هوى تشرين

حجم الخط
0

حلّ الفراغ في أحشائه فجأة فيما كان يتأمّل الحفرة التي هيّأها منذ أسبوع. لا يدري أيندبُ حظه العاثر أم يسخر من حياة تَطرُقُ بابه بقبضة من موت؛ فيجري الأمان في بيته كالنهر ويغمر المرق خبز مائدته من جديد. ولِمَ يشعر بالذنب؟ أهو من يُعطي الحياة أو يأخذها؟ فما هو إلاّ حفّار قبور، يشقّ بفأسه بعض الأمتار وينضّد على مقام الميت الأحجار! ثم إنه اليوم لا يخجل من سُؤْلِ قلبه؛ أيجفُّ ثدي زوجته وفي حضنها رضيع؟ كلا! سيستمطر سماء تشرين حبة حنطة تسكن قلب الحُفرة الشاغرة، فيربو الدّقيق وتعلو وجوه أهل بيته حُمرة بعد شحوب ووجوم رهيب.
«حبة واحدة يا رب تُفرج كُربتي!» أخرجها من أعماقه حارّة إلى فضاء المقبرة البارد. لا يدري أَدَمِعَتْ عيناه من حزن أم فقط من هواء تشرين الذي اخترق منخريه. تتعطّل حواسّه في مثل هذه المواقف، ويُصاب بشلل في التفكير؛ حتى ليخيّل له أنه صار كواحد ممن أنزلهم ذات يوم برفق إلى باطن الحفرة، وواراهم الثرى في جوّ مهيب. وحتى لا تملك عليه الفكرة كيانَه، قرّر تجاهل الحفرة والتحرّر من إسار المقبرة الصّمّاء؛ فلربما تعنّ له فرصة خارج أسوارها وتكون سبب خلاصه من هذه الضّيقة. على الفور تحرّك جهة اليسار حيث تُرك منفذ إبّان عملية التسوير، يُتيح إمكانية دخول وخروج الزّوّار من ناحية أخرى، بدل البوابة العريضة التي تُمهّد أمامك طريقا يتيمة تُفضي في النهاية إلى منازل البلدة الإسمنتية ودروبها الضّيّقة. أمّا المنفذ الجانبي، فيضعك مباشرة على حافة جُرفٍ صخريّ صَلْدٍ طويل، يُشرف على وادٍ عريض، وحقول وغابات الصفصاف، ودور طينية صغيرة متفرّقة، تهجع عند قدم جبل تحسبه على بُعد ذراع منك، وأنت تتأمّل المنظر من أعلى الجرف… على حافته يقف زوّار المقبرة لبعض الوقت وأحيانا يجلسون ساعات في صمت بليغ… وكأن الوادي مطرح أحزانهم وحامل زفراتهم ومستودع أسرارهم الأمين.
توسّد راحة يديه، ثم أطلق جسده على مساحة ملساء عريضة أشبه بمنصّة، وراح يتأمل سماء تشرين… كان اللّيل قد بدأ يرخي سدوله فأحسّها تُمعن في الابتعاد وبالكاد تُمَيّز من بين شقوق غيوم حمراء كثيفة. استطالت يده القصيرة في غفلة من وعيه وطفقت تبحث بين الصّدوع عن قطعة حظ منسيّة، لكن سرعان ما ارتدّت يده إلى طبيعتها واثقة هذه المرّة أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. تساءل: لِمَ لا أجرّب مهنة أخرى؟ أجاب: وهل وجدتُ في البلدة المنحوسة فرصة؟ قَرْقَرَ بطنه فاعتدل في جلسته والغمّ يعتصر قلبه. همّ واقفا واستعدّ للانصراف لولا أن استوقفته أضواء سيارة كانت تتجه ببطء ناحيته… على مرمى سهم توقّفت، فُتِح بابها وأُغلِق بلطف. لم يستغرب هذه الزيارة ــ ففي مثل هذا الوقت تحجّ إلى أسفل الجرف وكهوفه الدافئة كائنات ليلية تطلبُ الهدوء أو التسلية أو اللّذة ـــ بقدر استغرابه ظل الشبح ومشيته التي يشوبها بعض الغنج.« أيكون هو؟ المخنث الذي انتشرت أخباره في كل أرجاء البلدة؟» تساءل فيما كان الشبح يتقدّم صوبه. « لعلّه هو؛ المثلي الثري الذي يشتت ماله مقابل..!» أضاف والحيرة تملأ رأسه، أخيرا أدركه الشبح، حيّاهُ في أدب وسألَهُ شُعْلَة… دسّ حفّار القبور يَدَهُ الخشنة المعروقة في جيب بنطاله، أخرج ولاّعة وبحركة من إبهامه أدار الزّناد. من قامته الفارعة دنا الشبح أكثر، وحتى لا يبتلع هواء تشرين الشّعلة، ضمّ الشبح يَدَيْ الحفّار بلطف وقرّبها من سيجاره ثم أخذ يجذب باشتهاء نفسا بعد نفس ويُرسل نظرات تُخالطها دعوة صريحة للــ……!!!
من الجوع والدّهشة ترنّح حفّار القبور… فكّر أن يُلقي بالشبح من أعلى الجرف ويودِعَهُ حُفرتَه المنتظِرة، بيد أن ظلّ زوجته والرضيع انتصب أمامه في استجداء وأنين، واستمرّ في زحفه وتمدّده حتى عمِيت بصيرته واستحال عُصافة تذروها رياح تشرين.
كم تدفع؟
العمر كلّه حبيبي! رافقني إلى مملكتي واطلب ما شئت…
مضى الحفّار في إثر الشبح حتى إذا بلغ السيارة اندسّ فيها كمن يستعجل موته، مُلقيا جسده على الكرسي في إرخاء سَافِر بينما الشبح يتحسّس مَضَاءَ الفأس ويُهيّء حفرته القاتمة لتخنق بدم بارد زرع رجل آخر جائع!

٭ قاص مغربي

هوى تشرين

حسن شوتام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية