حنا مينه… زوربا الروائيين العرب

زينة شهلا
حجم الخط
1

دمشق ـ «القدس العربي» من: «لماذا لا يأتي الموت حين نناديه؟ عزرائيل لا يشتغل إلا على كيفه». جملة كتبها الروائي السوري حنا مينه في روايته «الياطر» قبل حوالي عشرين عاماً، ليأتيه الموت يوم أمس الأول في العاصمة السورية دمشق، بعد صراع طويل مع المرض، معلناً رحيل «شيخ الروائيين السوريين» عن عمر يناهز أربعة وتسعين عاماً.
مينه، وعند إتمامه عامه الخامس والثمانين أي منذ حوالي عشرة أعوام، نشر وصيته التي طلب فيها عدم إذاعة خبر موته في أي وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية، معللاً ذلك بأنه كان بسيطاً في حياته، ويرغب بأن يكون بسيطاً في مماته. ورغم ذلك، آثرت الوكالة السورية للأنباء «سانا» نشر خبر وفاة الكاتب السوري الذي يعتبر من أهم أعمدة الأدب في سوريا والعالم العربي؛ كما نعاه عدد كبير من الكتّاب والفنانين السوريين والعرب، معتبرين أن رحيله خسارة كبيرة لا تعوّض، وأن الحديث عن وفاته أمر لا بد منه.

من العمل للكتابة

ولد حنا مينه عام 1924 في مدينة اللاذقية على الساحل السوري، وعاش طفولته في كنف عائلة مكافحة انتقلت بين لواء الإسكندرون واللاذقية. نتيجة فقر الحال اضطر مينه لترك الدراسة بعد إنهائه المرحلة الابتدائية والعمل في عدة مهن لمساعدة والده. وبعد أن استقر بهم المقام في اللاذقية أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ الشاب بالعمل في المرفأ وبذلك دخل عالم البحر والبحارة الذي استهواه وتحوّل لملهم لكتاباته وبطل ـ مباشر أو غير مباشر- لمعظم رواياته.
في المرفأ، تعرّف مينه إلى معاناة البحارة ومآسيهم في ضياع حقوقهم، وعمل على تأسيس أولى النقابات المدافعة عنهم، كما بدأ من هناك النضال ضد الاحتلال الفرنسي، ولعلّ ذلك ما دفعه ليصف نفسه بعد سنوات طويلة بأنه «كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف بأنك تمنح نفسك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، بأن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يُضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً».
تدرّج في معترك الكتابة، حيث بدأ بصياغة الرسائل للجيران والعرائض للحكومة، ثم الأخبار والمقالات الصغيرة والكبيرة، وبعدها القصص القصيرة التي كان يرسلها للنشر في صحف سورية ولبنانية. وبعد استقلال سوريا عن فرنسا انتقل للحياة في دمشق وبدأ العمل في جريدة «الإنشاء» الدمشقية ثم أصبح رئيس تحريرها، واستمر في تأليف القصص القصيرة وأيضاً المسرحيات.
عام 1954 نشر أولى رواياته بعنوان «المصابيح الزرق»، لتكون فاتحة أعمال أدبية بلغ عددها أكثر من أربعين رواية، منها «بقايا صور» و«نهاية رجل شجاع» و«الثلج يأتي من النافذة» و«الشمس في يوم غائم» و«البحر والسفينة وهي»، التي تحوّل عدد منها لأعمال سينمائية وتلفزيونية، إضافة لذلك، حاز مينه على عدة جوائز وتكريمات منها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2002، وجائزة الكاتب العربي من اتحاد الكتاب المصريين، وجائزة المجلس الثقافي لجنوب إيطاليا.

طموحه الأكبر

لم يكتفِ الأديب السوري بذلك، فقد كان طموحه في التأثير الملموس في عالم الكتابة أكبر. ساهم في تأسيس «رابطة الكتّاب السوريين» عام 1951 وكان أيضاً من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب، الذي انطلقت أولى أعماله عام 1969. في أواخر الثمانينيات كان يحلم بمكانة غير مسبوقة للرواية العربية، حيث قال «ستكون الرواية العربية ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين». ومما لا شك فيه أن أعماله هي أحد أهم أركان تلك المكانة.
تميز أسلوب حنا مينه بأنه مشوق وواقعي للغاية، حيث اعتاد اختيار شخصيات رواياته وأعماله ممن كان يعرفهم وعاشرهم خلال سنوات حياته في اللاذقية، وكانوا يسكنون حاراتها وأزقتها. وصلت واقعيته حد الاحتفاظ بأسماء بعض تلك الشخصيات الحقيقية وعدم تغييرها، وكان يعمد إلى الدخول في بواطنها لتصوير ما تعيشه من علاقات مع محيطها، بكل ما لتلك العلاقات من أبعاد وصِفات قد تتسم بالحميمية تارة والعدائية تارة أخرى، مثبتاً في كل رواية قدرة كبيرة على إذهال القارئ الذي يعجز في لحظة من اللحظات على التمييز بين الواقعي وغير الحقيقي. ومما يجمع تلك الشخصيات في غالبها، المعاناة الإنسانية والاجتماعية، التي تتمثل بالتهميش والاستغلال والاضطهاد، وتستمد عناصرها من طفولة مينه، الذي عانى خلالها، بحسب وصفه، من البطالة والغربة والفقر والجوع.
ومن العناصر الحاضرة على الدوام في أعمال الكاتب، البحر الذي يمثل، بحسب ما جاء في تقديم إحدى الروايات، «ميدان كافة الصراعات». صراعات تجد مكاناً لها في المراكب والسفن، وضمن أخطار البحر اللامنتهية. وعن حضور البحر في رواياته قال حنا مينه: «البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب». ووصل هذا التعلق حد التمني بأن تنتقل دمشق إلى البحر أو ينتقل البحر إلى دمشق، واصفاً ذلك بالحلم الجميل، ومعقباً بأنه «مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى».
واليـــــوم، آثر حنا مينــه، وهو الذي أُطلقت عليه عشرات الألقاب مثل «بلزاك الرواية الســـورية» أو «زوربا الروائيين العرب»، أن يستريح بعد أداء رقصته الأخيرة، موقناً بأنه من الكتّاب القلائل الذين يصعب أن يكون لهم مثيل أو بديل.

عن رحيل حنا مينه… زوربا الروائيين العرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مسعودة عزارنية:

    حنا مينه الرجل العصيّ عن الكتابة، والقلم هو الذي أرخى ذراعه لحنا ليمتطيه سهلا مطواعا.

إشترك في قائمتنا البريدية