زمن الصداقة

بعد أن أسقطت طائرته الحربية قامت «داعش» بإعدام الطيار الحربي معاذ الكساسبة. وضعوه في قفص حديدي وأحرقوه حيا. وأرفقت «داعش» فعلتها بنشر فيديو يصور الحدث. الفيديو انتشر بسرعة النار التي أحرقت الكساسبة.
طبعا، تضامن مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي مع الكساسبة والأردن. التضامن مع الضحايا هو ما يلي الموت على نحو تلقائي. وشبكات التواصل الاجتماعي تفتح أبواب الصداقة على مصراعيها. صداقات مع الموتى. صداقات كأنها لم تبدأ ولا يتسنى لها أن تستمر أيضا.

الصداقة افتراضاَ

كيف يتعاطف المستخدمون مع معاذ الكساسبة؟ وكيف يسارعون لبناء علاقات مع الضحايا؟ كيف يتشاركون صورهم ويكتبون عنهم ويتشاطرون الحزن مع ذويهم ودولهم ويطالبون بمعاقبة القاتل؟ الكساسبة طيار حربي كان يقصف «داعش»، ولكن أمام مشهد القتل المروع هذا لا بد أن ينتصر المستخدمون للضحايا ويجعلوا من قضيتهم، قضية رأي عام. لا بد لهم وهم يتفاعلون على الشبكات أن يعبروا عن مدى تضامنهم في المساحة الإلكترونية. حبا بالأموات وانتحابا «نظريا» لموتهم وحدادا عليهم باحتفالية افتراضية عالية. هذا لأنه بالاحتفال وحده يبقى الحدث وموضوعاته في قمة التداول. ولكن، سرعان ما تصبح هذه الاحتفالية موضع قياس، تتنافس مع احتفاليات أخرى لها مواضيعها ورموزها وصداقاتها.
هذا الزمن إشكالي بدرجة تفوق قدرة المتضامن على التمكن من المحافظة على دلالاته والسياقات التي يتمدد فيها، لأن الشبكة تتيح لهذا الزمن أن يتمدد إلى المطلق، فيغدو من الصعب عندئذ الوقوف على راهنيته، فهو إما مبكر جدا أو متأخر جدا، على احتمال تلقفه لحظة تمثيل المعاني وقدرتها على الاستمرار. وإذا جمعنا الأحداث التي تصنع الزمن على الشبكة ونظرنا إلى تزاحمها على احتلال الراهن، في مدى مطلق، تنتفي عندها قدرة المستخدم المتظاهر والممثل على جمع فرادة هذه اللحظات المتنافسة. هذه الكثافة في الأحداث الواقعة في غير أوقات وأماكن هي أحداث تكتسب الصفة الكونية، لأنها تُنتج من جديد بعد حدوثها في زمن موحد متدفق من دون هوادة. وليتسنى للمستخدم المتظاهر وطالب الصداقة من غير ابتداء- كحالة أصدقاء الموتى – أن يستكمل شروط تلك الصداقة، عليه أن يمثل صداقته في كل لحظة من هذا الزمن. عليه أن ينغرس في الزمن المنهمر في كل أصقاع الشبكة ليجعل صداقته تدوم وتكمل مسارها إلى ما بعد الموت. عليه أن يحيا عبر هذه الأزمنة كالله فوق الوقت وخارج الزمن.

الصداقة التي لم تحدث

أهمية تكنولوجيا المعلومات تكمن في أنها تتيح إمكانيات هائلة لبرمجة المعلومات ومعالجتها والتحكم بعملية التذكر. بمعنى آخر تجمع وتولف بين عدة أزمنة في لحظة واحدة وهذا ما يجعلها تحيا في سياق مستقل عن الأحداث. وهي عمليا تخزن ذاكرة مجموع التداول، أي الأحداث وتفاصيلها. إنها أرشيف كوني، لها ما يشبه سلطان الآلهة وقدرتها على ملاحظة وتذكر الأحداث كافة، من دون الحاجة لمحفز أو دليل. بهذا يصبح الزمن الذي تصنعه متصلا من دون انقطاعات، ومن دون موت وفواصل. هذا لأن الذي لم يحصل بعد قد حصل في زمن آخر، ولكن قدرة المستخدم المحدودة جدا في مجاراة الأحداث ومواكبتها وتذكرها جعلته يحسب الحدث جديدا. هذه وظائف الآلهة، ففي نظرها، الكون فوري والوقت غير منبعث من الأشياء وحركتها. وقت عام سالف ومستقل عن الأحداث، إذ أن ما هو معروف سلفا لا يمكن أن يصير حدثا. فإذا أراد المستخدم أن يصادق من قضوا لن يتاح له إلا أن يخضع الراهن للمستقبل المعروف مسبقا، بحيث تبطل قدرة الراهن على فتح احتمال الممكن، أي أن الحب الذي سيأتي لاحقا عليه أن يكون قد حدث سابقا، أي قبل الموت. فلحظة الحاضر، أي ابتداء الصداقة مع الموتى، تغدو فاقدة لمعالمها ورجاحتها لأنها تعجز عن أن تتيح لفعل الحب أن يبدأ ويستقيم، وبالتالي تعجز أن تفرز الانقطاع بين ما كان وما سيصير، فيبدو الحب كأنه لم يحدث أو لن يحدث.

الصداقة زمن عام

تزاحم الأحداث في زمن كوني واحد يغطي مساحات التفاعل التي تتنافس على صفحتها حمى الاختيار. وعليه يصبح التفضيل و»الإعجاب» تنافسيان، ليس من ناحيه الحدث والممثل أو الموضوع، بل من ناحية الجمهور. هذا يشبه إلى حد بعيد كيف ملأ اللبنانيون الساحات بعد مقتل رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005 في بيروت. كان حدثا يشبه الزلزال، يثبت الزمن على وقت الفعل ويواكبه في انقطاعه عن زمن سبقه ويتمدد معه في المكان وإليه. ما تبقى من أشلاء الراحل التقطته الكاميرات المحلية والدولية التي راحت تبث تداعيات الحدث في شكل مكثف. المتظاهرون نزلوا إلى الساحات ليشاهدوا أنفسهم في نشرات الأخبار وبرامج التوك شو وفي أيديهم الهواتف المجهزة بالكاميرات من الجيل الثاني- لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد أماطت اللثام عن ثورتها حينها. كانت السيطرة الكبرى للتلفزيون وكاميراته ولميديا الأجهزة الخليوية، تصور وترسل رسائل نصية.
تلك اللحظة كانت زمنا عاما على نحو ما كتب يومها بلال خبيز ووليد صادق وفادي العبدالله في ملف «الزمن العام» ليصفوا كيف جعل اللبنانيون من تظاهرهم واحتفاليتهم موضوعا كونيا. كتب بلال ووليد وفادي صورا تحاول ألا تقيم في الزمن الذي يشاهد فيه العالم، بترف، اللبنانيين يبنون صداقة مع الموتى. النصوص تهرب من سلطة الموتى وصور اللبنانيين «العامة» إلى صناعة نوع من السرد الأنطولوجي لتلك اللحظة. تذكير الذات بالتذكر بديلا عن التمثيل أمام الكاميرات. الجمهور بدوره احتاج سلطة الميت، وقدرتها على أن تحشد وتشحن المتظاهرين في تظاهرهم أمام العالم. على الأرجح صور الجمهور هذه كانت صورا تطمح لأن تكون صور مستقبل اللبنانيين، متكئة بذلك على صداقة الموتى وحبهم، ولكنها فشلت لأنها صارت سريعا صور الماضي، أو بالأحرى، صورا لم تؤخذ.

صداقة خارج الشبكة

يعرض الفنان الفوتوغرافي هرير ساركيسيان صورا لساحات إعدام أخذها بكاميراته في دمشق وحلب واللاذقية في سوريا. للوهلة الأولى يتبادر إلى الأذهان صورة المشنقة والأجساد متدلية منها في جو قاتم ومهيب. لكن الصور تظهر ساحات مدنية، خالية من أي عنف يحمله مشهد الإعدام وجثث من أعدموا. ساركيسيان أراد أن يظهر ما لا تظهره الصور. العين تنظر إلى عمران مديني عادي، ساكن سكون ذلك الصباح الذي التقطت فيه الصور، والمخيلة تستجمع عناصر المشهد وقتامته وتصيغ مشهدية الموت ورعبه في زمن مختلف تماما.
النظام السوري كان يعدم المحكومين لجنايات ارتكبوها في هذه الأماكن العامة المصورة. هذه المعرفة تفتح مدى الافتراض وتتيح للمخيلة أن ترسم من خلاله مشهد الرعب بارتجال كامل. المعرفة التي تتيحها الصور فارغة من المعلومات والتوثيق. ولكنها تفتح زمنا مستقلا عن زمن العين والصور، تحول فيه المخيلة الصور «المجردة» إلى مساحات واسعة من التساؤل وتحريك المشهد وانبعاث الوقت ورسم السيناريوهات. يمكن للمخيلة أن تتجاسر على رتابة الأمكنة في الصور وغياب الجثث لتسأل عن حيوات من أُعدموا، من كانوا ولماذا حكموا وكيف كانت آخر لحظاتهم؟ هل لبى الجلاد طلباتهم الأخيرة أم أنهم سحبوا وعلقوا تحت جنح الظلام. حتما المخيلة لن تلقى جوابا لأن الصور لا تظهر الضحايا ولا تؤرخ لموتهم ولكنها باتت محفزة للمخيلة التي بدورها باتت تستطيع تركيب الوقائع.
صور هرير ساركيسيان فنية بامتياز. كفة التمثيل فيها تطرح تقنية عالية لتوليد المشهد من دون بث. تظهر العنف من دون أن تنزع الصفات الإنسانية عن الضحايا ومن دون أن تمتهن هوس التصوير براهنية عالية واحتفالية قربانية لتبيان فعلة الجاني وتشنيعه بجثث قتلاه على الملأ. وعلى حد سواء، الصور لا تغرق الناظر بآنيتها ووحشيتها لتبدد قدرته على أن يحيي الزمن الخاص بالصور وكل الاحتمالات التي قد تتولد من التفاعل معها. زمن الصور هو زمن ما بعد الحدث، يحركه الوعي والإدراك الذاتيين، زمن يشبه زمن الحداد والتذكر. إنها صور تقع في عالم المخيلة والرواية وليس في ومضات الواقع المبثوث بثا حيا مكثفا كمسلخ مزود بكاميرات تلتقط الوقائع وتبثها عبر شاشات عرض في أماكن عامة.

زمن الصداقة

أحسب أن للصداقة شرطها الأول لتتحقق، وفقا للمنطق الأفلاطوني على الأقل. على من يصادق أن يمارس فعل الحب أولا تجاه من صادقه. عليه أن يحب قبل أن يحبه أحدهم. أما المحبوب فيمكنه أن يكون غير مدرك لهذا الحب. يمكنه أن يكون غافلا عن الحب أو ميتا. ويمكن للمحب أن يكمل هذا الحب. هناك أيضا شرط آخر يتحقق لاإراديا: على من يحب أن يبوح بحبه لنفسه على الأقل. مدخل الصداقة دائما من ناحية المحب. للمحبوب أن يعرف أو لا يعرف ولكنه يبقى هدف هذا الفعل وليس فاعله. يصبح على نحو ما إلها ذا سلطان، وتشتد تلك السلطة وتعظم إذا ما كان ميتا.
هذا لأن الصداقة تربو على أمل أن يستمر الحب المكمل إلى ما بعد الموت وإلا فما جدوى أن نحب. الصداقة تعيش في أفق الاحتمال وتذهب إلى ما بعد الأفق أو تأخذه معها إلى أبعد من تلك الحدود. إلى ما بعد الموت وإلى ما قبل الحياة. المعادلة محكمة. من يحب يمكنه أن ينتحر بعد أن يرحل من أحب ولكنه بذلك يوقف الصداقة. أو يمكنه أن يختار البقاء على قيد الحياة حزينا على رحيل صديقه. الحزن هنا بدوره شرط ملازم للصداقة لأنه لا ينفصل عنها منذ أن ابتدائها وحتى ما بعد الموت. على من يحب أن يشعر بالمرارة قبل أن يفقد من يحب. عليه أن يتمرن على الفقد وأن ينتحب في مخيلته.
هذا الحزن يأتي قبل الحداد ويعود بعده. بهذا المعنى هو أثر المرارة الملازمة للصداقة ومحركها. هو العيش مكرهين تفضيلا للحياة على اللحاق بالأموات وتعبيرا عن حبنا لهم. الصداقة بهذا المعنى لها زمنان. زمن الحب وزمن الحزن، زمن الفعل وزمن التذكر. وزمن التذكر مشروط بزمن الحب. التذكر لن يحصل إذا لم يكن هناك حب. زمن الحب هو تخزين الذاكرة لتأتي اللحظة الحالية فيتمدد الحب إلى اللحظة المقبلة. حب ليس بحاجة لسلطان الآلهة كي يستمر.

شاعر لبناني

علي شمس الدين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول طه الجزائري:

    لله درك يا اخي و كانك دخلت قلبي و اخرجت مشاعري الكامنه فيه احيانا لا نجد فرقا بين الحياة و المماة و الصداقة فهذا من ذلك و الله ان الحب و الصداقة لامر عجيب سيدي الكريم ..

إشترك في قائمتنا البريدية