وداعاً خوسّيه إميليو باشيكو ..صوت المكسيك الصّادح

حجم الخط
1

غرناطة من محمّد محمّد الخطّابي: عن سنّ تناهز 74 سنة توفي في مكسيكو سيتي يوم الأحد المنصرم 27 كانون الثاني/يناير 2014 الشاعر المكسيكي الكبير خوسّيه إميليو باشيكو الذي يعتبرمن كبار الشّعراء والكتّاب المكسيكيين المعاصرين،وهو معروف بإسهاماته،وعطاءاته في الحقل الإبداعي في الشعر والنثر على حدّ سواء.
عندما فاز باشيكو عام 2010 بجائزة سيرفانتيس في الآداب الإسبانية أشيع عنه أنّه صرّح بأنه من أحسن الشعراء في أمريكا اللاتينية، إلاّ انه فنّد ذلك الإدّعاء مشيرا: كيف يمكنني قول ذلك..فأنا لا أطمح أن أكون حتّى أحسن شاعر في الحيّ الذي أقطنه.. وأردف قائلا ..لا، لا نسيت أن أقول لك انني جار للشّاعرالأرجنتيني الكبير خوان خيلمان…! (توفّي في العاصمة المكسيكية كذلك في 14 ينايرالجاري ودفن بها)، عن باشيكو يقول بلديّه الكاتب المكسيكي الكبير الرّاحل كارلوس فوينتيس: ‘ الأعمال الإبداعية لباشيكو أعمال ذات صبغة عالمية، وهو يشارك بها في الأمجاد الأدبية لكلّ العصور’، يعتبر بعض النقّاد قصيدته ‘الخيانة العظمى’ من أعظم قصائده في الإبداع الشعري المكسيكي، وهي مدخل أساسي لفهم هذا البلد، والمشاعر المتناقضة لدى العديد من المكسيكيين ‘.
عناصر الليل وسكونه
منذ ظهور كتابه الاوّل ‘عناصر الليل’ (1962) والذي تلاه وهو ‘سكون الليل’ (1966) أبان عن تفوّق مبكّر ومقدرة فائقة، في الإبداع الأدبي شعرا ونثرا، يصف الناقد المكسيكي ‘إيفراين وينتاس’ هذين الديوانين بأنهما مكتوبان بلغة نابضة ن وعاطفة متأججة، وعمق كبير.
ويلاحظ هذا الناقد أنّ هذا الشاعر قد فاجأ الأوساط الأدبية في ذلك الوقت، وهو بعد شاعر مبتدئ خاصة فيما يتعلّق بالمواضيع التي كان يختارها لشعره، وتعريته لحقائق الحياة، فضلا عن جمالية صورته الشعرية، وأخيلته الخصبة، يقول باشيكو:
الحمامة الرّماديّة
تنفض عنها سكون الصّمت
فيشعّ طيرانها العالي
في الفضاء.
فضلا عن عنصر التماثل الثقافي في الشعر اللاتيني، إنه يقول :
أنت تعرف جيّدا
أنّ أحدا لم يعرف قدره
كلّ ما هو آت مجهول
فلا تستفسر التكهّنات.
وشبيه بإطنابات ‘أرثر رامبو’ وتخميناته المنبسطة :
في الوقت الذي كنت أنجرف
مع الأنهار البّاهرة
أيقنت أنّ الذي كان يجرفني
إكتئابي وتوجّسي
وقد نوّه الروائي البيرواني المعروف ‘ماريو بارغاس يوسا’ (نوبل في الآداب) منذ زمن بعيد بشعر باشيكو وبنبوغه المبكّر، وبالمواضيع الجريئة التي كان يتطرّق لها، فضلا عن روحه الاندماجية، ونضجه الإبداعي ومقدرته على التعبير والإبلاغ .كما أشاد ‘يوسا’ بنظرته الشعرية المشعّة الناصعة لمفارقات الحياة، واسترعى اهتمامه ثراؤه اللغوي والثقافي، حيث تجتمع في شعره عدّة لغات وثقافات، واعتبر ‘يوسا’ أحد دواوين باشيكو وهو ‘عناصر الليل’ أنه حدث حقيقي كبير في الشعر الإسباني الامريكي.
وفي كتاب آخر لباشيكو وهو: ‘لا تسألني كيف يمرّ الزّمن'(1969) نجد شعره يزداد ثراء ونضجا، وتتميّز تجربته الشعرية بالتنوّع والعمق، وكان لا يخرج عن الناس بشيء من شعره إلاّ إذا راجعه مراجعة دقيقة ونقّحه.
شعر باشيكو حصيلة قراءات واسعة، وتجارب متعددة، حيث يتجزأ ويتفرّع صوته الشعري في صيغ لغوية متعدّدة، وأشكال بلاغية متباينة، وأقنعة مختلفة، وأصوات متناوشة ،في تحاور وتشاجر وعناد.
أوكتافيو وباشيكو
ويذهب الشاعر المكسيكي الكبير الرّاحل ‘أوكتافيو باث’ (جائزة نوبل في الآداب) في مقدّمة كتاب ‘ الحركة الشعرية في المكسيك : ‘ أنّ تجلّيات باشيكو الشعرية تظهر في شكل تعامله مع اللغة حيث نجدها عنده لغة هادئة واضحة، إلاّ أنها في نفس الآن لغة موفية صاخبة. وفي ديوان باشيكو السابق ‘لا تسالني كيف يمرّ الزّمن’ يبدأ مرحلة جديدة في شعره يصنّفها الناقد ‘خوسيه ميغيل أوفييرو’ انها تتّسم بالسخرية والتهكّم، وبصراحة وجرأة في نقده ورؤيته للمجتمع، وأبياته مفاتيح سحرية يكتشف بها باشيكو عالمه الشعري، ورؤاه البعيدة الغور، وتجعلنا نشعر بعض أقنعته الشعرية أنّ باشيكو ينسلخ عن شخصيته الحقيقية في فنّه ،ويفضي بنا هذا إلى التفكير في شاعر إسبانيا الكبير ‘أنطونيو ماتشادو’، و’يوميات معلّم البلاغة والبيان’ عندما تواجهنا في أشعار باشيكو شخصيات الوجه الظاهر والمتخفّي للشاعر أيّ الوجه الحقيقي والقناع.
وفي كتابه ‘ترحلين بدون عودة’ (1969) نجد باشيكو يصف حرفة الشاعر ويأسه وخيبة أمله فيقول :
إنّه كمن يحرث البحر
ويكتب فوق الماء.
وعندما يقول:
في ذلك العام كتبت عشر قصائد
عشر أشكال مختلفة من الفشل
وفي كتابه: ‘جزر الإنسياق’ (1975) نجد في شعر باشيكو غير قليل من الحقائق التاريخية والجغرافية، فضلا عن الغوص في سديم الطقوس وفي ثبج الأساطير القديمة في بلاده، وفي هذا الإطار يحاول الشاعر آسر الزّمن الذي لا يرحم، ولا يلين بواسطة الكلمة الشعرية، كما يعهد إلى إعادة خلق الشعر داخل الشعر أي الاستشهاد أو ذكر شعراء آخرين في شعره .
ويصف أحد النقّاد شعر باشيكو ‘ أنّه شبيه بشعاع الشمس الذي يخترق الزجاج دون أن يلطخه أو يخدشه’.
وفي شعره أبيات تعتبر علامات ثابتة، وصوى مرصوصة في طريق الزّمن، في حين أنّ له أشعارا أخرى تنمو وتتحرّك وتتغيّر من قارئ إلى قارئ، ومن زمن إلى زمن آخر:

النّزول إلى إيتاكا
أنت دائم التفكير في ‘إيتاكا’
النزول فيها هو قدرك المحتوم
ولكن لا تحاول أن تستبق يومك
خير لك أن تنتظر أعواما طويلة أخرى
وعندما تنزل الجزيرة
يكون الزّمن قد سلّمك للهرم
إلاّ أنك ستصبح غنيّا
بما كسبته في رحلة الإبحار
دون أن تنتظر بأن يأتيك الغنى
في إيتاكا
فقد وهبتك سفريّة رائعة
فلولاها لما برحت مدينتك
ماذا إذن تريد أن تمنحك أكثر
ممّا حصلت عليه
إنك إن لم تجد بها شيئا
فقد كسبت شيئا آخر
فقد أصبحت عالما بتجربتك
عندئذ سوف تعرف ماذا
كانت تعني بالنسبة لك إيتاكا
وفي ديوانه ‘أعمال البحر’1982) نجد إشارات وتجارب متعدّدة حول رحلات وسفريات باشيكو ليس في الحيّز الجغرافي وحسب، بل والزمني كذلك حيث تجاوز غير قليل من الشعراء والأدباء الذين أعجب بهم وبإبداعاتهم وحياتهم.
كما أنه في هذا الديوان يتعرّض للتجارب السياسية التي اجتازتها بلاده ،بل إنه يتعرّض كذلك للطبيعة والمظالم التي حاقت بها في بلاده، وفي بلاد الله الواسعة، ويخصّص حيّزا هامّا في هذا الديوان لمدينته العملاقة مكسيكو التي يقول عنها باشيكو: ‘إنها مدينة تبرّئ وتسامح الغراب، وتغيظ وتغضب الحمامة.’
وفي كتابه ‘مدينة الذاكرة’ ينأى باشيكو عن صيغة التبليغ التي تميّز بها شعره، وبالأخصّ كتابه السابق، ويكسب صوته الشعري مغزى أكثر مرارة، ومضضا، وموضوعية، حيث ستصبح الميزة الأساسية في شعره ولن يحيدعنها بعد ذلك :
أطفالنا لم يعد يهمّهم
الاستماع والاستمتاع بقصص السّحرة والجدّات
من هول ما يحدث
أحلامنا فقط
لم يلحقها الذلّ والهوان
أجمل ما بقي في الإنسان
دموعه.
القارئ والقصيدة
ونختم هذه العجالة عن هذا الشاعر المكسيكي الكبير بقصيدته الرّائعة ‘القارئ والقصيدة’ التي سبق ‘القدس العربي’ أن نشرتها وهي من ترجمتي عن نصّها الأصلي في اللغة الإسبانية (أنظر ‘القدس العربي’ عدد 7205 الثلاثاء14 آب (أغسطس) 2012) جاء فيها:
ليس لديّ ما أضيفه إلى ما تحمله قصائدي
لا يهمّني التعليق عليها
إذا كان لي أحد، فمكاني في التاريخ
الآن، أو فيما بعد ينتظرنا جميعا الغرق
أكتب، وهذا كلّ شيء
أقدّم نصف القصيدة
القصيدة ليست علامات سوداء على صفحة بيضاء
هي عندي موضع اللقاء
مع التجربة الغريبة
القارئ، القارئة
هما صاحبا القصيدة التي أرسم
نحن لا نقرأ للآخرين،
بل نقرأ أنفسنا فيهم
الأمر يبدو شبيها بالمستحيل
أحد لا أعرفه
يمكن أن يرى نفسه في مرآتي
وإن كان هناك فضل في ذلك،
قال ‘بيسّووّا’ *
فهو للأبيات لا لناظمها
وإن كان، بالصدفة، شاعرا عظيما
فسوف يخلّف لنا أربعة أو خمسة أبيات جديدة
محاطة بالمسودات،
وآراؤه الشخصيّة،
في الواقع، عديمة الجدوى
عالمنا غريب
في كل يوم يهتمّ الناس بالشعراء أكثر،
وبالشّعر أقلّ
لم يعد الشاعر صوت قبيلته،
ذاك الذي يقول ما لا يقوله الآخرون
ما زلت أعتقد،
أنّ الشعر شيء آخر،
هو نوع من الحبّ،
لا يوجد سوى في الصّمت
عهد سرى بين مخلوقين
بين مجهولين غالبا
هل قرأت يوما أنّ ‘خوان رامون خيمينيث’ **
فكّر منذ نصف قرن في إنشاء
مجلة كان سيطلق عليها ‘المجهول’
كانت ستنشر نصوصا بدون توقيع،
وتتألف من قصائد، وليس من شعراء
إنّني، مثل المعلّم الإسباني هذا، أتمنّى
أن يكون الشّعر مجهولا
ما دام جماعيّا
إلى ذلك تتوق قصائدي ورواياتي
قد تقول: الحقّ معك
أنت الذي قرأت لي ولا تعرفني
قد لا نلتقي أبدا ولكنّنا أصدقاء
إذا راقتك أبياتي
ماذا يهمّ، أن تكون لي
أو لغيري
أو ليست لأحد
القصيدة التي أنت بصدد قراءتها
هي قصيدتك
تكتبها عند قراءتك لها.
*شاعر برتغالي (1888-1935)
**شاعر إسباني نوبل في الآداب1956،(1881-1958)..

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شريف الموسى:

    وداع جميل بلغة سلسة ومفهومة يدعمها ويعمقها مقتطفات الشاعر الراحل. أرجو ان يحتذي به نقاد “القدس العربي”حتى يشجعواالاهتمام بالشعر وليس بالشاعر.
    ملاحظة بسيطة: اذا لم تخني الذاكرة فان قصيدة “أيتاكا” تبدو مشابهة تماماً لقصيدة “كفافي” بنفس العنوان.
    وشكرا.

إشترك في قائمتنا البريدية