فنانون يعزفون بألوانهم سيمفونية الحياة

حجم الخط
0

بغداد – «القدس العربي»: بألواننا نعزف سيمفونية الحياة لنقتل نشاز ضجيج الإرهاب بألواننا نصنع الجمال لنتحدى به قبح الإرهاب… من أجل أن يبقى العراق ملوناً بالألوان نتحدى الإرهاب
بهذه الكلمات افتتح عدد من الفنانين التشكيليين معرضهم المشترك على قاعة «أكد» وسط مدينة بغداد بعنوان (العراق أولاً) وتحت شعار «تشكيليون عراقيون.. من أجل أن يبقى العراق ملوناً.. بالألوان نتحدى الإرهاب» شارك في هذا المعرض ثلاثون فناناً بواقع لوحة لكل فنان، فضلاً عن ستة نحاتين، وحاول هؤلاء الفنانون أن يقدموا أعمالهم لزرع الحياة في المدينة أولاً، وليقولوا أن العراقيين ما زالوا يحبون الألوان بدل انتشار اللون الأسود الذي تريد بعض الجماعات الإرهابية نشره في المدن العراقية، كما حدث في الموصل وتكريت وديالى وغيرها.
بدأت الفكرة، بعد أن توقف أغلب الفنانين عن تقديم أعمالهم على خلفية الظروف التي يمر بها العراق، ما أدى إلى عدم إقامة معارض فنية في بغداد، فضلاً عن المحافظات الساخنة، وحتى المدن الآمنة في الوسط والجنوب، بسبب الرعب الذي يعيش فيه المواطن العراقي عموماً، والفنان على وجه الخصوص. هذه الفكرة التي كانت في طفولتها حلماً بأن يتم اختيار أعمال تشكيلية مهمة، بعد أن يتم تشكيل لجنة لاختيار هذه الأعمال، وطبعها على لوحات كبيرة و»فلكس» إعلانات وزرعها في شوارع وتقاطعات بغداد، حسب ما صرح بذلك الفنان حيدر هاشم، مدير قاعة أكد، الذي قال إن القاعة تضم عدداً من الفنانين يلتقون بشكل أسبوعي لمناقشة الشؤون الفنية وكيفية تفعيل الحياة في بغداد، وبعد ما حدث مؤخراً، «حاولنا أن نقدم شيئاً يواكب الحدث ونقيم فعالية من مستوى. في بداية الأمر أجرينا دراسة، كانت من فكرة الفنان محمد مسير، وكنا ننوي عمل سمبوزيوم في شارع أبو نواس ومن ثمَّ نقوم بطباعة أعمال منتخبة ونوزعها كلوحات في شوارع وتقاطعات بغداد، بعد أن يتم تشكيل لجنة لاختيار الأعمال، في محاولة منّا للخروج بالفن للشارع وللمتلقين جميعاً، للابتعاد عن عرض أعمالنا داخل قاعات مغلقة وللنخبة الثقافية فقط. إلا أننا فوجئنا، بعد أن قدمنا دراسة جدوى للمشروع، برفض مجلس الوزراء لهذه الفكرة من دون أن يقدم أسباباً لهذا الرفض. لهذا قررنا أن نقيم هذا المعرض بدعم شخصي من الفنانين، فأنا شخصياً مهدت الأرضية المناسبة للعرض في قاعة أكد، وأحد الأصدقاء «جميل صاحب محل الباخرة» الذي تبرّع بعمل إطارات الأعمال المشاركة، ومن ثمَّ قمنا؛ أنا ومحمد مسير بالإتصال بالفنانين لتقديم أعمالهم وإختيار الأفضل منها لعرضها في هذا المعرض».
كانت الفكرة الرئيسية للمعرض هي نشر الجمال والألوان، لكن الفنانين حاولوا أن يقولوا كلمتهم في الوضع الراهن، فقدموا أعمالاً؛ في أغلبها، تقف مع الجيش والحرب على الإرهاب ومحبة الحياة والطفولة. وكانت الأعمال متباينة في تقنياتها وأساليبها، فبعضها كانت بارعة وذات تقنيات عالية في خطوطها وألوانها والمواد المستخدمة فيها، وفي الوقت نفسه كانت هناك أعمال لا ترقى لمستوى الاشتراك في هذا المعرض. يتحدث حيدر هاشم عن المعايير التي اختيرت من خلالها لوحات ومنحوتات المعرض، فيقول إن الشرط الأول كان أكاديمية الفنان وموضوعاته التي يطرحها «إلا أننا فيما بعد ارتأينا أن نجعل المعرض مفتوحاً لجميع الفنانين ومن ثم يتم اختيار الأفضل منها للعرض». وعن تباين مستويات الأعمال، يشير إلى أنه «عندما يقدم الفنان تجربته الخاصة، تكون لوحته منضبطة وخطوطه واضحة ولوحته مستقرة كعمل فني، ولكن لو تحدثنا عن بعض اللوحات التي رأينا انها ليست ذات قيمة فنية عالية، ربما لا يقدم الفنان حينما يرسم عملاً مكلفاً به قيمة فنية عالية، ربما يخطئ في الموضوع المراد، وهذا يختلف عن عمل الفنان الذي يريده هو وليس ما يريده الظرف الحالي». أما التباين الموجود، فهذه مستويات مختلفة وأجيال متنوعة «لكننا أردنا أن نقدم معرضاً يوازي الحدث الضخم الذي هزنا كبشر وككيان عراقي متماسك بدأ يتفكك ويتناثر مثلما لم يحدث سابقاً على الرغم من الحروب التي مررنا بها وهشمت من نفسيتنا وأوضاعنا الاجتماعية، هذا الحدث هو الذي جعل هذا التباين واضحاً، وهو عائد لنفسية الفنانين. أردنا السرعة في العمل كرد فعل حقيقي لما حدث ويحدث، وهذا ربما ما أثر على بعض الفنانين وأعمالهم».
وعلى الرغم من دعوة الفنانين لتقديم أعمال جديدة تتناسب مع المرحلة الحالية، إلا أن هناك أعمالاً موقعة بتاريخ قديم، وهو ما أثار استغرابنا، لكن هاشم برر ذلك بأن بعض الفنانين يمر بظرف صحي طارئ أو التقدم في السن الذي لا يسمح لهم بإشتغال أعمال جديدة وفي وقت ضيق «لهذا قدموا بعض الأعمال القديمة، لكن تلك الأعمال كانت متوافقة مع هدف المعرض الرئيسي، ولديهم موقف وطني لم يشاؤوا أن يضيعوا هذه الفرصة في قول كلمتهم».
من جانبه أشار الفنان محمد مسير، أحد المؤسسين للمعرض والمشاركين فيه، أن المعرض جاء بعد سبات طويل في الساحة التشكيلية، فكان له طعمه وشكله الخاص، لأنه كان تحت شعارات وطنية اخترناها لتتواكب مع ما يمر به البلد من أزمات كبيرة.
ويضيف مسير وهو يتحدث خاص لـ «القدس العربي» أن الأفكار في بدايتها عادة ما تبدأ صغيرة، ومن ثم تتطور وتتسع حتى تصبح مشروعاً كبيراً… و»هو ما كان في خاطري حين فكرت في أن أعرض على أصدقائي التشكيليين فكرة أن نتظاهر في شارع أبو نؤاس أو تحت نصب الحرية ونقيم ورشة عمل وندلي بتصريحاتنا أمام الفضائيات ووسائل الإعلام عن موقفنا من الإرهاب ونرفع شعارنا (وحدة العراق)… وحين طرحت فكرتي هذه استجاب لها الجميع واجتمعنا في قاعة أكد وناقشنا الموضوع فتطورت الفكرة لتشاركنا في تظاهرتنا هذه الفرقة السيمفونية العراقية، تعزف في الهواء الطلق ونحن نرسم، ومن ثم تجمع الأعمال ويقام بها معرض، لتأتي المرحلة الثانية، وهي تصوير الأعمال المشاركة وطبعها وتوزيعها في ساحات بغداد وشوارعها».
ويأسف مسير على تلك الفكرة التي وئدت في مهدها بسبب رفض مجلس الوزراء تبنيها، موضحاً أنهم توجهوا لأمانة مجلس الوزراء للابتعاد عن الأحزاب وأجنداتها التي قد تغير من خطاب الفنانين وتوجهاتهم «وكان المشروع وفق الميزانية التي كتبناها تكلف (15 مليون دينار عراقي/ بحدود 13 ألف دولار) وطبعاً هذا المبلغ زهيد بالنسبة لأمانة رئاسة الوزراء ولمشروع كبير كهذا.. إلا أننا تسلمنا الرد بعد أيام بأنهم غير قادرين على تحمل هذا المبلغ بسبب الضغط المالي الذي تمر به الأمانة».
