خواطر في طي النسيان

حجم الخط
0

كنا قبل زمن ليس ببعيد، نمسك القلم ساعة صفاء الذهن، وعند التقاء الأرواح وافتراقها، ونخط بأناملنا كلمات على ورق؛ بحثاً عن فيض مشاعر واكتشافاً لذات نحتويها في أجسادنا وبين أطرافنا. بعض هذه الخواطر كان بداية لفكرة كتاب، وبعضها الآخر رسالة من أيدينا إلى أرواحنا أملاً في قتل ذكريات أقضت مضاجعنا، وأتعبت بضع أفئدة. اليوم تغير الحال، وانقلبت الآية، وأصبحت الخواطر مجموعة كلمات وتحديثات على مواقع التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها.
قبل مئات السنين، تدارك ابن الجوزي شلال أفكاره وخواطره، وداهمها من حيث لا تدري، وجمعها بين دفتي كتاب أسماه ‘صيد الخاطر’. فالكتاب ليس إلا تجميعاً لأفكاره المتناثره وخواطره المبعثرة في حال البلاد والعباد، كان يكتبها لحظة ورودها أنحاء ذهنه. يقول ابن الجوزي في سبب تأليف هذا الكتاب: ‘لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها، فتذهب.
كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى’. ففكر ابن الجوزي كان سابقاً لزمانه، وباشر بتدوين الخواطر الواحدة تلو الأخرى، وكانت المحصلة كتاباً خلده أبد الدهر. لم يستسلم لخياله ودفق أحلامه، وعرف من أين تؤكل الكتف، ونقل فكره لعصور أتت من بعده. رحل بجسده، وكلماته ما زالت حية ترزق بيننا وفي مكتباتنا.
كل يوم، تواجه عيوننا عشرات بل مئات الخواطر في مواقع التواصل الاجتماعي، وتنشأ على أثرها علاقة غير مرئية بين القارئ وصاحب الخاطرة. في كثير من الأحيان، نترصد لتحديثات أشخاص محددين، سبراً لأغوار أرواحنا وذواتنا، ومحاولة لخلق تخاطب وهمي مع فكر نال إعجابنا لسبب من الأسباب. لكن السؤال الأكثر إصراراً وإلحاحاً هو: ‘من سينقل هذه الأفكار إلى الأجيال اللاحقة؟! وكيف سينصفنا من سيأتي بعدنا في صواب الفكر ونهضته؟’. قديم الإرث الفكري نجده في الكتب الزاخرة من كل حدب، وإرثنا الفكري إن أمكننا إطلاق هذه الصفة عليه- بات في معظمه ٍجملاً منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي. قد يقول قائل أن حمى التواصل الاجتماعي أصابت العالم أجمع، لكن من المهم بمكان أن نعي حقيقة عدد الكتب المنشورة في بقاع الأرض المختلفة، وعددها في منطقتنا تحديداً. فالواقع العربي هو نشر الأفكار هناك، وعصيانها عندما يأتي الأمر إلى توثيق جديدها!
فحال المقام هو اختلاط الحابل بالنابل، وضياع كل ذي قيمة من التحديثات بين العديد منها. لربما أفسحت لنا مواقع التواصل الاجتماعي فرصة للتعبير عن النفس والفكر بطريقة أكثر سهولة وأكثر مرونة، وكسرت حواجز الخوف والخجل، فبات الطريق ممهداً أمام كل صاحب فكر لنشر ما يجود فيه عقله. طريق ابن الجوزي كان الطريق الصعب، وأفلح في طرق التاريخ من أقل الأبواب اتساعاً، وسجل اسمه في قائمة المفكرين والمؤلفين. من العلامات على تغير طريقة تفكيرنا تظهر جلياً عند وفاة وفراق أحد المقربين، ولو كان وهمياً. فهذه العلامة هي مسارعتنا لمعرفة آخر ما كتب المفارق في مواقع التواصل الاجتماعي، وسعينا الدؤوب لنهل آخر أفكاره، بعد ما كانت الحالة في سؤال آخر من رافقه عن أقواله ومشاعره، وقراءة كتبه وأوراقه إن وجدت!
فأفكارنا باتت في جلها بضع تحديثات هنا وهناك، ومصائرها النسيان! انتبه بعض البشر لوقع الزمان على أفكارهم، فبدأوا وانتهوا من تجميع تحديثاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي في كتب.
إلا أن الجزء الأكبر من أفكار الأشخاص الآخرين سيضيع مع مرور الوقت، وسيضحي القادم من الأجيال أمام فراغ فكري وفجوة انتقال وتطور من عصر إلى آخر. قد يرى البعض مواقع ‘الفيسبوك’ و ‘التويتر’ تهديداً لسلامة الفكر والمحتوى، إلا أنهم قالوا قبل قرون أن الفرص تكمن في جوف المخاطر. فبين فكي الخطر، فرصة عامرة لتطوير ونقل محتوى قد يفخر به أبناؤنا فيما سيحل من أيام. فالخواطر حالياً مستقبلها النسيان والاندثار أمام ناظرنا، وترك حاضرنا ومستقبلنا عرضة لأقلام عديدة. نعم، نعيش الآن بين أمواج متلاطمة ل، وشاهد نزاعنا الوحيد هو الزمن!
حسام خطاب الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية