لا تقدم الأفلام السينمائية تاريخا، بل دراما تاريخية. وهناك فرق هائل بين الاثنين، فقد يعرف المشاهد معنى كلمة «تاريخ» لكن الدراما التاريخية تعني دمج الخيال بالتاريخ لجعل الفيلم أكثر إثارة أو لتغيير اتجاه الأحداث لأسباب شتى، فهناك الأسباب السياسية والدينية والمالية وغيرها. وهذا ما كان يصبو إليه فيلم «قتلة زهر القمر» Killers of the Flower Moon للمخرج الشهير مارتن سكورسيزي، الذي نال تغطية إعلامية غير مسبوقة وتناول دراما تاريخية مأخوذة من قصة تاريخية مرعبة، ما أثار عاصفة في الإعلام الغربي وحملة إعلامية غير مسبوقة. واستعان المخرج باسمين طالما كانا ضمانا لنجاح أفلامه، وهما روبرت دي نيرو وليونارد دي كابريو. لكن هل نجح المخرج في إخراج فيلم يعطي صورة صادقة عن المأساة بمختلف مستوياتها وبشكل مثير بالنسبة للمشاهدين؟
أحداث الفيلم
تدور أحداث الفيلم في منطقة جرداء من ولاية أوكلاهوما الأمريكية يسكنها أفراد قبيلة «أوسَيج» الهندية الحمراء، أي قبيلة من سكان أمريكا الشمالية الأصليين. ويتغير كل شيء عندما يكتشف أن تلك المنطقة الجرداء تخفي أحد أكبر الاحتياطات النفطية في الولايات المتحدة الأمريكية وتبدأ الأموال بالتدفق، لكن الهنود الحمر سرعان ما يكتشفون أن حياتهم تتغير نحو الأسوا.
تبدأ أحداث الفيلم عام 1919 حيث يصل المنطقة أرنست بركهارت ليجد الهنود الحمر يعيشون حياة ميسورة نسبيا، فحسب القانون الذي قررته السلطات الأمريكية يتقاسم أفراد القبيلة أرباح مبيعات النفط من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية فإن ما يتقاضاه الهنود يحدده «أوصياء» وهم رجال أعمال بيض ، أي من أصول أوروبية، معينين من قبل المحاكم الأمريكية. ولهؤلاء الأوصياء سلطة كاملة تقريبا على الشؤون القانونية والمالية للهنود الحمر. ولا يستطيع أي فرد من القبيلة بيع حصته، ولذلك فإن حق الحصول على أموال النفط تأتي بالوراثة فقط. وكانت البلدة تعاني كذلك من ظاهرة غريبة، ألا وهي مقتل العديد من الهنود الحمر بطرق غامضة لا تثير اهتمام الشرطة ووفاة آخرين بأمراض غريبة، مما كان يثير رعب السكان الهنود. ويلجأ أرنست بركهارت إلى أحد اقاربه، وليم هَيل (روبرت دي نيرو) وهو رجل أعمال ثري في المنطقة، وكان ماسونيا وشرطيا فخريا. ويعمل الشاب أرنست سائقا لسيارة أجرة ويتعرف على «مولي» (ليلي غلادستَون) الهندية المنتمية إلى عائلة ميسورة. ويشجعه قريبه هَيل على التودد إليها كي يتزوجها ويرثها لاسيما أنها مصابة بمرض السكري، ما يعني أنها ستموت مبكرا، مما يتيح لأرنست فرصة وراثتها، «هَيل» في الحقيقة رئيس عصابة لنهب وقتل الهنود الحمر، وأصبح قريبه الشاب أرنست من افرادها. ينجح أرنست في كسب عواطفها حتى أنها تتحرش به وتتزوجه. وتستمر عمليات قتل الهنود الحمر دون أي تدخل من الحكومة المحلية، ما يجعل الهنود يطلبون من أحد رجال الأعمال البيض الوديين الذهاب إلى العاصمة واشنطن للشكوى لدى السلطات، إلا انه يتعرض للقتل في الشارع. وعندما تكلف زوجة أرنست محققا خاصا للتحقيق يتعرض بدوره إلى القتل من قبل أرنست وآخر في غرفة الفندق. وتقوم عصابة هَيل بقتل شقيقة «مولي» ومما يزيد من بشاعة الأمر قيام الأطباء بتشريح جثتها، ثم يقوم أرنست بتفجير منزل شقيقتها الأخرى، كما أن والدتها توفيت بمرض غريب. كل هذا كي تـرث «مولي» حقوق النفط من الضحايا. ويقوم الهنود بالذهاب إلى العاصمة الأمريكية لمقابلة رئيس الجمهورية. ونتيجة لذلك ترسل الحكومة محققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي مما يثير خوف هَيل فيقوم بتدبير قتل بعض أفراد العصابة، إلا أن المحققين يلقون القبض عليه وعلى أرنست وآخرين ويكتشفون أن أرنست كان يحقن زوجته بمادة سامة مدعيا أنها الانسولين كي تموت سريعا. ويُحكَم على هَيل وأرنست بالسجن المؤبد، إلا انهما يخرجان مبكرا من السجن بقرار خاص من السلطات. وينتهي الفيلم.
صاحبت الفيلم حملة إعلامية غير مسبوقة، كون الفيلم مؤيدا لحقوق الهنود الحمر، لكن هل كان الفيلم منصفا حقا؟ لقد غطت الحملة الإعلامية الهائلة وقضية حقوق الهنود الحمر على بعض الجوانب المهمة السلبية في الفيلم. ومن أهم مشاكل الفيلم طوله الذي بلغ ثلاث ساعات وستا وعشرين دقيقة.
تحليل الفيلم
صاحبت الفيلم حملة إعلامية غير مسبوقة، كون الفيلم مؤيدا لحقوق الهنود الحمر، لكن هل كان الفيلم منصفا حقا؟ لقد غطت الحملة الإعلامية الهائلة وقضية حقوق الهنود الحمر على بعض الجوانب المهمة السلبية في الفيلم. ومن أهم مشاكل الفيلم طوله الذي بلغ ثلاث ساعات وستا وعشرين دقيقة. (وعندما عرض الفيلم أثناء مهرجان كان في فرنسا نام بعض المشاهدين). أما في دور العرض الأوروبية، فقد قرر بعضها استراحة في منتصف الفيلم، مما أثار غضب الشركة المنتجة لأسباب غير واضحة. وسبب طول الفيلم تقليل عروضه اليومية في دار العرض الواحدة. وقد يكون السبب أنه ربما كان في الحقيقة للعرض عن طريق الإنترنت، اي streaming، حيث يستطيع المشاركون في هذه الخدمة مشاهدة الفيلم في منازلهم والاستمتاع بأمسية كاملة حيث يستطيعون إيقاف الفيلم والعودة إليه متى يشاؤون، بل إن ممول الفيلم الحقيقي كان شركة «أبل» Apple، التي تُعَدُّ أحد أكبر مقدمي خدمة عرض الأفلام عن طريق الإنترنت. أما سبب عرضه في دور العرض السينمائي، فهو لترشيحه لجوائز الأوسكار التي تشترط عرض الفيلم في دور العرض، مما سيشكل دعاية ضخمة للفيلم لاسيما بالنسبة للمخرج مارتن سكورسيزي والممثلين ليوناردودي كابريو وروبرت دي نيرو وليلي غلادستَون.
هل كانت الجهة التي اختارت الممثلين على صواب في خيارها؟ كان روبرت دي نيرو في التاسعة والسبعين من عمره عندما مثل في الفيلم، بينما كانت الشخصية التي مثلها في الثامنة والأربعين. وأما ليوناردودي كابريو، فقد كان في الثامنة والأربعين من عمره بينما كان يمثل دور شاب في التاسعة عشرة من عمره. وأما بالنسبة لليلي غلادستَون التي مثلت دور الزوجة الهندية الحمراء، كفان اداؤها باردا كما لم تبدُ هندية حمراء على الرغم من تكرار معلومة كون أصولها هندية حمراء من قبل الإعلام ودعاية الفيلم. وسبب اختلاف شكلها كونها من أصول أوروبية كذلك. وكانت هذه المشكلة الواضحة لجميع الممثلين الهنود الحمر الذين ظهروا في الفيلم، فمقارنة بسيطة بين أشكالهم في الفيلم وصور سكان تلك المدينة من الهنود الحمر في تلك الفترة فتوضح ذلك. وكان من الأفضل كذلك اختيار ممثل أفضل لدور رئيس فريق مكتب التحقيقات الفيدرالي، حيث ظهر الممثل جسي بليمنز خجولا ورقيقا بشكل مبالغ فيه. والغريب في الأمر أن الدور الذي اختير لليونارد دي كابريو في البداية فكان رئيس فريق التحقيق الذي كان مناسبا له ثم تغير اختيار الدور.
يكشف هذا نمط عمل المخرج مارتن سكورسيزي، فإذا قمنا بمقارنة سريعة بفيلمه السابق «الأيرلندي» The Irishman لوجدنا الصفات نفسها، لأنه طويل جدا (ساعتان وتسع وعشرون دقيقة) واعتمد على اثنين من أشهر ممثلي السينما الأمريكية روبرت دي نيرو وآل باتشينو، الذين كانوا أكبر سنا بكثير من الشخصيات التي مثلوها، ولم ينفع جعل وجهي الممثلين الكبار أصغر سنا، لأن الكومبيوتر لم يستطع إخفاء حركة الممثلين كبار السن. واعتمد الفيلم كذلك على قصة شهيرة مثيرة للجدل.
تم إنفاق خمسة عشر مليون دولار على بناء منازل ومحطة قطار شملت مد سكة حديد وقطار بخاري في طريق ترابي بشكل مشابه لمركز المدينة في تلك الفترة. أما بالنسبة للأحياء السكنية، فقد اكتشف المخرج أن المنازل ما تزال كما هي باستثناء لونها الأبيض حاليا. ولذلك قام طاقم الفيلم بصبغ هذه المنازل بألوانها السابقة. وبعد انتهاء عرض الفيلم رغبت عائلة واحدة فقط إعادة صبغ منزلها باللون الأبيض. واكتشف المخرج كذلك أن المحفل الماسوني الذي صور فيه مشهد معاقبة هَيل لبركهارت ما يزال كما هو بالضبط بجدرانه السوداء. ويدعي اختصاصيو التصوير السينمائي أن الممثلين يدون أفضل عندما يكون الحائط خلفهم غامق اللون. والغريب في الأمر اكتشاف المخرج أن جميع منازل الهنود الحمر آنذاك كانت بمستوى منازل الطبقة المتوسطة كحد أقصى، فلا قصور ولا مظاهر الثراء كانت موجودة، على الرغم من أنهم كانوا يعيشون عمليا على بحيرة من النفط.
الخلفية التاريخية
اقتبست قصة الفيلم من كتاب تاريخي بالاسم نفسه نشر عام 2017 وركز على تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي الشهير حول هذه الجرائم، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن اسم هذه المكتب كان مختلفا قليلا آنذاك. لكن المخرج مارتن سكورسيزي قام بعدة تغييرات كي يركز على معاناة الهنود الحمر وليس انتصارات أجهزة الأمن الامريكية كي لا يجعل الفيلم عن «الرجل الأبيض». ونجح المخرج في عرض مدى خضوع الهنود الحمر للرجل الأبيض في جميع جوانب الحياة، فهم يطيعون القوانين التي وضعها البيض ويستعينون بالأطباء البيض. لكن الفيلم فشل من ناحية عرض التاريخ، إذ صور أن جميع حوادث الاغتيال كانت من تخطيط وليم هَيل وتنفيذ عصابته الصغيرة التي ضمت أرنست بركهارت. ولم يستطع المخرج تبرير عدم تدخل الأجهزة الأمنية منذ البداية، وسبب عدم معاقبة الشرطة والأطباء الذين كانوا مشتركين في الأعمال الإجرامية، وفي تعليل سبب إطلاق سراح رئيس العصابة من السجن على الرغم من الحكم عليه بالسجن المؤبد. ولم يقدم أي تفسير حول سيطرة بضعة «أوصياء» بيض على أموال الهنود الحمر وجميع شؤونهم المالية. وكل هذا يجعل من الضروري للمشاهد قراءة تاريخ الفترة، كي يفهم ما يحدث تماما.
يوضح المؤرخون أن الحقيقة التاريخية أكثر فظاعة مما عرض في الفيلم، بكثير وذات أبعاد أوسع جدا، فلم يكن عدد القتلى من الهنود الحمر قليلا، على الرغم من كون مقتل شخص واحد فقط مأساويا بما فيه الكفاية، بل بضع مئات. وكان أغلبهم عديمي العلاقة برئيس تلك العصابة. ويدل هذا على أن الأمر برمته أضخم بكثير مما عرضه الفيلم، فقد كان كل ما يحيط بالهنود الحمر ضدهم، ليس فقط للاستيلاء على أموالهم، بل كذلك لتغيير عاداتهم الدينية والثقافية والاجتماعية والإضرار بصحتهم.
بدأت الحكاية في سبعينيات القرن التاسع عشر عندما أجبرت قبيلة أوسَيج الهندية الحمراء في ولاية كنساس على النزوح من مناطقها والانتقال إلى مناطق في ولاية أوكلاهوما لأن المزارعين البيض أرادوا استغلال أراضيهم. لكن السلطات الأمريكية أعطت الهنود الحمر حق بيع أراضيهم، وهذا ما قاموا به. وعندما انتقل أفراد القبيلة إلى الأراضي الجديدة التي خصصت لهم اكتشفوا أنها لا تصلح للزراعة، لكن النفط ظهر في تلك المنطقة في بداية القرن العشرين. وكان هذه بداية لمأساة جديدة حيث أجبروا على عدم استغلال أغلب الثروة النفطية، بل إعطاء حقوق الاستغلال لشركات أمريكية أعطتهم مبالغ سنوية حسب تقديرها. ويتهم بعض المؤرخين الشركات بأخذ كميات من النفط أكبر من الكميات التي أبلغوا الهنود الحمر بها وبتسميم الموارد المائية في المنطقة. وفرضت عليهم السلطات الأمريكية «أوصياء» لأنهم، أي الهنود الحمر، «غير مؤهلين» لإدارة شؤونهم. وهؤلاء «الأوصياء» في الحقيقة رجال أعمال ومحامين بيض محليين مُنِحوا سلطة كاملة على شؤون الهنود الحمر المالية والقانونية. واستغل هؤلاء «الأوصياء» سلطاتهم المطلقة بالاحتيال على الهنود الحمر بشكل فاضح عن طريق السرقة من عوائدهم المالية وتزوير وصياتهم وبوليصات التأمين على الحياة، كما أنهم كانوا يمتنعون عن إعطاء الهنود الحمر ما يحق لهم. ويعد المؤرخون هؤلاء «الاوصياء» من المسؤولين الرئيسيين عن حوادث القتل الغامضة التي تعرض لها الهنود الحمر.
حُكِمَ على «هَيل» عام 1926 بالحكم المؤبد بتهمة القتل، لكنه لم يمكث في السجن طويلا حيث أفرج عنه عام 1947 لسبب ما، دون أن يعترف بأي شيء وكان يلوم قريبه الشاب أرنست، إذ قال لولا شهادته لكانوا أغنياء. أما أرنست، فقد حكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة القتل عام 1926، لكنه خرج من السجن عام 1937. وبعد ثلاث سنوات قام بالسطو مع امرأة على منزل شقيقة زوجته السابقة (طلقته زوجته عندما ألقي القبض عليه) وسرقة سبعة آلاف دولار، فحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات وإعادة حكم السجن المؤبد السابق. ومع ذلك خرج من السجن مرة أخرى عام 1959 وحصل على عفو لدوره في عمليات القتل!
نجاح الفيلم؟
عندما شاهد كاتب هذه السطور الفيلم بعد ثلاثة ايام من أول عرض له، لم يكن في دار العرض أكثر حوالي خمسة عشر متفرجا. ويشك الكثير من النقاد في قدرة الفيلم على تحقيق أرباح حقيقية، على الرغم من الدعاية الهائلة التي سبقت عرضه، وما تزال في أشد مراحلها. وقد تقاضت شركة «بارامونت» أجورها مقابل صناعة وتوزيع الفيلم، وتبقى الشركة الممولة «ابل» في انتظار عرضه من خلالها على الإنترنت، لعل حظه في النجاح أفضل. لكن حظ الفيلم لنيل جوائز الاوسكار كبير جدا.
مؤرخ وباحث من العراق