قاعة أكد هي إحدى قاعات العرض الفنية التي تحاول الوقوف في وجه الظروف التي يمر بها البلد، فالكثير من القاعات أغلقت لعدة أسباب، منها ندرة المعارض الفنية وعزوف عدد كبير من الفنانين عن إقامة معارضهم داخل العراق، فالكثير منهم يقيمون معارض في الأردن أو لبنان أو دول الخليج التي بدأت تتبنى الأعمال العراقية وتقدمها بما يليق بها، والسبب الثاني إنغلاق العراق على نفسه وعدم دخول العرب والأجانب الذين كانوا يشترون تلك الأعمال، وهو ما دفع بعدد كبير من أصحاب قاعات العرض لإغلاقها والهروب من الخسائر التي يتكبدونها.
حيدر هاشم يتحدث عن المعاناة التي يقاسيها أصحاب القاعات الآن، قائلاً إنها كبيرة جداً «وصلنا إلى مرحلة لا نستطيع دفع إيجارات القاعة، مشكلة قاعة أكد الآن لا يوجد من يمد يد العون للاستمرار، لهذا أغلقت الكثير من تلك القاعات ولم تفتح بدائل عنها حتى الآن».
مضيفاً أن أهم نقطة في تمويل القاعة تأتي من خلال تسويق العمل الفني، وهو ما فقدناه في ظل الظروف الحالية. ويتحدث هاشم عن وضع القاعات السابق، مستذكراً تسعينيات القرن الماضي، على الرغم من الحصار الذي كان العراق يمر به، إلا أن هذا الحصار كان اقتصادياً فقط؛ على حدِّ قوله، «في الحقيقة كان حصاراً على المواد الغذائية فقط وليس على الحياة الفنية على وجه الخصوص والثقافية عموماً، العراق كان بلداً منفتحاً ومستقراً، كان السياح يأتون إليه من كل مكان، بلد يعج بالفنانين والمثقفين الذي يقتنون الأعمال، فضلاً عن الصحافة الأجنبية التي كانت تأتي لتغطية النشاطات الثقافية التي لم تنقطع أبداً».
وعن حياة الفنان العراقي في تلك الفترة، أشار إلى أن الفنان كان يعيش على بيع أعماله، ولم يكن يفكر في وظيفة يكسب منها قوت يومه، أو ينتظر زمناً طويلاً لبيع أعماله، بل كانت الحياة سهلة والأعمال تباع بأسعار ممتازة نسبة إلى السوق العالمية للوحات. «إلا أننا وصلنا إلى مرحلة لا حياة حقيقية فيها، فلا يوجد سائح يأتي لاقتناء عمل، ولا توجد وكالات أجنبية تبحث عن الفنون لتكتب عنها، حتى العوائل العراقية التي كانت تأتي لتشاهد عروضنا التشكيلية هربت من كل شيء». ويكشف هاشم أن الفنانين بشكل عام هاجروا ولم يعودوا لتقديم أعمالهم في العراق أولاً، والذي بقي فقد اقتنع بأن يتوظف في الدولة ويتسلم راتباً يستطيع أن يعيش به، أما الذي ما زال ينتظر أن يبيع عملاً فنياً ليعيش من خلاله فيمر بأزمة حقيقية ومعاناة كبيرة».
لكن لقاعة أكد خطط بديلة من أجل استمرارها في ظل غلق قاعات أخرى، فهاشم يمتلك رصيداً من اللوحات جمعها من المعارض السابقة التي أقيمت في القاعة على مدى السنوات الماضية، «ولدي اتفاق مع بعض الأصدقاء الذين يعيشون في الخليج أن أبيع من خلالهم الأعمال التي أحصل عليها من المعارض التي أقيمها في قاعة أكد».
إلا أن التساؤل المهم، هل يكفي هذا الرصيد لاستمرار القاعة ومحاولتها للبقاء؟ وما مدى الزمن الذي يمكن أن تقاوم به الظروف التي تمر به القاعات الفنية، والأوضاع السيئة التي يمر بها الفنانون العراقيون؟ فعلى الرغم من إقامة وزارة الثقافة أكثر من ثمانين معرضاً تشكيلياً ضمن فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية في العام الماضي، إلا أن هذه المعارض لم تغير من خريطة الفن العراقي، بل كانت في أغلبها غير ذات قيمة، تمت الموافقة عليها عن طريق علاقات تربط فنانين غير معروفين وليسوا من ذوي الوزن الفني بالمسؤولين في الوزارة، وهو ما دفع أغلب المتابعين الى عدم حضور تلك المعارض، في حين يرى النقاد أن المستوى المتدني الذي وصلت إليه معارض وزارة الثقافة يدل على عدم وجود أشخاص أكفاء لإختيار الأعمال المشاركة، وأمية البعض الآخر من المسؤولين.

صفاء ذياب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية