قصص عن مراكش

حجم الخط
0

لا يتحول محمود الريماوي في مجموعته الأخيرة «عما تبحث في مراكش» إلى كاتب في أدب الرحلات. إنه هنا ليس جوّاب آفاق، ولا يتوقف عند علامات مميزة يهتم بها السائح، كما هو حال «خرائط منتصف الليل» لعلي بدر أو من «إرتيريا إلى إستانبول» لخليل النعيمي. ولكنه يتابع مع أسلوبه السابق الذي تجده في «عودة عرار – قصص عمان».
فهو يهتم بالطبائع والشخصيات وبالتداخل بين الحياة والواقع النفسي، إنه يبدو مستقرا في مراكش منتميا لها مثل استقراره في عمان وكأنه في بيته. ويمكن أن نفهم ذلك في ضوء الترادف والمشابهة الذي حول المتابعة إلى نوع من الإسقاط والترميز، ألا ينتمي محمود الريماوي نفسه لأول موجة نازحين في تاريخنا الحديث بعد النكبة، وهو موضوعه في روايته المهمة «من يؤنس السيدة»، ثم أليست مدينة مراكش على خط الحدود والمواجهة مع ماضينا الغابر في الأندلس.
تتألف هذه المجموعة من قصص متفاوتة، بمعنى أنها ليست بالأهمية نفسها.. بعضها يتحدى سقف القصة العربية وبعضها الآخر يدخل في عداد اللوحات والخواطر، ولكن القاص لا يضع في اعتباره النوع والأسلوب، بل يقسمها بالاعتماد على المكان، أو مسرح الأحداث.
٧ قصص تدخل تحت عنوان «قصص مراكش» و٧ تدخل تحت عنوان «قصص أخرى».
ولكن في الواقع لا أستطيع أن أشاهد البتون أو خطوط العزل، وإنما اللوحات تبدو متناظرة، ولا تهتم بما يسميه الناقد حمزة عليوي دالة القطيعة مع المكان الأليف وثقافة البيت.
فالريماوي لم يطور دلالة الافتقاد للأمكنة التي مر بها إلى دلالة الخراب، كما هو شأن البكاء على الأطلال في الشعر الجاهلي (وهذه الملاحظة أيضا لحمزة عليوي)، واكتفى بالوقوف عند التأثير النفسي لغياب موطن الذكريات العزيزة، ولذلك كانت كل شخصياته تعاني من مشكلة في الانتماء.. إنها تندرج تحت النموذج نفسه، وكأن الحالة النفسية هي الأداة التي تربط وتقطع.. وبسبب هذا الاضطراب تبدو ضمن الجماعة ولكن خارج السرب.
وكما ورد في آخر قصص المجموعة: «إنه ينتابهم شعور ممثلٍ يكتشف بعد فوات الأوان أنه قد خرج بعيداً جداً عن النص».
إن شخصيات الريماوي لا تستطيع أن تندمج وتعيش الحالة الوجودية التي تضع الإنسان خارج ذاته.. وراء «الحاجز الزجاجي» الشفاف الذي يلغي التفاهم ولكن لا يلغي الوجود ولا الآخرين، وإن موضوع الفضاء والحيز هو الإطار الأساسي لعدد من هذه القصص، منها «تلك الحافلة» التي يقودها سائق تستطيع أن تراه ولكنه يختبئ وراء (حاجز زجاجي صفيق). ومنها أيضا قصة «نصف دقيقة» وهي عن رجل في المقهى لا يعزله عن المشاة غير الرصيف.
ناهيك عن قصص لا تجد في أحداثها فرقا يذكر بين الوهم والواقع، أو الحقيقة والخيال مثل قصة «ما فعله السيد خورخي» أو «ظهور واختفاء سي محمد». في هذا المضمار يرسم الريماوي صورة لعالم مسحور لا تستطيع أن تفسره بالمنطق،
فالشخصيات تنتقل بين الحياة والعالم الآخر بالبساطة نفسها التي تمخر بها الحافلة الطريق بين باريس وأغادير. وإن سياسة التصعيد والتأزيم بسبب الفجوة والقفز من فوق جدار الزمن أسلوب لا تخلو منه مجموعة للريماوي. فقد استخدم هذه الحيلة الفنية أيضا في قصته «عودة عرار» فقط ليساعدنا على رؤية ما تعمى عنه عيوننا من فساد وخراب، وذلك بالطريقة الذكية نفسها التي قدم لنا بها زكريا تامر مجموعة من أجمل وأعذب قصص الحداثة. وإن هذه الشخصيات لا تقف عاجزة أمام ظروف الحياة المرفوضة، ولكن تبذل ما بوسعها للهرب ثم الظهور، أو بلغة أخرى لإنجاز مشروع الإلغاء والتجسيد، إنها كما يقول جون ماكوري: «تكتشف ذلك النوع من الوجود الذي يكون عادة شيئا ديناميا في أذهاننا، وبه نتجاوز الحالة التي نحن عليها». وهو ما أسميه بالمنطقة الرمادية التي يتشكل فيها الوعي ولكن لا ينتهي.. إما بسبب الانتماء العاطفي لمكان والحياة في غيره، أو بسبب الحياة الذهنية في مرحلة والارتباط المادي بغيرها، وهذا هو واقع الحال في قصص مجموعته السابقة «فرق التوقيت». عموما انصب اهتمام الريماوي على أبطال المكان وليس المكان بحد ذاته، غير بورخيس ومحمد شكري رسم الريماوي بورتريهات شديدة التشابه لشخصيات متكررة تغلب عليها الكهولة والانفصال والذوبان في ما نسميه نوائب الدهر ومصاعب الحياة، إنها شخصيات غامضة بالكاد يمكن أن تتعرف على نفسها، وتبدو وكأنها على خلاف دائم مع الطبائع العامة للذات، فهي لا تستطيع أن تقبل الظرف الذي تمر به وفي الوقت نفسه يجب أن تهادن. ولا يدل ذلك على قلة في الحساسية أو ضعف بالملاحظة، بالعكس إنه يشير لأزمته الوجودية التي يمكن أن نسميها «بالاقتباس من سارتر» ما بعد- بعد البلوغ، أو فترة النضوج واستنتاج الحكمة.
في هذه المرحلة يقترب الذهن من التفسير النفسي للصور ولمخزوننا من المعلومات والمعارف، ويتحول من الاستلهام إلى مجرد تكوين انطباعات شخصية وعامة، ولذلك كان يغلب عليها العبث والنفعية.
وفي هذه الحالة من الضياع والتشرذم والخروج النفسي تساوت المراحل والعصور وتشابهت الأمكنة والوجوه، وتحول النشاط الفردي إلى مساهمة في عصاب الجماعة.
وبعبارة أخرى في هذا الجو أصبحت شخصيات القصص رهينة لمخيلتها، فهي معقدة وغامضة وتحتاج لتفسير (لو أنها من النخبة أو من الرحالة) وبسيطة وواضحة وتمر بمرحلة تشيؤ (لو أنها من عامة الناس ورواد المقاهي)، لذلك اهتمت القصص بكينونة الإنسان المجرد بالطريقة نفسها التي تحدثت بها عن أوهام البشرية، ولذلك أيضا تحكمت بالإنسان أمنياته مع تخيلاته وما نجم عنها من أشباح وأحلام وخيالات وصور لا يمكن أن تتحقق من جدواها أو صحتها. ولقد سبق الريماوي بهذا الأسلوب المرحوم العجيلي، مؤسس القصة الفنية في سوريا.
وإذا كان هناك خلاف بين الاثنين فهو يتركز في المرجعية وليس الأسلوب ولا التحليل.
فالعجيلي يفسر الحقائق العلمية بالخرافات والسحر والشعوذة (كما هو حاله في أولى مجموعاته «بنت الساحرة»).
أما الريماوي فإنه يفسر الحكمة التي نتوصل إليها عن طريق التجربة والتقدم بالعمر بواسطة نشاط اللاشعور والأحلام، وبالضبط في اللحظة التي تضعف فيها سلطة العقل، حيث أنه من الممكن لصورة طير حباري أن تخرج من بين صفحات الكتاب وتراها حقيقة عيانية أمامك (انظر قصة «صمت الحباري»).
لقد أضاف الريماوي في هذه القصص نوعا من التفسير الميتافيزيائي للأحداث البسيطة والعادية التي نمر بها يوميا، بحيث أن اللعب والتحايل عما نسميه جدلية وخصوصية الحقبة قد تحول لجدلية فرويدية تربط كل النشاطات والظواهر بأصل الوعي، أو بدوافع اللاوعي في تشكيل الظواهر والمرئيات.
وهو ما تعبر عنه باربارا شابيرو خير تعبير في حديثها عن قصص لورنس بقولها: «إنه يرسم لنا الواقع والحقيقة ولكن فقط ليعيد إنتاج فانتازيا وأوهام عالمه الداخلي».

كاتب سوري

صالح الرزوق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية