الألم الوجودي… اتّساع الجسد وضيق الواقع

حجم الخط
0

تستقلّ الرّواية بذاتها استقلالا مُتعويا حينما تقدّم للعالم رغبة غير متاحة لغويا، أي إنّها تقدّم عجز الإنصات الحالم إلى الواقع، فتبدو المعضلات الوقائعية التي كانت صعبة المقاربة نتيجة انفقاد اللغة.
كأنّها مسافات تقع قرب الذّات المتلقية، فوق أفقها المتابع للعالم، كأنّها حلم يتهادى من الفكر إلى مكانها من الواقع يمدّها بما غاب عنها وما تريده من حركة العالم وذاتها فيه، ذلك أن النص، الرّوائي على الخصوص، مرتع للخيال الذي يعتبر ‘تجربة جديدة تعيد صياغة التّصالح بين الفكر والحلم’1.
تقع رواية ‘الآن… هنا أو شرق المتوسّط مرّة أخرى’، لعبد الرّحمن منيف على حافّة الحلم، خصوصا وإنّها تتسرّب من الذّات الناصّة متناهية في شكل تداعيات حتّمتها طبيعة الكتابة المذكّراتية التي تتّبعتها كلّ من شخصيتي عادل الخالدي وطالع العريفي الرّوائيتين، في سرد تجربة كل منهما داخل أسوار السّجون، فالناص يقدّم تجربة روائية تتنصّل من الخيالي لتتثبّت على أرضية الواقع من خلال الحكي المتسلسل لمشهد دراماتيكي، يرمّم واقعه المابعد مأساوي عن طريق الإحتكام إلى الذّاكرة طبقا لما تقدّمه الشّخصية الورقية، وأيضا طبقا لما تقدّمه شخصية الناص المنتجة لرؤيا العمل الأدبي، عن طريق الاحتكام إلى الحلم أو حلم اليقظة، ‘الذي يمثل الحدود الأخيرة لعقلنا’2، كما يقول غاستون باشلار، حيث يصبح في حميمية معلنة مع الحلم، والخيال المنتج للفن، فرواية ‘الآن… هنا’ رؤية حلمية تحايث الحدث وكأنّها على مقربة منه، تقدّمه وفق نسق تتداخل فيه الرّؤية الفنّية الخيالية مع التّجربة المعيشة في أتون الحدث، حيث يبزغ الجسد ككيان تتشكل هويّته من خلال الحركة في العالم، أي وظيفيته الرّمزية التي تنفلت من واقعيتها الفجّة وتنزع نحو رمزية المعطى وخصوص الدّلالة من خلال تداخل العقلي بالوجداني في التّجربة الإنسانية، ليجد الجسد تعبيراته الأشدّ انبثاقا من خلال جدليتي الألم والأمل، ضمن فضائي مستشفى ‘كارلوف’ والسّجون التي تسجّلها مذكرات كل من شخصيتي طالع وعادل.

الضيق والاتّساع/جدل العالم والجسد:
يصدر عبد الرّحمن منيف في روايته ‘الآن… هنا أو شرق المتوسّط مرّة أخرى’ عن إحساس بضيق العالم واتّساع الجسد، يضيق العالم إلى أن يصبح مستشفى وسجنا، وكلا الفضائين مجال لاشتغال الجسد، فالمستشفى روائيا يقاوم فيه الجسد شراسة المرض، والجسد في السّجن يصارع ضراوة التّعذيب، للانفلات في كلتا الحالتين من الغياب الذي يسبّبه حضور الموت كفعل حتمي، وعليه تتأسّس الرّواية على حدثية تناهض الحتمي في إكراهاته اللاّمبرّرة. فالسّلطة ترى حتمية خضوع الأفراد لها، لذلك تقيم السّجن لتردع التّفكير في الخروج عنها، وبالتالي يصبح حتمية مبرّرة بالنسبة إليها، بينما سلوكها هذا بالنّسبة للأفراد يمثل إكراها يمنعهم ممارسة حرّيتهم، حتى إذا سُلبت هذه الأخيرة شعروا بالموت، وبالتّالي فالجسد يتأسّس بعنف كشخصية محورية في الرّواية، لأنّ الموت المؤكد حدوثه في السّجن سواء رمزيا عن طريق تقييد الحرّية والحركة، أو الحاصل بالتّبعية للتّعذيب، يُوازَن بإلغاءه رمزيا أيضا وواقعيا بالحضور القوي للدّلالة الإستشفائية:
‘في براغ لم يردّوا عنّي الموت أوقفوا زحفه فقط، بذلوا كل جهدهم..’/ص9
تأخذ سردية الموت منحى قدريا ينساب داخل المعنى، كأنّه شيء متخفّ يكشف عنه حضور الإرادة السّالبة للحرية، وتتفجّر رمزية غريزة الحياة من خلال فعل المغالبة لإنجاز انتصار ما على الموت، من خلال الفعل الإستشفائي، الذي ينصبّ على الجسد كفاعل أساس في حركة السّرد ومتغيّرات الحدث، حيث يؤول الفاعل السّردي عادل بدلالة الجسد إلى تبئير وجوديته في عمق الحدث، وهو ما يميّز شعوره المتدحرج في الخاطرة المركّزة عند هذا المفصل السّردي:
‘وبكثير من الدّأب والجهد وبأعمال الخيال أيضا، توصّلوا، وبعد فترة من الانتظار، إلى ترميم جسدي المتداعي..’/ص9
فعل التّرميم لا يمكن أن يوقف تداعي الجسد، لكنّه يمنحه فرصة لكي يمارس انبثاقه على مسرح الكينونة والفعل، وبالتّالي يصير الجسد منتَج المتخيَّل الذي يهبه الأشكال الحدثية المختلفة، فالجسد سرديا يتأسّس وفق وضعيات المرض والتّعذيب والإهانة والإهمال، ومع هذه الحالات الممعنة في هدم الجسد هناك أيضا حالة الاستشفاء، التي تتفاعل مع الحالات السّابقة لتمنح الجسد وضعا خياليا لا يمكن إنجازه إلا سرديا، وهو ما ساهم في ترميم الجسد العنيد الذّي يمتلك الإصرار على الحياة.

الجسد/الوجود أو الشّعور بالعالم:
يتحرّك الجسد طبقا لإرادة الذات الفاعلة التي تهيمن على مفاصله، بحيث يمكن لها أن تساهم في عملية إبراز كينونته المؤقّتة داخل الوجود، على أساس أنّه موضوع تزيله الإماتة، لهذا يرتبط الموت في كثير من الأحيان بالجسد، باعتبار الغياب الذي يطويه خارج الحدث الوجودي للعالم، والإنتباه إلى تواشج الوجود والجسد في موضوعة الكينونة، يحيل على ارتباطهما ببعضهما البعض بل لعل الوضع الوجودي يتطوّر مع وجودانية الجسد إلى أن يعتبر ميرلوبونتي ‘أن الوجود منضو داخل الجسد’3، بمعنى أن الجسد هو التّعبير الكامن في الوعي بالعالم، على أساس أن كل وعي هو وعي بموضوع، وقد يحيلنا المعنى إلى قصدية الشّعور عند هوسرل، على أساس فينومينولوجية كل من ميرلوبونتي وهوسرل.
إنّ رواية ‘الآن.. هنا’، تباشر اشتغالا حفريا في علاقة الجسد بالعالم، حين ترسم الموت في أفق العلاقة لتفعيل جدلية الحياة، فالوحدة السّردية التالية:
‘لا أعرف كيف تنظرون إلى الموت هناك..’/ص81
جملة اعتراضية، وردت سرديا قي شكل تساؤل، يكشف عن احتفاء ضمني بالموت، كشكل من أشكال الوجودية المتناهية، وبالتّالي تميّزه طقوسية معيّنة تشكل رمزيته داخل الوجودية الفاعلة، فتتحدّد قصدية الوعي الميرلوبونتي سرديا، وتبني أثارها من خلال الدّفع بإنتاج رمزية الجسد بين الوجوديتين الفاعلة والمتناهية، حيث عند مرور الممرّضة جوليا على غرفة عادل الخالدي بعد موت زميله طالع العريفي، وجّهت له خطابا استنكاريا لسلوكه الرّاهن:
‘.. وأعتبر أن موقفكما، أنت والعريفي، خاطئ، فالأول قتل نفسه بشكل ما، وأنت تصرّ على أن تبقى مريضا..’/ص81
إنّ الخطاب السّردي يستنكر حالة المرض التي تستمرّ في إصرار عادل عليها، أي حالة الإصرار تكشف عن الارتهان لمأساة الذّات، النّاتجة عن الظلم الاجتماعي والسياسي، وبالتالي يصبح اليأس هو الكاشف للمرض المفضي إلى الموت، ويصبح المرض معادلا موضوعيا للموت الذي حصل بالفعل في حالة شخصية طالع، الذي استسلم لليأس.
تصبح موضوعة الموت فاعلة في تفجير الوعي بموضوعة الحياة، على أساس أن التغلب على الموت، وكشف عبثية الوصول إلى حافّة التناهي الوجودي، يفرز بالضرورة انتصار الحياة، وبالتالي انتصار الجسد الذي هو موضوع الموت، حيث يقع عليه فعل الإنحلال كميكانزم بيولوجي يعيد الجسد إلى طبيعته الأرضية التّرابية، وهو أيضا موضوع الحياة على أساس فاعلية الجسد في ممارسة الوعي بالوجود من خلال حركته كنسق جمالي متكامل، تحرّكه الغرائز والمشاعر، ولا يمكن الوعي بهذا النّسق الجمالي في إطار إهمال موضوعة الموت الوجودية التي يتحقّق من خلالها الوعي بالعالم أيضا، كحالة تحقق الغياب عن ذات العالم، لهذا فالخطاب السّردي يربط بين قدسية الجسد، والرّؤية للعالم، فالإستهانة بالجسد تعني إهمال قيمة الأشياء في العالم، ويبدو ذلك من خطاب الأخت جوليا:
‘جسد الإنسان مقدّس، وهو هبة من الله، لذلك لا يجب أن نتعامل معه باستهتار..، لأنّ من يستهتر بجسده أو يزدريه لا يعتبر بالنّسبة له أي شيء يستحق الاحترام أو مقدّسا’/ص81.

البرامج الإسمية/الاستمرار والانكسار:
تصنع الحكاية سرديا حالة خاصّة من التّداخل المختزِل لمسافات التّرميز عبر الفواعل الرّئيسة، فالحكاية تنحسر لتمهِّد للسرد دلالته الإيحائية وتأكيد جدوى الخطاب، حيث تختزن الأسماء شحنات سردية تحدّ من ثرثرة الحكي لتعكس عبر التّوظيف الواعي لدلالاتها المضمونية سردانية بديلة أو سردانية التلقي في إنتاجه للنص الموازي، فمفهومية الإسمين ‘عادل’ و’طالع’ تتجاوز الوظيفة الإشارية والتّمييزية للذّوات المهيّأة لترتيب محكي النص، إلى عناصر، تتفجّر داخل المسار المتوائم مع حركة السّرد العام لتبحر دلالاتها الخاصة في إطار تجليات الحياة وانعكاسات الموت كموضوعة فنائية.
إسم ‘عادل’ يقدّم سرديا برنامج الاستمرار لمنظومة حياتية تخرج من حالة الموات إلى الحركة عبر قيمة العدل، الذي يتأسّس وجوديا ومفهوميا ليستمر وينتج اثاره الفاعلة على مستوى الكينونة الوجودية للعالم والذّات المنخرطة فيه، وينبثق مسار شخصية عادل سرديا وحكائيا من رمادات الوجود المنطفئ ليستمرّ في فعالية الوجودي، وإن كانت نهاية الرّواية لا تعكس ذلك، حيث ينتهي عادل مراسلا لمجلة أزياء، وهو الشّخص المدجّج بالقيمة والمبدأ.
أمّا شخصية طالع فتنتصر دلاليا لحركة السّرد السوداوية في دفعها لما هو مقموع داخل أعماق الذات التوّاقة للوجود، حيث سردانية السّجن تحشر النَّفَس الوجودي داخل طلائع حياتية غير مكتملة، فالسّجن يتأسّس كحالة قامعة ومعيقة لحركة الإنجاز، وطالع يمثل الطلوع من الحالة الحياتية الفاعلة والحالمة، لكن الآيلة إلى نهاية الانكسار المتمثل في السّجن، فموت طالع يمنح معنى الطلوع دلالة التناهي القوية إلى الخيبة.
تدير الأسماء على مستوى النص لعبة الإنفتاح السّردي عند أفق تلقي القارئ، فالأسماء الأجنبية ترد مرتبطة بفضاء المستشفى، مؤسّسة المعافاة، حيث الإيحاء يشكل البراءة الوجودية من العطب والتشوّه المرضيين، أمّا الأسماء العربية فترد ضمن منظومات وجودية معيقة لحركة الإنسان.

*رواية، عبد الرّحمن منيف، الدّار العربية للدراسات والنّشر، ط/3، 1992.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية