ذكريات مفعمة من عالم المونديال السحري ليست مجرد كأس عالم (3): المكسيك 1986

تغيّرتُ كثيراً، وتغيّرت القرية كذلك، حضرت المكسيك في تصوراتنا قبل كأس العالم بأكثر من عام، حين كان منتخبنا على أهبة التأهل إلى النهائيات، بتوفر مجموعة من اللاعبين الموهوبين، أنشد من أجلهم الشعب السوري: «ع المكسيك يا سورية ع المكسيك»، ولكنهم تعثروا في اللقاء الأخير مع المنتخب العراقي الذي فاز، وخطف الكرسي الآسيوي وصرح المسؤول الأول عن الكرة يومها: «إن لم نتأهل هذه المرة، فإننا سننتظر خمسين عاماً على الأقل» أظن أن الرجل صدق حتى الآن، بعد انقضاء أكثر من نصف المدة.
كنت قد تزوجت وأصبحت أباً لطفلين، شأني شأن كثير من الأصدقاء، الذين أعدت لهم زيجات مستعجلة من بنات عمهم أو خالهم أو جيرانهم، أصبحنا رجالاً مسؤولين فجأة، نلعب الكرة كالأطفال ونتابع المباريات ونعيش في كنف الأسر الكبيرة، متسلّقين وظائف زهيدة الراتب، بعد أن انتظمنا في معاهد ما بعد الثانوية، التي تتعهد لخريجيها وظائف جاهزة، كالتعليم الذي دخلته مع فالكاو صديقي الذي ظلّ يذكرني أننا قضينا معــاً أربع عشرة سنة على مقاعد الدراسة.
وفي الوقت ذاته امتلأت القرية بالعربات ذات العجلات الثلاث، التي تملأ الشوارع الترابية بصراخها منذ الساعات الأولى للفجر، وكما تسابق أهل القرية لشراء أجهزة التلفزيون المحلية الرخيصة، فقد تسابقوا إلى شراء العربات العجيبة، وزراعة نوع فريد من القثّاء يسمونه «رمي الهوا» يستهلكه سوق المدينة القريب. التسابق الذي قاد إلى نجاحات مطّردة، تزامنت مع تشجيع الحكومة على الزراعة بعد الحصار الاقتصادي على البلد.
ومع ازدحام العربات الجديدة «الطريزيلات» في شوارع قريتنا الترابية، رحلت العربات القديمة والأحصنة والعربات ذات العجلات المسننة «الجراجر»، وذهبت أيام درس العدس وذروه، الذي كان يستغرق شهراً كاملاً، فقد صار ينجز في ساعتين، بمجيء حصادات آلية من نوع خاص، تلتهم بيادرنا الكبيرة، في وقفة محدودة الوقت، يلقمها الشباب أكداس القش ويملؤون المحصول بأكياس من القنّب، ثم يدفعون الأكياس إلى الأسفل ، عبر مزلقة من حديد.
ولأن أيام الحصاد مرتبطة بحزيران، فقد جاءت مع كأس العالم الجديد. صاحب الحصادة الكردي القادم من عامودا، حيث يشتهر أهل هذه القرية الكبيرة بكثرة الحصادات، حضر معنا بعض المباريات في الأماسي، كان يفاصل أصحاب البيادر، ويترك العامل يشغّل الحصادة أمام البيدر، ويسهر معنا على التلفزيون… ويومها كان مارادونا قد نضج كثيراً بعد خيبة 1982، وساعد فريقه على الفوز في مباريات كثيرة، لعلّ أشهرها مباراة الأرجنتين مع إنكلترا التي سجّل فيها مارادونا هدفاً بيده وذلك في غفلة عن عين الحكم، لكن هدف مارادونا الأشهر ذاك الذي سجله في مرمى الإنكليز بمهارة غير مسبوقة فقد ساق اللاعب القصير الكرة من منتصف الملعب، وحاور نصف الفريق الإنكليزي قبل أن يودعها المرمى، الهدف الذي جعل مارادونا حديث الناس في اليوم التالي، ومنهم صاحب الحصادة الذي سمّاه «بندورة» بنون ثقيلة ودال منقلبة إلى طاء ، تخرج من فمه الأدرد إلا من سنّين عنيدتين.
فازت الأرجنتين، وانتصرت رياضياً وكأنها استعادت جزر الفوكلاند، وخسر الألمان معها في النهائي، وعدنا إلى حياتنا وحقولنا.
خسر منتخبنا فرصة التأهل، وتراجع أداء الشباب اليافعين في الدراسة، و ذهب حارس مرمى فريقنا ضحية العربات ثلاثية العجلات إثر حادث مؤسف، فيما غرق لاعب آخر وهو يسبح، و لم يحصل جونيور على الدرجات الكافية للذهاب إلى الجامعة وكان متفوقاً، وعندما سئل الشباب عن الجامعات التي تقبل بهم، تندّر أحد الكبار: «ع المكسيك يا سورية ع المكسيك».

عيسى الشيخ حسن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية