تحية سلام إلى أرض فلسطين ولوحات راقصة تدافع عن قضايا الشعوب

حجم الخط
0

تونس – «القدس العربي»: احتضن المسرح الأثري في قرطاج ليلة 5 آب/اغسطس العرض المسرحي « إلى حد ماء» والذي أهدت من خلاله نوال اسكندراني تحية حب وسلام إلى أرض فلسطين معلنة تضامنها الروحي مع القضايا العادلة في العالم.. وحضر الحفل طاقم سفارة فلسطين في تونس يتقدمهم السفير سلمان الهرفي.
ونجحت الفنانة التونسية في جمع راقصين من دول شتى من تونس وفلسطين وفرنسا والبرازيل ومصر، تجمعوا على خشبة قرطاج الأثري في لوحة موسيقية نادرة، اتحدت قلوبهم وحركات أجسادهم في سبيل هدف أسمى مشترك هو الدفاع عن الحق في الحياة و في الوجود.
خلال الندوة الصحافية التي انعقدت قبيل الحفل أوضحت نوال اسكندراني أن فكرة العمل الذي سبق تقديمه سنة 2013 جاءت أثناء زيارتها لرام الله حينما كانت شاهدة على قطع الماء على الفلسطينيين من قبل قوات الإحتلال الاسرائيلي، من هنا فكرت في تقديم عمل إبداعي يتحدث عن إشكالية الماء في العالم وخاصة في تونس وفلسطين.
بدأ الحفل بالوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء غزة وتونس الذين سقطوا في سبيل التحرر من كل أشكال الاستبداد والسطوة والاستعمار ..وعلى وقع طبول الحرب التي كان يقرعها الجيش القرطاجي قبل آلاف السنين زمن الحروب، حين كان الجنرال هنيبعل وأمثاله يجوبون الأرض غزاة في سبيل رفعة موطنهم القرطاجي ما جعلهم يمسكون بمفاتيح الحوض المتوسطي ..انطلق العرض المسرحي «إلى حد ماء»… باستعراض مشاهد الجفاف على شاشة عملاقة.
«من قال أن الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة، للماء لون ينبع من عتمة العطش وللماء طعم ما … ورائحة… هي رائحة الهوى». بتلك الكلمات يستعرض الراقصون على مدى ساعتين اشكالية ندرة المياه .. ينشدون بأجسادهم أناشيد الروح، يناجون الحياة والماء لتنفجر الطاقة، عبر رقصات معاصره تصاحبها موسيقى خاصة مقبلة من العصور القديمة..
تأخذنا نوال اسكندراني للحظات إلى البرازيل حيث يقدم فنانون من بلد السامبا لوحات راقصة تقليدية تحاكي مناجاة السكان الأصليين للخالق لكي يهطل المطر ..يصبح للماء مع نوال ألف حكاية وحكاية إنه القصة التي تجمع كل ما على الأرض من أنوار وشموس وفجأة تعلو ابتهالات تنادي «يا لطيف .. يا عظيم» من أقداس الشرق إلى أعماق الأمازون. مناجاة واحدة لرب الكون، خالق كل شيء حي، لأن الكوارث التي تواجه العالم واحدة والمعجزات واحدة والخطايا واحدة وتحدي البقاء يمر عبر الحفاظ على الماء هذه الهدية الربانية. ثم تتفجر صرخة قدسية تنشد «يا حي يا قيوم» لتلقي السكينة في قلوب الحاضرين وتضيف المزيد من الرهبانية والخشوع على هذا الصرح الأثري التاريخي العملاق.
ينقل العمل الإبداعي مشكلة تلوث المياه والجفاف في عديد الدول، ويهدف إلى التحسيس بأهمية الحفاظ على الماء. يقول العلامة إبن خلدون، الذي ولد غير بعيد عن المسرح الأثري في قرطاج، في قلب مدينة تونس القديمة، «الحضارة رهينة التحكم في الماء».. إنطلاقا من تلك المقولة يصبح الحديث عن المياه جزءا من الحديث عن تاريخ الحضارات الماضية إذ ليس من الصدفة أن تقوم أهم الحضارات الإنسانية في العالم القديم حول منابع المياه ففي هذه الأرض، وقبل آلاف السنين كان أهل البلاد ينقلون المياه، من منابعها في جهة زغوان، حيث أقيم لها معبد، إلى قرطاج عبر قنوات مرتفعة شامخة ترفعها أعمدة سميت حنايا تمتد لمئات الكيلومترات ومازالت آثارها شاهدة على عراقة هذه الأرض.
يستعرض الراقصون شعار آلهة الخصب والخير لدى القرطاجيين القدماء «تانيت» أو «تأنيث» ( والتسمية جذورها فينيقية، باعتبار أصول القرطاجيين التي تعود إلى سواحل بلد الأرز) ليحولونها إلى استعراضات راقصة تجمع بين الخيال والفلسفة». ليستذكروا الأناشيد التي كان يرددها الأطفال زمن الجفاف ليهطل المطر، فكانوا يصنعون هيكلا آدميا لتانيت، التي تحولت مع الزمن وبعد مرور آلاف السنين إلى «أمك طنبو» ويطوفون به على البيوت مرددين باللهجة التونسية:

«أمك طنبو يا نساء صبوا عليها سْطل ماء»
«أمك طنبو شهلولة (خفيفة الظل) إن شا الله تروّح مبلولة (مبللة)»
«أمك طنبو يا لولاد إن شا الله تروّح بالواد (تعود ومعها الوادي)»
«أمك طنبو يا صبايا بالبازين والقـــــــلايــــــــــــــا» (البازين والقلايا أكلات تونسية دليل على الخير والبركة).

ثم تأتي إبنة القدس هبة لتخترق المشهد مطلقة صرختها عاليا «بلادي يا بلادي» هنا يصبح للمياه معنى آخر فهي الحياة التي اغتصبت عنوة أمام أنظار العالم. تتحدث الفنانة الفلسطينية عن المحتل الذي اغتصب ألوان الفرح وبسمة الأرض وتستعرض الفترات التاريخية التي مرت بها فلسطين منذ ما قبل الميلاد وزمن الامبراطورية الرومانية وحتى الحكم البيزنطي والفتح الإسلامي وسقوط القدس بيد الصليبين والحكم العثماني وصولا لزمن الانتداب البريطاني ووعد بلفور. تتهادى الأهازيج المنبعثة من أجواء العرس الفلسطيني التقليدي ليعلو تصفيق الحاضرين ثم يخيم السكون قبل أن تنقلنا الراقصة إلى زمن النكبة من هنا بدأ كل الدمار إنه الشتات مرسوما في نظرات الأطفال والأجيال التي تولد من رحم النكبة والألم.
لا هوية لا وطن لا أرض ولا ماء طبريا المسيح، القدس قبة الصخرة، الثلج يغطي القدس، انعكاسٌ، لمعانٌ، شمسٌ كبيرة ويذوب الثلج ليأتي زمن القمح والزيتون وينثر الفرح في حقول الليمون.
مع الدبكة الفلسطينية يتوحد الراقصون ثم تعرض الشاشة العملاقة أهم اللحظات في تاريخ فلسطين، من أنا ؟ هو سؤال الهوية في زمن الجفاف الروحي والاستعمار.
في آخر الرحلة يجسد الراقصون قصة الصراع على المياه عنوان الحرب العالمية المقبلة مطلقين صرخة مدوية تحذر من خطر الجفاف الذي يمكن أن يطال كل شيء، إنه الدمار الذي يمكن أن يحول المعمورة الى رماد وموت في زمن الحروب والحقد.
لقد كانت سهرة رائعة وفية لتقاليد مهرجان قرطاج الدولي، هذا الصرح العالمي الذي كان منذ نشأته عنوانا للفن الراقي ووفيا للموروث الثقافي الغني لهذه الأرض التونسية المعطاء. لقد اندمجت قرطاج في محيطها المغاربي لكن حنينها إلى جذورها المشرقية بقي صامدا على مر السنين وتجسد في هذه الليلة حبا ووفاء لفلسطين ولخيراتها ومياهها التي تنهب من قبل احتلال بربري غاشم لاهم له إلا إخماد صوت الحياة.

روعة قاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية