» على سبيل المثال، أو جلسة الشخوص كما التماثيل الفرعونية، والتواصل من خلال رموز حديثة أقرب إلى وعينا مثل «لقُلة» وكأن الزمن تم اختصاره في مثل هذه الأشكال. محاولات التواصل هذه تمتد من خلال لوحات عدة.. جلسة عاشقين في الخلاء يتخاطبان بنغمات الموسيقى، وفي الخلفية مومياء مستقرة، كإرث لا يمكن مفارقته أو التحوّل عنه.
كذلك نجد في لوحات أخرى للفنان نفسه تكوينات أكثر حداثة، مع الاحتفاظ بالروح السريالي.. امرأة وحيدة في حجرتها، جسدها أشبه بفتيات جوجان، ومن حولها الطيور، إضافة إلى سمكة تطل على الحجرة، بديلاً عن السماء.

للفنان حسن غانم

مملكة الروح

ونختتم بمعرض الفنان زكريا أحمد «مملكة الروح» المتميز بالعدد الكبير للوحاته، وتنوعها بين الأماكن، خاصة القاهرة القديمة، إلا أن أغلبها دار حول الموالد الشعبية وأجواء شخصياتها، حتى تصبح هذه الشخصيات بدورها رموزاً يمكن أن تحل محل شخصيات وأفكار حياتية آنية. هنا نجد الموسيقى الشعبية وشخصيات في ملابس تمثل قرى الشمال والجنوب، فالكل يلتقي في هذا الاحتفال الشعبي الكبير.
ويقترب أسلوب الفنان أكثر من طريقة رسم الأطفال ورؤيتهم لعالم غريب، وهو ما اتضح في منظور الرؤية ــ زاوية النظر ــ كالأجساد المائلة مثلاً، وكأنها تطير في الهواء. ويؤكد الفنان وجهته السياسية عبر لوحة يعكس من خلالها الأيقونات المستقرة، كأن يلوّح القرد مثلاً بالأعلام الملونة أعلى اللوحة، وأن يأتي الرجال في أسفلها يمثلون صورة القرود الثلاثة «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم» بينما يحتل اللوحة رجل في جلباب صعيدي، تقترب ملامحه كثيراً من الزعيم الوهمي الخالد.
وفي لوحة تقترب من لوحة عبد الهادي الجزار الشهيرة «الجوع» بل تعد محاكاة لها في صورة أكثر مباشرة، نجد الشخصيات وأطباقهم الفارغة تتقدمهم، وإن كانوا ضمن شخصيات الموالد من أبناء السبيل، فالجميع أصبحوا في مولد كبير. فكرة التواصل أيضاً تُلح على الفنان، فيستحضر ملك وملكة من مصر القديمة، يستعرضان عرض الأراجوز والمهرج البائس، الذي يقوم بتحريكه، هذا المهرج الذي ينتمي بدوره من خلال ملابسه إلى عصر الملك وامرأته.
تخلق العديد من الرموز والإشارات المعروفة للمتلقي حوارا بينه والعمل الفني، فلا فارق بين مهرج سلطوي وخيال المآتة، ولا فارق بين جوعى العهد الملكي وجوعى عهد الانقلاب السعيد!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية