لعلها المرة الأولى التي يتداعى فيها عدد من التونسيين، من شرائح ومواقع متعددة، إلى بلورة موقف واضح من الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها هذا العام.
رغم أن هذا الموعد الانتخابي الهام لمستقبل تونس كلها لم يحدد تاريخه بعد، ولا أحد يدري ما إن كان هناك أي تنقيح لشروط الترشح، وما إذا كان الرئيس الحالي سيترشح أم لا، وإن كان سيقبل بمنافسين له، فإن ذلك لم يمنع البعض من إعلان ترشحه، الجاد أو الفلكلوري، لكن لا أحد خاض بشكل واضح في ما يتم تداوله من تكهنات وشكوك حول هذا الموعد.
تحت عنوان «لا وصاية على الشعب ولا لمصادرة حق الشعب في التعبير الحر عن إرادته» جاءت هذه العريضة، وأبرز ما فها تحذير الموقّعين، وهم غير معنيين بخوض غمار الرئاسيات، من أن «المساس بالقانون الانتخابي ومن نزاهة الانتخابات الرئاسية المقبلة وشفافيتها سوف يمس من شرعية ومشروعية آخر مؤسسة تحظى باعتراف جل التونسيات والتونسيين بقطع النظر عن مساندتهم من عدمها لرئيس الجمهورية الحالي، ما من شأنه أن يمثل إنهاء للعقد الاجتماعي التونسي ما بعد الثورة والدفع بالبلاد نحو المجهول».
هنا مربط الفرس، فمع أن الرئيس قيس سعيّد ومنذ استفراده الكامل بالسلطات في يوليو/ تموز 2021 قد غيّر منفردا كامل النظام السياسي في البلاد ولم يعر وزنا للمشاركة الهزيلة في كل الانتخابات التي دعا إليها، إلا أن ذلك لم يؤد إلى جدل حاد بخصوص هل نقاطع الرئاسيات أم لا، لأن هذا الموعد هو آخر ورقة تبقّت من وضع دستوري بعثر الرئيس بقية أوراقه الأخرى في الهواء.
في البداية سعت العريضة التي وقّع عليها «النشطاء في المجتمع المدني والسياسي والشخصيات العامة» كما عرّفوا أنفسهم، إلى استعراض العديد مما قاله الرئيس سعيّد ويبعث فعلا على القلق من أن منافسيه في الانتخابات الرئاسية المقبلة «يريدون تدمير الدولة من الداخل والعودة بنا إلى الوراء» وأن تونس «تعيش حرب وجود، حرب بقاء أو فناء» ، واستهجانه اهتمام عديد الأطراف السياسية بالانتخابات الرئاسية ومقاطعتهم في المقابل للمحطات الانتخابية الأخرى التي عاشتها البلاد منذ 2021، ووصفه المقيمين خارج تراب الوطن والذين لهم نية الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة «بالمرتمين في أحضان الخارج».
الرئيس قيس سعيّد ومنذ استفراده الكامل بالسلطات في يوليو/ تموز 2021 قد غيّر منفردا كامل النظام السياسي في البلاد ولم يعر وزنا للمشاركة الهزيلة في كل الانتخابات التي دعا إليها
ومن هناك مضت العريضة إلى الإعراب عن مخاوفها مما يقع ترويجه عن تعديل لشروط الترشح كأن لا يكون المرشح محل ملاحقة قضائية (كثير منهم هكذا) أوأن يكون مقيما في تونس (بعضهم في الخارج لسبب أو لآخر) مع جمع عشرة آلاف توقيع لتزكية ترشحه. وبناء عليه طالبت بـ«عدم المساس من المسار الانتخابي بإضافة معايير جديدة تغيّر شروط الترشح وعدم التضييق على نشاط المترشحين، وعدم استغلال مقدرات الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر للدعاية الانتخابية، وعدم حرمان أي مترشح لم يصدر في شأنه حكم بات مرفوقا بحكم تكميلي يحرمه من حقوقه المدنية من الترشح للانتخابات الرئاسية بأي شكل من الأشكال، وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، المترشحين للانتخابات الرئاسية القادمة بالخصوص، ومحاكمتهم في حالة سراح».
لا يعرف كيف سيتفاعل رئيس الدولة مع مطالب كهذه وهو الذي عرف عنه أنه لا يستمع لأحد، حتى ولو كانوا من أنصاره، خاصة وأن لأصحاب العريضة مطالب أخرى من قبيل «تركيز المحكمة الدستورية ومجالس القضاء العدلي والإداري والمالي ورفع يد السلطة التنفيذية على السلطة القضائية(..) وإلغاء المرسوم 54 الخاص بالجرائم الإلكترونية (..) ورفع اليد على الإذاعة الوطنية والتلفزة الوطنية، وفتح منابرهما لمساندي مساره ومعارضيه على حد السواء، لاسيما المترشحين للانتخابات الرئاسية».
ومع التقدم في العريضة تزداد المطالب قوة حيث أكدت أن «الشعب التونسي هو صاحب السيادة الأصلي وهو يفوّض من يراه صالحا لحكم البلاد عن طريق صندوق الاقتراع وأن لا وصاية على الشعب ولا لمصادرة حقه في التعبير الحر عن إرادته، فمن حق كل مترشح للانتخابات الرئاسية تقديم تصوره وبرنامجه ولكن لا أحد له الحق في الدفع لتحويل تصوراته وقراءاته ورغباته إلى أوامر وقوانين تمنع منافسيه من الترشح وتعطيه أسبقية غير مشروعة في السباق الانتخابي». ودعا الموقعون الهيئة العليا المستقلة للانتخابات «لعدم الرضوخ لضغط السلطة التنفيذية وعدم المساس من شروط الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة باستثناء شرطي السن والجنسية».
ومضت العريضة إلى تحويل ما يعتبر حقا عيبا رهيبا وجسيما في النظام السياسي الذي بناه قيس سعيّد، وهو «الصلاحيات الفرعونية» التي يتمتع بها، إلى منعرج تاريخي يطوي الصفحة الحالية وذلك حين أكدت «أن الصلاحيات التي أسندت لرئيس الجمهورية في دستور 2022 تمنح الرئيس الذي سوف تفرزه الانتخابات الرئاسية القادمة إمكانية إطلاق الإصلاحات الضرورية لإلغاء منظومة البناء القاعدي وتركيز منظومة سياسية ديمقراطية وناجزة بالإضافة لعملية إنقاذ اقتصادي تخرج البلاد من الأزمة عبر الوسائل الديمقراطية وفي إطار احترام الدستور والقانون».
عريضة متميّزة ولكن هل سيستجيب سعيّد لسطر واحد فيها!!؟
كاتب وإعلامي تونسي