«20 ألف نوع من النحل»: رحلة صبية متحولة لفهم الذات

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

برلين ـ «القدس العربي»: في فيلم «20 ألف نوع من النحل» المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي في دورته الثالثة والسبعين (16 إلى 26 فبراير/شباط الجاري) تقدم المخرجة وكاتبة السيناريو الإسبانية إستيباليز أورسولا سولاغورين فيلما مرهفا رقيقا وجريئا في طرحه في آن واحد. تطرح المخرجة في فيلمها محاولة طفل في الثامنة لفهم ذاته وهويته، فقد ولد في جسد صبي، لكنه يشعر في أعماقه بأنه لا ينتمي لعالم الصبية.
على مدى صيف إسباني حار في إقليم الباسك يسعى الصبي أياتور ذو الثمانية أعوام، الذي لا يحب اسمه، الذي ينتمي لعالم الرجال، ولا يشعر بأن تركيب جسده كجسم صبي يتماهى مع روحه وشخصيته، لفهم ذاته ووجوده ويسعى لمعرفة جنسه، هو لا يشعر بأنه صبي ولا يحب ألعاب الصبية، ويشعر بأنه أقرب إلى الفتيات. يحاول الصبي أن يجد لنفسه مكانا يرضيه في هذا العالم الواسع، الذي يضيق بمن مثله ممن خلقوا في جسد لا يشعرون بالانتماء إليه.
تقدم سولاغورين فيلما ثاقبا في رقة وعذوبة، فيلما يسبر أغوار وعي طفل في بدايات تكوينه، لكن يختلف عن أقرانه. إنه فيلم يذكرنا بفيلم «فتاة» للوكاس دونت أو بفيلم «توم بوي» لسيلين سياما. الفيلم عن أسرة إسبانية تسافر في عطلة إلى بلدة ذويها في ريف إقليم الباسك ومزارعه ومناحله، التي تمنح الفيلم اسمه. ولا نظن من الوهلة الأولى أن عدم رضا أياتور عن اسمه، الذي لا نفهمه في بادئ الأمر، سيكون هو المنفذ الذي سيناقش الفيلم من خلاله قضيته الرئيسية. يذهب أياتور مع خالة والدته، لوريديس، إلى حقل تنتشر فيه خلايا النحل وينتج فيه العسل. تشرح له قريبته الطيبة أن النحل أنواع، وأن لكل منها دور ووظيفة في الخلية، ما يزيد حيرة الصبي، فهو يود أن يفهم نوعه هو ووظيفته ودوره. ذات نوبة غضب يسأل الصبي أمه «كيف تعرفين من أنت ولا أعرف من أنا». تحاول الأم المتفهمة المدركة لاختلاف ابنها أن تجيب، لكن الإجابة ليست بهذه السهولة. تحاول الأم أن تدلل الصبي باسم «كوكو» بدلا من اسمه، لكن هذا الاسم المخفف، الذي لا هوية جنسية له، لم يعد يرضي أياتور أيضا. في نزهة مع الجدة يجد العديد من أهل القرية يدللونه قائلين «يا لكِ من فتاة جميلة» فهو بشعره الطويل المنسدل وملامحه الرقيقة يشبه الفتيات الصغيرات. هو يتوق لأن يكون فتاة صغيرة، لكنه ولد في جسد يحول دون ذلك.

يدور جزء من عالم الفيلم في عالم الفن التشكيلي والنحت، فالأم نحاتة وصانعة تماثيل واعدة، وكان والدها أيضا مثالا ونحاتا. تصحب الأم أياتور في جولة في ورشتها للنحت، فينبهر الصبي بهذه القدرة على التشكيل وإنتاج عمل فني جميل من العدم، ويتساءل لماذا لم يولد هو كاملا رائعا يعرف هويته، فالتماثيل في الورشة إما لفتيات أو لرجال، لكن أين ما يمثله هو، فحتى عالم الفن والخيال لا يضم من يشبهه. تتفهم الأم معضلة ابنها وحيرته، وتحاول إقناعه بأنه لا يوجد اختلاف بين الفتيات والأولاد، وأن عليه أن يكون ذاته دون الاكتراث برأي الآخرين الذين قد يضايقونه أحيانا لرهافته الجسدية الظاهرة، أو لاختياره في الألوان والملابس، لكن كل ذلك التفتح والتفهم من قبل الأم لم يعد يرضي أياتور ولم يعد يجيب على أسئلته ولم يعد يتواءم مع فهمه المتنامي لذاته، ولأنه فتاة وليس صبيا.
يوضح الفيلم أن معضلة أياتور لفهم ذاته ليست المعضلة الوحيدة، والدته آن، في مفترق طريق في مسيرتها الفنية، ورحلتها إلى قريتها في إقليم الباسك هي رحلة أيضا لفهم ذاتها كامرأة وأم وفنانة مبدعة. وتتزامن أزمتها مع أزمة أياتور، الذي يقرر أن يكون فتاة تدعى لوثيا، كتلك القديسة التي تتبارك بها القرية، والتي وهبت نفسها لمساعدة من يحتاج العون. تجد لوثيا، التي أصبحت تعرف اسمها وذاتها بهذا الاسم ونبذت اسم أياتور، داعما وصديقا وملاذا في خالة والدتها لورديس، التي تتفهم حين يتكلم الصبي عن نفسه بضمير المؤنث، والتي تشجعه أن يرتدي من الثياب مع يتماشى مع تصوره لذاته وليس مع ما يرغب الآخرون.
تنجز سولاغورين فيلما مرهفا بليغا في تأثيره، ولعل أحد أهم العناصر التي مكنت المخرجة من تحقيق رؤيتها هي الصبية صوفيا أوتيرو، التي لعبت الدور الرئيسي في الفيلم، والتي كانت كل خلجة من خلجاتها تنطق بحيرة أياتور وغضبه وعزمه في نهاية المطاف على أن يختار لذاته أن يكون لوثيا. تكسب أوتيرو، ببراءتها وحيوتها وضجرها أحيانا وسعيها للفهم، تعاطفنا وحبنا. نرى عزمها ومشاعرها بالسعادة عن التعبير عن الذات حين ترتدي ثوب فتاة للمرة الأولى. لا افتعال أو تصنع في أداء أوتيرو، ولا افتعال أو تصنع في تناول سولاغرين للأحداث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية