الأردنية إيمان عبد الهادي: أنا شاعرة مغمورة والعصر الرقمي أحدث فوضى شعرية

الشاعرة والناقدة الأردنية إيمان عبد الهادي من الأصوات التي استطاعت لفت الانتباه إليها، وحفر اسمها على خريطة الشعر العربي. وهي إضافة إلى موهبتها الإبداعية، أكاديمية تحمل درجة الدكتوراه في النقد الأدبي، بأطروحة بعنوان «إشكاليّة النّصّ في نظريّاتِ القراءة والتأويل»، وقد التقتها «القدس العربي» في حوار حول تجربتها ورؤيتها النقدية والشعرية.

■ كيف تنظرين إلى علاقة الشعر بالشاعر؟
□ الحياةُ قصيدةٌ مستمرة، والشاعرُ كائنٌ فانٍ، أظنّ أنه يمد يدهُ القصيرة إلى قصيدة الحياة الطويلة وينجحُ أحيانا في القبض على بعض المقطوعات، ويفشلُ غالبا، ما يفسر طبيعة الشعر القاسية والجارفة، وعلاقة الاشتباك مع الشعر، تلك القائمة على المحاولات والتقصي والشغف والمغامرة والإخفاق.
■ ما علاقة النص الشعري بمرجعه الواقعي؟
□ الكلام العادي ينطوي على خطر هائل، مغامرةُ الشعر هي بالفكاكِ من المدوّنة. القيمة الواقعيّة مهمة، والقيمة التاريخية كذلك، لا يمكن أن يكونَ الأدب تخييلا محضا، سيتكئ – قسريا- على منظومات وأطر، ويتلون بها، وقد يستنسخها. الذّائقة المجتمعيّة هي التي ستتلقف الأدب، وهو قبل أن يصبح معطى، لابد أنه شُحن بالخبرةِ المعرفيّة المصطفاة من الأرض والإنسانِ والحوادِث، ومساراتِ الوجودِ المتشعبة.
■ ما هي طبيعة التصور الشعري في ديوانك الأول؟ ولماذا اخترتِ (فليكن) عنوانا له؟
□ من الصعب أن أتخيل تصميما للتجربة قبل خوضها، والآن بعد أن مرّ على نشره ثلاث سنوات تقريبا، لا يبدو الأمر أقل صعوبة. أحيانا ننساق إلى الكتابة بوصفها تفريغا ليس إلا، محاولة لقول الحياة بصورة أجمل أو أكثر أناقة، أو أسهل، رغم أن ذلك يتحقق لاحقا ببنية متراكبة معقدة. فالشعر يقول أشياء كثيرة، ولكن الذي لا يقوله الشعر هو الأهمّ في ظني. أما العنوان (فليكن)، فهو إحالةٌ على الكينونة، استباقية كانت أم على الاستقبال، الكينونة بما هي نظيرٌ للفناء، أنظر إلى مدلولاتها عبر الطريقة الأصولية لدى المفسرين في مقاربة المحكم والمتشابه، أرى الشهود متشابها، أما المحكم بالنسبة لي فهو الغيبي الذي وُعدت به، أو الميتافيزيقي، وفق التسمية الفلسفية، هذا هو ما جعل الكينونة بوجهيها تقيم معي حوارا لا يكلّ. أما الذات، ذات الشاعر أو الشاعرة، فهي تحضر حتى في نقيض الكينونة، الذات تحضر حتى في عدمها، والدليل هو وجودنا الآن، «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا»؟ بلى. إذن فالإنسان موجود في نية الخلق، قبل وجوده، والنص أيضا. أو كما يقول العبقري صاحب الإشارات الإلهية «فقدت قبل أن وجدت/ وغبت قبل أن شهدت».

يقوم الشعر على عدالة فطرية، في نفس صاحبه الشاعر، عدالة تقسّم التفاعيل بين الشطرين، والخيال بين عالمي الشهادة والغيب، والموسيقى بين السحري والمسموع، المقبوض عليه بالحاسة.

■ وهل من مشروع شعري متكامل في تجربتك؟
□ المشروعُ موجودٌ في رأسي، ولكنَّ الشّعرَ شيءٌ مُختلِفٌ عما هو في الدّماغ، تتحدثُ القراءات التي تناولت شعري، على اختلاف أهميتها، عن ثيماتٍ صوفيّة، وتبدو هذهِ الأخيرة، علامة حداثية على النّصّ، بشكلٍ راسخ في الدراسات النقدية الراهنة، أظنّ أن في نصّي روحا صوفية، وهذا كل شيء، لكنك لا تجد فيه أطروحة صوفية، أقف في شعري المتصوّف على بعض المقولات حسب، مقولات مبتسرة، وغير صبورة، ولا عنيدة ولا ممتدة، وهذا ما يقلقني.
■ وما هي قضيتك الرئيسية؟
ـ يقوم الشعر على عدالة فطرية، في نفس صاحبه الشاعر، عدالة تقسّم التفاعيل بين الشطرين، والخيال بين عالمي الشهادة والغيب، والموسيقى بين السحري والمسموع، المقبوض عليه بالحاسة. ربّما كان الشعر محاولة لخلق الافتتانِ بالعادي واليومي، تُقال أشياءُ كثيرة من هذا القبيل كل يوم في لقاءات وتحقيقات شعرية، لا أدري مجددا، ربما تكون إحدى مهمات الشعر إنجاز السعادة أو المرح، ولكنه مرح ذو أعماق كما يقول مصطفى ناصف في وصف المعري، أو فليكن مقاومة لهذا البلاستيك الذي يغلف أشواقنا، مهمة الشعر أن يجعل منا أبناء بررة لتلك اللغةِ الوفيرة، تلك اللغة التي يمكنُ أن يحيا بها الأميرُ وصانعُ الأحذيةِ على السوية نفسها، فهي قيمة حرة، وهذهِ هي قضيتي، وقد يجعلها ربي حقا.
■ كل النبوءات في قصائدك الأخيرة، لا تستشرف مستقبلا ناصعا، ألا تراهنين على الأجيال القادمة؟
□ أبدا. تلكَ القوة في قبضةِ الشّعر هي في هزِّ جذعِ النّخلة، استشرافا للمخاضِ الكبير، لست مُحبطة، ولديّ ما أراهنُ عليه بيقين، اليائسون لا يصنعونَ نصّا، النص تجاوز للذات، لديّ وطنٌ تاريخيّ، وإن كان الشّعر قد نشأ في حاضنةٍ رعوية، حيث التأمل ومخاضات الخيال، فإن البيئة الراعية له الآن لناحية الانتشار في السوشيال ميديا، وإقامة المهرجانات، وطباعة المجاميع والدواوين، هي بيئةٌ مدنية، ولكن المجددين يرون أن النصوص المتمدنة ما زالت تُكتبُ بقلم المقلّد والمستخذي، فهي ليست حقيقية، إذ لا يمكن اشتقاق مجتمع مدني من مجتمع للعبيد. أتذكر هنا رامبو وقد انتقل من الشعر إلى تجارة الرقيق! هذا التناقض في هوية الشعر، بوسعه إحداث صدمة، أما الأجيال الجديدة فهي جيدة في قراءة المفارقات واستنفاد التجارب. وإزاء كل ذلك الذي أجده في الشعر وفي الحياة، ومن واجبي الاعتراف به، فأنا آملة، ولا أدري من أين يأتي الأمل، لكنه خيرٌ وأبقى.
■ كيف ترين علاقة المرأة بالأدب؟ وهل توافقين على تعبير الأدب النسوي والأدب الذكوري؟
□ تضخمت الجدليّةُ الآنفة، وتكدّست الآراءُ فيها أكثرَ ممّا يجب، دعني أختصرُ الأمرَ بالقول إن الكتابة هي فعلُ كمال، فبما هي تطهيريّة، تأخذ شكل ترقٍّ في المدارج، ومن هنا تتحقق صفةُ كمالِها، كما أنظرُ إلى علاقةٍ تكماليّة مع الرجل، لذلكَ فأنا لن أقف عند الفوارق التي تجعلنا في فسطاطين، لست (فيمنست) على أيّ حال، وما ينبغي لي، وأحاول التجديف بعيدا عن عقد الجندر.
■ وما رأيك في المشهد الثقافي العربي؟
□ ما زال الشعرُ حلية برانية يُتقنّع بها على سبيل الجمال، أما الاغتذاءُ بها فلم يعد مهمّة القارئ المنصرف إلى نظريّة الزّينة وحسب. وخِلافا لما يشيعُ في حالة لعنِ الظّلام، إزاء الواجب الأخلاقي بإيقاد شمعة، سأسمح لنفسي أن أتحدث قليلا عن الأمل، فإن كان المشهدُ غثّا ألا تظن أن ذلك يفسح فرصة لاختبار النص، أعني تكوين خبرةٍ نقدية، وإمكانٍ معرفي لكل من يقرأ، بوسعي أن أتطير من كل ما هو حولي لأبدو مثالية ومُلهمة، لكنني أذهب حقا بقدميّ إلى القراءةِ من القاع، وهو أهم ما يحفزني ويشوشني ويرتكسُ بي في الآن عينه، وردةُ فعلي لن تكون الصراخ أو اللطم، أظننا نمر بحالة سيولةٍ في الأشياء، والمزاج الحاد إزاء ما يُكتب لن يُضيف قلقا إلى الحالة، فقد وصلنا حدّها الأقصى، ونبدو وكأنّنا نقف على الحافة.
■ هل من معوقات لانتشار صوت المبدع بين أبناء العروبة في أقطارهم، وما هي أسباب ذلك؟
□ أنا شاعرةٌ مغمورة لعدّة أسباب، أبدأ بالذّاتيّ منها، فلديّ موهبة اسمها الكسل، لا أعني على مستوى الكتابة، بل على العكس، أعاني فرطُ نشاط، لكنّي كسولةٌ في التّسويق لها، في نشرها، ودعوة المتلقين للتناول. أيضا برانيا، دعني أتحدث عن الباعث الأمبريقي: الكتابة ليست هوسا، الإبداع ليس هاجسا، العالم العربي منقسمٌ بين سوق نخاسة لتصدير الماركات المسجلة وعمليات التجميل، وبين بلدان غارقة في الأمية والحرب والجوع وانتهاك حقوق الإنسان والمعتقلين الذين تُجهل مصائرهم، وكلاهما: في حالة الترف والإبادة الجماعية، كلاهما لا ينقسمُ إزاء خوفه من السلطة. لسنا أحرارا.
■ ما الذي قدّمه الأردن في رأيك لحركة الشعر الحديث؟
□ في الحقيقة ليسَ الكثير أبدا. الأردن بلدٌ صغيرٌ، إمكانياته متواضعة، ومنذ وُلدت فيه، ونشأت على حبه، تراءى لي الشعرُ فيه ترفا، نحن لا نملك دار أوبرا، ماذا بشأن الغاليريات والمتاحف، لا يمكن الحديث عن حركة مسرحية استطاعت تصدير نفسها عربيا، فضلا عن أن تحضر عالميا، هناك طبعة أولى في بعض دور النشر من مجموعات شعرية صدرت في التسعينيات. أظن أن هناك تقصير، أو بالحريّ غياب للهيئات الثقافية، وما تقوم بهِ لن يكون اعتذارا عن تخلي الدعم الرسمي، وصدقني كل ما أقولهُ الآن ليسَ مهمّا لرجل الشارع، بل هو هراء. لأن هذا النشمي المعروق الوجه، المحني الظهر، المثقل في حقيقته الإنسانية بغياب الهوية الوطنية، هذا الإنسان الأردني وفي ظلّ رفع الضرائب ومطاردة رغيفه اليومي، ليس معنيا بمكابداتي إزاء الأدب، أو كما كتبتُ مرّة على حائطي: «تموتُ من المشي، والجواهرُ تطفحُ من حذاءِ الأميرة»!
■ هل تدفعك مواقع التواصل الاجتماعي للتفاعل، ولإصدار أعمالٍ جديدة؟
□ في الستينيات طرح غالي شكري مأساةَ اختفاء المبدعين، أما الآن، في هذا العصر الرقمي فدعني أسجل مأساة تكريس من ليس لهم علاقةٌ بالشعر لأنفسهم شعراء راسخين، وإلحاحهم على اللقب، والتماهي العنيد في الحالة الشعرية، وتسويقهم لأنفسهم بصورةٍ، دعني أقل (رثائيّة)! ولا يجدي معها الكلام! ما يجعل إصراري على النشر، أو حتى قدرتي عليه، مسألة تحتاج دفعا نفسيا كبيرا، فلم أعد شغوفة بإيجاد موطئ قدمٍ لي، على أرض مكدسة بالأحذية ورائحةِ الجوارب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية