مدى سلامة دعوة إبعاد المخضرمين وكبار السن عن المشهد الوطني

هناك من يريد إصطناع مواجهة بين الأجيال، وذلك على الرغم من أن ثورة 25 يناير، وهي الأصل، جاءت عابرة للأيديولوجيات والمذاهب والطوائف والأجيال، فالكل شارك بقدر ما يستطيع ويقدر. وفى موجتها الأولى كان الشباب في صدارة المشهد، ولم يعن ذلك غياب الأجيال الأخرى أو عدم مشاركتها، وكان مألوفا أن تجد الأسرة الواحدة بأجيالها المختلفة في ميدان التحرير أو في أي من ميادين الثورة في محافظات مصر. وقد اختلف المشهد بعض الشيء في ثورة 30 حزيران/يونيو، حيث تصدره متوسطو العمر وكبار السن، ومع ذلك تكرر خروج الأسرة الواحدة بأجيالها المختلفة في الميادين والشوارع.
وبدلا من أحكام البعض المتسرعة وارتفاع نبرة الإقصاء، كان المطلوب قراءة المشهد بشكل أدق، وسوف نجد أن الإقصاء من الآفات المصاحبة لنظرة البعض المنحازة ضد الحراك الشعبي طوال السنوات الثلاث الماضية، وكانت القراءة الموضوعية تشير إلى أنه في جانب منه كان عابرا للأجيال، وحمل المشهد الثاني في حزيران/يونيو 2013 نفس الروح، لكن الاستقطاب الحاد جعل الميل الأيديولوجي غالبا، وهو ميل غير مبرأ من الهوى، ويبتعد عن الموضوعية في تحديد المواقف من الأحداث والتطورات، فيحصرها بين نقيضين؛ القبول المطلق أو الرفض التام.
ومن المرجح أن سبب موقف البعض السلبي يعود إلى إقبال كبار السن في الاستفتاء على الدستور، والمدقق يجد أن الأعداد التي أدلت بأصواتها تساوت تقريبا مع أعداد المتظاهرين في كانون الثاني/يناير 2011، وإذا ما أعملنا معيار السن نكتشف أن نسبة عدد المسجلين في جداول الانتخابات من الفئة العمرية 18 – 30 تبلغ 28′ من العدد الإجمالي للناخبين، ومن حضر وشارك في حدود20’، ونسبة الغياب المقدرة بـ8′ كانت طبيعية إذا ما قورنت بمستوى مشاركة الفئات العمرية الأخرى.
والحقيقة أن الوجوه التي اشتهرت وتصدرت المشهد الإعلامي في 2011 تراجعت وحلت محلها وجوه أخرى ظهرت في استفتاء 2013؛ ولما كان البحث هو عن تلك الوجوه الغائبة صدر ذلك الحكم، وصار المخضرمون وكبار السن محل التركيز ومركز الاهتمام، وساعد على ذلك أن صوتهم كان هو الأعلى، وكأنهم يريدون إبلاغ رسالة تقول بأنهم شركاء وليسوا أرقاما أو ‘كمالة عدد’، كما نقول باللهجة المصرية، وأن تأثيرهم لا يقل عن غيرهم إن لم يزد.
وبلا جدال فإن الغالبية العظمى من أعداد الذين سقطوا شهداء كانت من الشباب وصغار السن، وكثير ممن خرجوا في الاستفتاء هم من آباء وأمهات وأشقاء آلاف الشهداء ومصابي الثورة، الذين ينتظرون القصاص لأبنائهم وبناتهم. وهذا يضاف لأقدارهم وقيمتهم، وقد كانوا دوما ظهيرا وسندا في معارك الكر والفر التي دارت أثناء الثورة وبعدها. بالإضافة إلى أن حجم العنف والقتل في الموجة الأولى كان الأعلى، لطول مدة الاعتصام في الميادين (18 يوما متصلة) المصحوب بصدامات مروعة مع أجهزة الشرطة القديمة، واستمرت فيما لحق ذلك من أحداث في ميدان عبد المنعم رياض وشارع محمد محمود وماسبيرو والعباسية. والقراءة الموضوعية تعصم المرء من الوقوع في فخ الانحياز إلى مخططات الإقصاء كأساس للفرقة والفتنة، التي يراد لها أن تعتمل في النفوس، وأزيح عنها الستار بعد 30 حزيران/يونيو الماضي.
ما زالت هناك جماعات تَحرِف الحراك الوطني في دروب ومسارات فرعية تبدد طاقته وتحد من تأثيره، وتتبنى خطابا تقسيميا أفقيا؛ اجتماعيا وفئويا، ويقسم المشاركين حسب الفئة والطبقة والمهنة والمنطقة السكنية، والجديد هو ما يمكن وصفه بالتقسيم الرأسي، ويتم بالتركيز على السن والفروق بين الأجيال.
نقول هذا بعد أن ظهرت دعوات على مواقع التواصل الألكترونية ضد كبار السن، وكأنهم حين يمارسون حقهم الدستوري والديمقراطي، وينفضون عن كاهلهم غبار السلبية يرتكبون جرما يستوجب العقاب، وسوف نلمس التجني الواضح إذا ما عرضنا قولا لأحد قادة حملة بدت صارخة، وهو ‘ناشط ألكتروني’ أفضل أن أشير إليه بالأحرف الأولى من اسمه (و. ع.).. محسوب على ‘الليبراليين الجدد’، ونشر في مدونته صورة تسخر من مشاركة كبار السن قائلا: ‘جيل عاش طول حياته يدمرنا بسكوته جاي النهاردة يدمرنا بصوته’. وقوبلت التعليقات باستهجان بالغ من الجميع شيبا وشبابا، واعتُبرت لغة غير لائقة، ولا تحمل أي حرص على مشاعر هذه الكتلة الكبرى المؤثرة؛ وهي تواجه مثل غيرها ضغوطا استثنائية صنعتها إخفاقات مستمرة؛ بسبب فقدان الأمن واستغلال ذلك من قوى معادية تنشر ما يعرف بـ’الفوضى الخلاقة’.
ومن المعروف أن الثورات تستمر بالمعالجات السليمة لكل ما يرفضه الناس وثاروا عليه، وبالتغيير الشامل للبنى الفاسدة والآيلة للسقوط، والثوار يقدمون التضحيات ثمنا لذلك، والمشكلة في ثورات العرب الأخيرة؛ أنها من النوع غير القادر على إحداث التغيير المطلوب، وغير المستعد لتحمل تكاليفه؛ خاصة أعباء تغيير موازين وتوجهات القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فازدادت الأوضاع سوءا وتعقيدا، وساعدها الشباب، الذي لم يخرج من دوائر الاحتجاج والتظاهر والمطالب، فلم يستطع أن يُغير شيئا ذا بال، وما تغير تم بعيدا عن القوى التقليدية؛ المهيمنة على الثروة والسلطة والنفوذ وإمكانية التأثير في الرأي العام، وبقي التغيير الذي جرى محصورا فيما حققته قوى الثورة على مستوى الشارع؛ من التحرر من الخوف وارتفاع الوعي، والإقبال على تقديم التضحيات، والمشاركة بفعالية في العمـل الوطني والأهلي، والتخلص من السلبية السابقة.
واعتاد الثوار فور أن يهبوا وينتشروا في الشوارع والميادين؛ اعتادوا الاستقالة بعد كل حشد واحتجاج، وترك الفراغ لتملأه جماعات وأحزاب، بما فيها جماعات وأحزاب خاصة بالفلول والثورة المضادة، ويصبح الهم الأول لها هو حصار الثورة وحصد الغنائم وتأمين المصالح، والثورات حين تقع تحت الحصار وتقبل بالاشتراك في الغنائم وتقر بتأمين المصالح الخاصة، لا تستطيع أن تلبي المطالب العامة، وتنتكس وتُجهض ولا تكتمل.
والشباب وقد تُرك له أمر قيادة الشارع وتوجيه الحراك الوطني لم ينازعه في ذلك أحد من كبار السن، وعليه ألا يلوم جيل الآباء وكبار السن، وقد شغلته السياسة عن الثورة، وكان عليه أن يسأل لماذا لم تحقق الثورة النجاح المرجو منها؟ ولماذا عجزت عن بلورة برنامج وطني؛ يقيم الدولة ويبني النظام ويحدد شكل الحكم؟.
ودستور الثورات من المفترض أن يولد من رحم برنامج وطني ويعبر عن روح الثورة، وعلى هديه يعاد تأهيل وتغيير المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وتتشكل الأحزاب على أساسه، واعتاد الثوار على الأولويات المقلوبة، فأحلوا النهايات محل البدايات، وهذا ما قد يعرض الثورة لموجات جديدة، بسبب الأولويات المقلوبة والمعادلات المختلة، وكان الأولى بالشباب أن يبحثوا عن حل لهذه المعضلات، فوجود البرنامج الوطني الغائب؛ يضبط مسار الثورة ويحصنها ضد الاختطاف، ويحد من الاختراقات وتسلل الثورة المضادة إلى صفوفها، وهي ما زالت نشطة صاحبة كلمة عليا وقادرة على التحكم في مصير البلاد وفي إذلال العباد.
لماذا لا يعي الشباب الذين يدعون لإقصاء كبار السن دور السياسة، التي انغمسوا فيها؛ السياسة والثورة نقيضان لا يلتقيان؛ إلا إذا تعرف المرء على مجال كل منهما وحدوده، ليحسن التعامل معهما؛ فالسياسة تعني الأخذ، وكل عطاء فيها بثمن، وحصيلتها تتم بالتسويات والصفقات والحلول الوسط والإنجازات الجزئية والمسكنات السريعة والأنصبة والغنائم والمناصب، والثورات عطاء بغير حدود، وتضحيات جسورة بلا تردد، وجهود مخلصة وإجراءات حاسمة، إلى أن تُحقق أهدافها، وتعتدل بها موازين الحياة في اتجاه الصالح العام، ولأن ذلك لم يتحقق بالمستوى المطلوب، بقيت الثورة في الشارع؛ هائمة على وجهها تبحث عن مُستقَر فلا تجد.
من المؤكد أن ثورة 25 يناير حطمت أركان الدولة البوليسية لكنها لم تسقط نظام الاستبداد والفساد والتبعية الذي رعاها؛ احتفظت بمقوماته وطبيعته وقواه ورهاناته، وكان ممكنا لذلك النجاح الجزئي أن يفتح أبواب التغيير الشامل على مصراعيها، وهذا لا يشغل بال ذلك الشباب الساعي لإقصاء كبار السن، فعجز عن حل هذه المعادلة الصعبة، وأصر على أن يتخذ لنفسه مكانا قصيا بعيدا عن أهله ووطنه؛ متصورا أن نجاحاته تمر عبر إعلان الحرب على الأجيال التي سبقت، وكأنه يعمل على أن تخسر الثورة ظهيرا شعبيا كبيرا ومؤثرا؛ إنها حربه الخفية للتقليل من قيمة ومكانة كبار السن؛ دون اعتبار لأوازنهم العلمية والثقافية وحتى التاريخية؛ فكثير منهم كانوا ثوارا مهدوا الأرض ودفعوا أثمانا غالية من الملاحقة والاضطهاد والاعتقال والنفي، وكم حركوا انتفاضات ومظاهرات منذ ‘انتفاضة الخبز’ 1977، وبعدها؛ مرورا بحركة كفاية، وختاما بانتفاضة المحلة في 6 إبريل 2008، وقد كانت البيان العملي الذي نفذته الثورة في يناير 2011.
وظاهرة إقصاء كبار السن عرض لمرض أصاب ‘الليبراليين الجدد’؛ ومعهم فرق الإرهاب المسلح؛ وبوصلتهم مصوبة دائما في اتجاه الخارج؛ وقد اقتِلعت جذورهم من تربة الوطن، وتركوا أنفسهم في مهب رياح الأطماع الاستعمارية؛ توجههم كيفما تشاء. وهم من أجيال لا تعرف معنى الوطن، وتغيب عنهم حقيقته وانتماءاته ودوائره العربية والإسلامية والإفريقية، يحتقرون الشعب ويلعنونه ليل نهار، وها هم مؤخرا يصفون المصريين بأنهم ‘عبيد البيادة’؛ إنها أجيال نشأت وترعرعت في عصور التجريف والتجفيف، الذي أصاب منابع الثقافة والفكر والوعي لأكثر من أربعة عقود سبقت ثورة يناير.
كثير منهم لا علاقة له بالشعب، ويتأففون منه، ويندمجون في عالم افتراضي سقطت فيه حدود الزمان وتهدمت من حوله أسوار المكان، فلا ولاء ولا انتماء؛ منهم من يتعامل على طريقة أهل الكهف، فالوطن عندهم مجرد مغارة ومخبأ، ومنهم من يرى الوطن مجرد فندق؛ يقيم فيه كمستشرق يرطن، بلهجة ‘الخواجات’، ويرى مصر منتجعا للنهب والمتعة، ويناصر آليات السوق، ويقدس قوانين العرض والطلب، ويتعيش على شعارات الحريات المدنية، ويرفع راية حقوق الإنسان منفصلة عن حق الإنسان في أن يعيش في وطن آمن ومستقل، وعن حقه في المقاومة والتحرر الوطني والاجتماعي والإنساني.
إنها أجيال قابلة للكسر ولديها قابلية للتبعية ولا يعنيها التحرر الوطني ولا الوحدة الوطنية أو العربية، ولا علاقة لها بالقضية الفلسطينية. وتفهم فقط في التنمية البشرية ومكافحة الفقر وإعادة الهيكلة الاقتصادية، كأغطية لتسلل النفوذ والاحتكارات العالمية، وتحيا على ما تجود به المنظمات الغربية، وعلى فتات وهبات المؤسسات والمنظمات الأمريكية والأوروبية والغربية المصهينة.

‘ كاتب من مصر يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية