طالب أبو شرار في روايته عن الشتات الفلسطيني: الحياة على عتبات الجنة

حجم الخط
0

يحاول طالب أبو شرار، الأستاذ في كلية الزراعة في الجامعة الأردنية، في روايته ‘ الحياة على عتبات الجنة ‘ 2012 ، أن يؤرخ، عن طريق السرد الروائي، لمأساة شعب فلسطين، حاشدا في نيف و300 صفحة عشرات الشخوص الذين ينتمون لمكان واحد في فلسطين هو مدينة يافا الساحلية التي تقع غير بعيدة من (تل الربيع) مثلما يسمي تل أبيب التي ظهرت في بداية الرواية مستوطنة صغيرة يؤمها مهاجرون قادمون من أنحاء أوروبا لتغدو في نهاية الرواية مدينة عملاقة تبتلع في أحشائها أجزاءً من يافا التي هجرها كثير من سكانها في حركة عكسية اقتضتها طبيعة الأحداث التي يختلج بها الجسم الأكبر من المبنى السردي لهذه الحكاية.
فلا مناص – بداية – من الالتفات لظاهرة غير تقليدية في هذه الرواية، وهي كثرة الشخوص. فالمؤلف الذي يخوض تجربة الكتابة الروائية للمرة الأولى ينظر لمأساة الشعب الفلسطيني من منظور أفقي، ينفتح على زوايا منفرجة تمامًا، بحيث يطل منها على قطاع واسع جدا من الشخوص، يمثلون في الغالب الأعم الطبقة الوسطى إذا ساغ استخدام هذا الوصف وجاز- : تجار، حرفيون، موظفون، عسكريون منخرطون في الجيش العثماني، الذي انتهى وجوده عمليًا بعد الحرب العالمية الأولى، خريجو جامعات: من القاهرة، والأمريكية ببيروت، وأكسفورد بلندن ، وجامعة بغداد، ودارسو آداب يحصلون على الدكتوراه في الأدب القديم الأندلسي، والنقد، ويرددون أشعار الجواهري وبدر شاكر السياب.
ولا يبالغ الدارس إذا ذكر دليلا على كثرة الشخوص في الرواية بتجاوزهم الخمسين عددًا.
ومع توافر هذا العدد، لا مناص من الإشارة إلى أن أكثرهم ينحدرون من صلب رجل واحد، هو خليل البحري. الذي كان قد تزوج من امرأة(علياء) ابنة زهرة التي تنحدر من أصل جزائري، جمعتها الصدفة بحسين البحري صديق شقيقها إبراهيم فتزوجا لتقضي بقية حياتها في فلسطين على مقربة من آل البحري. وهذا اللقب البحري التصق بخليل هذا التصاقا شديدًا، بحيث أصبح مزية لأبنائه، وأحفاده، وأحفاد أولاده، فوالده، فيما يبدو كان بحارًا يتنقل من ميناء لآخر. وقد صاهر خليلُ طلعت الرومي- وهو من بقايا الجيش العثماني – ويسمى الرومي لكونه من روم تركية، فزوجه بعد أن اطمأن إليه، وإلى أخلاقه، ابنته خديجة، فأنجبت له كنعان، وكمال، وجودت، وتمام. وهؤلاء درسوا في لندن.
ويتفرق أبناء خليل البحري، وتلقي بهم عصا النوى في عواصم شتى.
هدى وزوجها ماجد العربي في بيروت وخير الله ( أبو غالب) وزوجته الدمشقية في الشام، وفيها أنشأ جماعة سرية باسم فرسان الحق، ولقي مصرعه فجأة في حادث سير، على طريق ظهر البيدر بلبنان، يرجح أنه مدبر، كون خير الله هذا وابنه غالب كانا ممن قاوموا الفرنسيين في دمشق. ومصطفى البحري الذي يعشق الجندية منذ صغره ينخرط في الجيش العثماني، ويواصل، بعد أن تنتهي الحرب، موقفه المُعارض للانقلابيين الاتحاديين الذي قضوا على الخلافة وعزلوا السلطان عبد الحميد، ووضعوا بدلا منه محمد رشاد، واعتقل بسبب مواقفه هذه في اسطمبول، ولم يفرج عنه إلا بعد وفاة السلطان عبد الحميد سنة 1918 فارتحل بعدها إلى برلين، لينشئ وكالة لتصدير الماكنات لتركية ويتوسع في ذلك ليتخطى التوريد للصناعة، ثم يعود ثانية لاسطمبول، ويحاول مع بعض الشخصيات، منهم عثمان باشا، تأليف حركة حزبية علمانية جديدة تقوم على مبادئ العدالة. ويتوفى هو الآخر بغتة كغيره ممن توفوا في هذه الرواية.
وأيّا ما يكن الأمر، فإن الرواية بما تتضمنه من شخصياتٍ، وحوادث مطردة، متلاحقة، تتكئ على مفاصل تاريخية تجري الإشارة إليها باليوم والشهر والسنة، كالانقلاب العثماني، ووفاة السلطان عبد الحميد ، ومؤتمر سان ريمو، ووفاة خليل البحري، ومصطفى، وخير الله ( أبي غالب) واندلاع الحرب العالمية الثانية، وقرار التقسيم في تشرين ثاني من العام 1947 وهذه المفاصل التاريخية لا تخلو من وظيفة تؤديها أداءً فنيًا، فهي أن تمثل هيكلا يجمع ما في الرواية من حوادث متناثرة، ومتداخلة، تسودها تقنية التقديم والتأخير تارة، والاسترجاع باستدعاء الماضي تارة، والاستشراف أو التنبؤ بواقع يحدث تارة أخرى، وهذه المفاصل التاريخية تساعدُ على تنضيد هاتيك الحوادث المتناثرة في نسق يخدُم القراءة.
أما الحدَث الذي يحتل موقع البؤرة في البناء السردي لهذه الرواية، فهو دخول قوات جيش الإنقاذ فلسطين، وإعلان قيام الدولة العبرية، وما صاحب ذلك، ورافقه، منْ نكَبَاتٍ، ووَيلات كارثية، إحداها مقتل الحاجة(علياء) زوجة الحاج خليل البحري، التي عرض عليها ابنها علي الذي لجأ إلى عمان أن تغادر منزلهم في شارع المينا بيافا مع ابنه خالد وسائر أبناء الأسرة، فأبت، مُصرَّة على البقاء حيث البيت الذي عاشت فيه، بأيامها الحلوة والمرة، ولكن الإسرائيليين بما جبلوا عليه من وحشية، وما فطروا عليه من قسْوة، قتلوا هذه المرأة، فكان الخبر بمقتلها على أيدي هذه العصابة الغاشمة الستار الذي أرخى سدوله على أحزان الزمن السردي في هذه الحكاية، وما يمتلئ به من فواجع.
ومنَ الملاحظ حرصُ الكاتب الدكتور طالب أبو شرار على تجميع أطراف الوطن العربي في نسيجه السردي، وفضائه القصصي. فالقارئ يتنقل عبر نيف وثلاثمئة صفحة بين يافا، وحيفا، والقدس، وبيروت، ومكة، والمدينة، والقاهرة، ودمشق، وبغداد، وعمان، واسطمبول، ولندن، ولم يفته أن يضمّ إلى هذا كله: الجزائر، ونجْد في الجزيرة العربية التي ينتمي إلى بعض قبائلها ماجد العربي الذي تزوج من الطبيبة هدى خليل البكري، فهو – فيما يؤكد لنا الراوي – من عنيزة في نجد بالجزيرة. وبهذا التنقل المنضبط روائيًا يجمع مثلما يُقال- أطراف هذا الفضاء، مؤكدًا وحدة الوطن العربي، ولو على سبيل المجاز، ما دامت تتعذر الوحدة في الحقيقة.
علاوة على هذا رصد الكاتب عن طريق الشخوص ردود الفعل التي تشكلت منها الحركات القومية، والدينية، والتحررية العربية، بعيدًا عن الرصد التاريخي المباشر الذي نجده في كتب أخرى تتحدث عن هذه الحقبة. فعلى سبيل المثال يمثل خير الله وابنه غالب تيارًا قوميًا مقاومًا (فرسان الحق) وسامي في بغداد يمثل هو الآخر تيارا قريبا من التيار القومي، ويمثل زواجه من زبيدة مهاجر الكردية تأكيدا لوحدة الوطن بعربه وبأكراده. ومصطفى يمثل تيارا إسلاميا مستنيرًا يؤمن بالحرص على الخلافة ، وتغير موقفه بالتدريج نحو علمانية تقوم على مبادئ الحرية، والحق، والعدالة. وكنعان وأولاده يمثلون الخط أو الاتجاه الداعي للانفتاح على الغرب، والتزود بما لديه من علوم، وتقدم تكنولوجي، عملا بالمبدأ ‘ وداوني بالتي كانت هي الداءُ’.
ومع هذا، لا تخلو رواية طالب أبو شرار من بعض المشكلات التقنية على صعيد البناء الروائي، وأولى هذه المشكلات كثرة الشخوص، فتوافر عدد كبير من الشخصيات وإن كانت الضرورة الفنية هي التي أملت على الكاتب ذلك- إلا أن هذه الوفرة، وتلك الكثرة، تمثل مشكلة لدى القارئ، فهو مع ظهور كل شخصية جديدة في الفصول يضطر لإعادة تذكر الشخصيات الأخرى التي سبق ظهورُها ظهورَ هذه الشخصية الجديدة، كي يحدّد موقعها بالنسبة لهاتيك الشخصيات. وإذا تذكرنا أن عدد الشخصيات تجاوز الاعتدال إلى الإفراط، اتضح لنا ما الذي تتركه هذه الكثرة من عناء لدى المتلقي. ففي الصفحات الأولى، وقبل أن يبلغ القارئ الصفحة ذات الرقم 39 يربو عدد الشخصيات على العشرين، وهذا إذا لم يكن كثيرا فهو مبالغ فيه.
وثاني هذه المشكلات اعتماد المؤلف على تقديم هذه الشخصيات تقديمًا مباشرًا، عن طريق الراوي كلي العلم. مما أضعف القدرة على التمييز بين تلك الشخصيات لدى القارئ. فالتقديم المباشر، والوصف الخارجي، وعدم اللجوء إلى البناء الدرامي، جعل الشخصيّات، وإن كانت أدوارها مختلفة متباينة، أنماطًا متشابهة تشابه القوالب. ولهذا اضطر الراوي مرارًا لتذكيرنا تذكيرا غير صريح باختلاف سامي عن خير الله، وباختلاف على عنْ مصطفى، واختلاف كنعان عن إخوته كمال وجودت وتمام. وهكذا.. فخلو الرواية من الحوار الدرامي يخفي الاختلاف والتباين بين هذه الشخصيات، فالمتكلم في الرواية هو الراوي. حتى تلك الفقرات التي تمثل ضربًا من المناجاة، أو المونولوج الداخلي، جاءت بلسان الراوي نقلا عن الشخصيات. وهذا الراوي يمثل، شئنا أم أبينا، صوْتُ المؤلف. والحوار الذي يجري بين الشخوص فيما يشبه الديالوج نرتاب في قبول القارئ له واستحسانه إياه. فهو على سبيل المثال يجري حوارا بين الضابط البريطاني إدوارد الذي خلف الضابط سميث مع طلعت الرومي (ص170- 171) بأسلوب لا يُمكن أن يقتنع القارئ باحتمال وقوعه، فقد اتضح منه أن إدوارد هذا يعرف عن العرب والمسلمين وتاريخهم القديم والحديث أكثر مما يعرفه طلعت الرومي وغيره، بل يكاد يعرف عنهم أكثر مما يعرفه الباحثون المتخصصون منا. فهو يحدّثه عن صلح الحديبية، وعن تسلم عمر بن الخطاب القدس بشروط في إشارة للعهدة العمرية، وعن صلاح الدين الأيوبي وقبوله شروط ريتشارد قلب الأسد في صلح الرملة، فمثل هذا الحوار حوارٌ تعليمي ينم على حقيقة أن الراوي هو الذي يتكلم وليس إدوارد الذي لا يعدو كونه ضابطاً في الجيش.
وفي موقع آخر (179) وبدافع من إعجاب آن الإنجليزية بطبق من صيادية السمك وآخر من( المقلوبة) تتحدث في حوار مع كمال، وجودت، وتمام، في شقتهم بلندن، عن الفلسطينيين وتراثهم الثقافي حديثَ منْ هوَ غيْر إنجليزي ولا غربي.
ويمثل ظهورُ الحشو، من حين لآخر، في الرواية مشكلة أخرى، ونعني بالحشو- ها هنا- روايَةَ أحْداثٍ أوْ ما يشبه ذلك دون أن تكون لها ضرورة، مما يعيق النو الطبيعي للسرد، والتسلسل المنطقي للحوادث، والخروج على قواعد الاتّساق. فإذا سمَّى خليل البحري حفيدّه من ابنه علي خالدا نجدهُ يروي لنا بعض أخبار خالد بن الوليد، وما كان يتصف به من ذكاء وفن في القيادة. وإذا سمى حفيدته خولة، فلأنه معجب بخولة بنت الأزور، ولذا يروي لنا بعض أخبارها التي تناقلها الرواة. وهذا وما شاكله، وشابهه، زاد في حجم الرواية زيادة لا نظنها إلا عبئا على الكاتبِ والقارئ.
صفوة القول أن هذه الرواية تصوّر بدقة، وعمق، مأساة الشتات الفلسطيني، وسعي المشردين الذين تقاذفتهم المنافي تقاذف أقدام اللاعبين للكرة، للتغلب على متاعب الحياة في فضاءات بعيدة وجدوا أنفسهم فيها بعد أن اقتلعوا من أرضهم، ومدينتهم، ليزرعوا في أرض أخرى، وفي مدائن أخرى. فيحاول بعضُهم أن ينشئ تجارة كالتي اعتادها في يافا، أو يبحث عن وظيفةٍ، أو عمل آخر. لكن الكاتب في النهاية يجْمَعُ الأبناء، والأحفاد كلهم، في لقاء رمزي بعمّانَ، كأنما ليقول لنا: إن هذه المدينة تجمَعُ ولا تفرّق.
*ناقد وأكاديمي من الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية