كِتْبِيَّة

حجم الخط
0

في مقتبل عهدها بالشباب دفع بها أهلها إلى سائق سيارة أجرة يعشق الخمرة بجنون، رجل يناديه الناس باسم أحمد زبل بدون أن يسألوا من أين جاءه هذا اللقب.. عاشت معه حياة مبهمة خاطفة لم يستطيعا خلالها أن ينجحا في إنجاب طفل فتبنيا طفلاً غريباً رعته كتبية وأحبته بشغف.. وانشغلت به عن حزنها بالرحيل المبكر لزوجها، الذي مات بالصمت ذاته الذي كان يتأبطه كل صباح وهو خارج إلى العمل.
ظلت كتبية في بيتها الصغير في أعالي محلة عبدوخوب.. ترعى متبناها الذي أسمته عثمان.. ترعاه وتذوي بمرارة صامتة حتى صار رجلاً تطوع في الجيش وذهب إلى أول حرب صادفته في طريقها الوعر.. حرب غريبة صدمته بعربتها المتهورة.. ملأت جسمه بالشظايا وسلبته من كتبية الضامرة الحائرة هناك في واحدة من أقدم المناطق التراثية في الموصل.. غير بعيد عن البيت الذي ولد فيه الملا عثمان الموصلي.. أحياناً كانت تصيخ السمع لغناء بعيد مبهم ينبثق من قلب الصمت الذي يملأ دارها.. غناء يعوم في تنويعات الموشحات، أو التنزيلات التي لا تفقهها، لكنها تنفض رأسها فينام الصوت في حضن الفراغ الصامت المحيط بها… تنتبه وتصيح: عثمان يا عثمان.. ثم تلتم على وحدتها وتغفو.
ركضت عقود من عمر كتبية.. بدون أن يتغير شيء.. تلبسها نحول جعلها تبدو وهي تمشي كأنها طفلة تفر من قصاص.. تنقر على هذا الباب أو ذاك بحثاً عن نار موقدة تتدفأ بها، أو لقمة تأكلها أو أحدا تتحدث إليه… بينما الأطفال يفرون من أمامها في طريق عبورها المحير .. يخافون ويلوذون بأهاليهم ويغمضون عيونهم.. لكنها تعبت من الصمت الطويل الذي ظل يرن في أذنيها عقوداً.. فقد عاشت وحيدة كما لو أنها لم تختلط بأحد من قبل.. وحيدة ونافرة.. تذوي وتنكمش في عزلة تدور بها وتأخذها إلى لبّها المظلم.. بدون أن تنتبه أو تأبه لما يصيب المدينة .. فهي هناك عالقة بين اليقين وعدمه، بينما المدينة تضيق في قبضة الاحتلال والإرهاب. نظرت كتبية إلى حركة الناس ولم تفهم.. رأتهم يتجنبون اصحاب ذلك الزي الغريب الوافد، ويهربون من الشوارع والأزقة، رأتهم يفضلون البيوت كما لو أنهم يجوعون إلى محبتها.. مرت من أمام بيوت، أرعبتها أصوات العويل الصادرة منها.. وسمعت الناس يتحدثون عن كثرة الموتى وضيق المقابر.. كان الموت يسير قريباً منها، وبين لحظة وأخرى يمد يده ويخطف أحدا، لكنها لاهية عنه مشغولة بجمرة الحاجة المتوهجة في أعماقها.. مذهولة من الأبواب التي أصبح انغلاقها يطول.. وكأن البيوت فارغة بينما جوعها يتعاظم.. فلم تعد تحصل على الطعام الذي أمسى غالياً جدا ونادراً.. لم يعد أحد يناديها أو يستقبلها او يرسل إليها شيئا. انشغل كل شخص قريب منها بالبلوى التي أصابته، فلم يعد في وسعه أن يفطن إليها.. ولم يعد هناك أطفال في الأزقة يرونها أو يرتعبون منها… لذلك قررت أن تلزم بيتها الصغير المتهالك.. دخلت البيت في آخر خطوة من مرات تجوالها اللامجدي.. وكأنها كانت تسير نحو هدف وأدركته.. دخلت وأغلقت الباب وراءها وحجبت العالم عنها.
ذات لحظة من لحظات انزواء العوائل في الأماكن المحصنة من بيوتهم تساءلت طفلة خائفة.. أين كتبية؟
فانتبهت المحلة إلى غيابها.. وأرسلت شبابا يتفقدونها فوجدوها هناك في غرفتها المتداعية الضيقة ملمومة على نفسها.. متيبسة من موت أدركها قبل أيام.. لا تفوح من جسدها الهزيل الضامر رائحة كريهة.. بينما يدها ممدودة إلى امام كأنها تهز مهداً لم يكن موجوداً هناك على الإطلاق.

٭ قاص من العراق

كِتْبِيَّة

ثامر معيوف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية