النّهضة العربية ورفاعة الطهطاوي… مراجعة الدور والتوصيف

حجم الخط
0

تشيد كتب التاريخ والمقررات المدرسية بالنهضة العربية لكونها أفضت إلى خروج العرب من حالة اللاكينونة إلى الكينونة، ولكن هذا لم يتحقق إلا جزئياً، فالنهضة العربية أفرزت كينونات ثقافية ضيقة، مما حال دون تحقق نموذج الدولة القوية، من منطلق أن النهضة أولى مراحل الارتقاء الحضاري، في حين أن واقعنا (المعاصر) لا يعكس ذلك.
كل ما سبق، يعني أن هناك خللاً في النهضة العربية، وأن جزءا منه يتصل بإشكالية النموذج والمنهج الفكري لدى رواد النهضة العربية، الذين نظر لهم بوصفهم مثقفين، وتحديداً من حيث الأدوار المنوطة بهم للنهوض بأمة، أو قوميات لم تتبلور بعد معرفياً، هذه الإشكالية نشأت مع النهضة العربية التي قامت بجهود بعض المثقفين العرب، ولكنهم حقيقة كانوا أقرب إلى نموذج المتعلم، فضلاً عن أن تكوين معظم هؤلاء المتعلمين جاء في معظم الأحيان مرتبطاً بالحواضن والمرجعيات (السياسة والدينية والطائفية، والقبيلة …)، مما حال دون بروز معنى الحقيقة، وتقدم العقل على سائر المهيمنات الأخرى.
وإذا ما تتبعنا أدوار المثقفين العرب، فإننا سنقع على إشكالية تتحدد بعدم قدرة معظمهم على اجتراح تصورات، أو حلول ناجعة للأزمتين الفكرية، والحضارية، أو حتى في تشكيل الهوية، وهكذا بدا المثقف العربي عاجزاً، وعقيماً تجاه مواجهة التّحديات، التي حالت دون ظهور قيم العدالة والحق والحرية، التي من أجلها يجب أن يحارب المثقف، كما أشار إدوارد سعيد في سياق مناقشته لمفهوم المثقف، ودوره.
ولعل أزمة الإنسان العربي عامة، ورواد عصر النهضة خاصة، تكمن في الحيرة بين العقلاني، وما خارج العقل، أو بين المعقول والمؤسطر، كما يقول إبراهيم العريس في دراسة تتناول أعلام النهضة العربية. إن السعي للنهضة يجب أن يقود إلى التنوير، وهذا شيء، تشترك فيه الشعوب والأمم كافة، ولكن ما يجعل من التنوير أمراً واقعاً، قدرة المثقف على أن يكون فاعلاً في إنتاج قيم حقيقية، تؤدي في ما بعد إلى نموذج الدولة الناشئة على قيم عليا، بيد أن المثقف العربي غالباً ما كان يقف على مفترق طرق، وبعبارة أخرى، بين موقفه مما هو ناجز وقائم، وبين قدرته على تقويض منظومات التّردي الحضاري المسؤولة عن خلق واقع مشوه أو ملفق.
تذهب معظم الدراسات إلى أن النهضة (معرفياً) تتحدد بمدى قدرتها على اكتشاف، وترميم شخصية أمة ما، وهو شرط من شروطها، غير أن هذا لن يتحقق ما لم يكن هنالك دور تنويري للمثقفين، خاصة في فعل التشكيل لمعنى الهوية بوجه خاص، علاوة على صوغ خطابات منوطة بها، هذا ما نعاينه بجلاء في الغرب، إذ استطاع مثقفوه من بناء هوية (غربية) تستند إلى العقل، فالمثقف يجب ألا يقتصر دوره على إعلان موقفه من حالة، أو قضية معينة، بالإشارة إلى أن هذا أقل قدر من الممارسة كما حصل في قضية دريفوس في فرنسا. المثقف معنيٌّ بتشكيل المنظومة، أو النموذج في سبيل تشكيل الوعي الحضاري، ولكن هذا لن يتحقق ما دام المثقف رهين مدارات، ومرجعيات ما، كأن يكون مرتهناً لسلطة الدولة، أو إلى نسق من الفكر الطائفي الضيق، أو رهين فكر مؤدلج، أو أن يكون ساعياً إلى تحقيق ذاته عبر إيجاد موقع في السلطة، ناهيك عن إشكالية وجود علاقة غير مستقرة مع السلطة، حيث يُصار إلى تهميش المثقف وإقصائه، بل وتصفيته، وهذا يمكن أن نطلق عليه الارتهان الداخلي، في حين أن الخارجي يتمثل بالدعوة أو تبني نموذج حضاري، كما فعل دعاة التغريب، وهذا يجعل من المثقف بوقاً لمقولات تنويرية ذات شبهات كولونيالية، وهنالك نسق ثالث يمكن أن نطلق عليه المستوى البيني، وفيه يخضع المثقف لعلاقة تجاذب وتنافر مع السلطة، وبهذا يبقى المثقف مشغولاً في البحث عن تصوّرات لطبيعة شكل العلاقة، هذا النمط من المثقف بلا نوايا حقيقية، كونه يبحث عن إيجاد مساحة مشتركة، أو مسافة معقولة تكفل البقاء في سياقات معينة، أو آمنة، وهذا يؤدي في معظم الأحيان إلى تجاهل الصالح العام.
يذكر هشام شرابي، أن معظم مثقفي عصر النهضة حوربوا وأقصوا، أو أنهم اتخذوا قراراً بالابتعاد عن موقع الحدث، كما حصل في الهلال الخصيب إبان فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وخلال فترة الاستعمار البريطاني لمصر، حيث ارتحل عدد كبير من المثقفين إلى أوروبا، في حين أن المثقفين السوريين ارتحلوا إلى مصر، وفي كلا الحالتين، فإن الانعزال، أو العزل يتجلى بوصفه نمطاً، أو مسلكاً تمثل باضطرار بعض المثقفين إلى استراتيجيات معينة للتعامل مع هذه المتغيرات، غير أن الخطر الحقيقي يطرأ من تشتت كل من الهدف والممارسة والمنظور، نظراً لخضوع المثقف لهيمنة المؤسسة، سواء كانت سلطة سياسية، أو طائفية، أو أكاديمية، علاوة على ارتهانه لعدد من القيود، كالتخصص أو الاحترافية، التي بدورها تكفل مردوداً مادياً يضمن وضعاً آمنا ومستقراً، وهكذا نخلص إلى شيوع مسالك من الحيرة في الأيديولوجيا، والولاء والمنهج والوظيفة.
ما من شك، في أن واقع المثقفين العرب تمثل بنزوح بعضهم لحل أزمة الثقافة العربية عبر التّماهي في الآخر، وانطلاقاً منه، أو السعي نحو الانغلاق، والارتداد للنموذج الموروث، النمط الأول يعني عدم امتلاك رؤية تتجاوز مرجعيات النموذج الأقوى، فهنالك غير مثقف سعى نحو اجترار مقولات وأفكار الآخر، وهكذا تحققت التّبعية، ولكن في سياق البنية المتعالية، أي الأوروبية في سبيل إيجاد نموذج للخروج من الأزمة، غير أن عوامل الهوية غير المكتملة والدين والموروث، شكلت مجتمعة عوامل حالت دون التبني الكامل للنموذج الغربي، فجاءت معظم المشاريع مشوهة، كونها حملت أمشاج أفكار، ونماذج مختلطة. ولعل كتاب رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تاريخ باريز» يمثل نموذجاً على هذه النزعة التوفيقية، ومحاولة استنساخ تجربة الآخر، بالتوازي مع الانغلاق على الذات، ولكن هذا التوصيف لفكر الطهطاوي، لا يعني بالضرورة امتلاك مشروع نهضوي، يبتغي المسلك العقلاني الذي يجب أن ينهض على تحرير العقل، بل كان أقرب إلى فكر انتقادي وإصلاحي، يهدف للإبقاء على المستويات القائمة من السلطة، سواء كانت دينية أو سياسية، فالرجل مع أنه كان خبيراً عالماً، نظراً لما يتمتع به من معرفة، وقدرة على الرّصد، والملاحظة، غير أنه لم يكن مفكراً على مستوى البنى العميقة، إنما كان أقرب إلى موظف متنور يعمل لدى السلطات التي أوفدته إلى باريس بوصفه إماماً، وبذلك فهو لا يفارق أن يكون أسير النزعة التي تتوخى عدم تقويض ما هو قائم، فجاءت تصوراته أقرب إلى روح التقويم والإصلاح، ونتيجة لهذا تجلت معظم آرائه، ودعواته في النتائج، أو المظاهر التي توصلت لها أوروبا بعد أن خاضت أزمتها الخاصة.
لقد كانت دعوة الطهطاوي للدستورية وتعليم البنات وإصلاح التربية، بالإضافة إلى الانفتاح على العلوم – التي رأى أنه ينبغي أن تتجاوز الدراسات الدينية واللاهوتية- خلاصة مخاض أوروبا في البحث عن ذاتها. ما قام به الطهطاوي ليس إلا نسق من أنساق التّثاقف مع الآخر، أو لنقل التّأثر، أي أنه لم يكن نتيجة حركة دينامية داخلية تكمن في عمق الفكر، إلا أن ذلك لا يمنع من أن كتاب الطهطاوي، أماط اللثام عما هو قبيح في الشّرق، ومع ذلك فإن نزعة النقد لم تكن تهدف إلى اجتثاث عوامل التقهقر الحضاري بمقدار ما كانت نزعة لتجميل ما هو قائم؛ ولهذا فإن دور الطهطاوي نهضوياً- لم يتعد سوى أن يكون صوتاً من أصوات التّحديث والتّطوير، ولكن من دون انزياح عن مرجعيات قائمة كالموروث والسّلطة السّياسية، والدليل على ذلك أن منظوره للآخر لم يبرح إطار النزعة الدينية الموروثة التي تحتكم للتمثيل المسبق، والمنجز للآخر؛ ولهذا كانت قراءته للنموذج الغربي، تنزع إلى خلق تمايزات، وحدود بين الأنا والآخر، وبهذا فلا عجب أن يفتتح كتابه بعبارة يصف فيها باريس بأنها دار كفر وعناد، إذ لا شيء يميزها سوى أنها تعلو بمنطقها وعلومها (ص 13) .
يلاحظ أنه ليس لدى الطهطاوي دعوات راديكالية، تهدف إلى إقصاء سلطة رجال الدين، أو السلطة السياسية والبحث عن نموذج عقلاني بديل، فنشاط الطهطاوي محكوم بمنطق ردة الفعل، فلو لم يذهب الرجل إلى باريس لما أدرك عمق الأزمة، مما يعني أن الدعوة للتّحول لم تكن نتيجة إدراك الذات لأزمتها الداخلية، وهذا يعني أن المثقف فقد أفقاً مهماً، أو وعياً بحقيقة مجرى الأمور، فقيم كالحقيقة والجمال والخير والعدل قائمة بذاتها، والوصول لها ينبغي أن يكون نتيجة حراك جدلي، يقع في أتون الأنا عبر التأمل في الواقع.
وهكذا نتوصل إلى أنه ليس هنالك من توجهات لخلق قطيعة مع منظومة قائمة، كون المثقف ما زال في سياق مؤسسة ذات جذور عميقة، ولكونها تعد جزءاً من المكون الثقافي المؤسس لهؤلاء المثقفين الذين اضطلعوا بأدوار وظيفية (تخصصية) كالطهطاوي الذي شغل أكثر من وظيفة، مترجماً ورئيساً لمدرسة اللغات، ومفتشاً للمدارس، ورئيساً لتحرير جريدة، وغيرها كما جاء في كتاب» الفكر العربي» لألبرت حوراني.
ولعل الترابط العضوي بين المثقف والسلطة غالباً ما جعل مشروع المثقف التنويري رهين تحولات المؤسسة، فعند وفاة محمد علي باشا أرسل الطهطاوي إلى السودان كنموذج النفي، ولكن الطهطاوي ما لبث أن عاد في عهد الخديوي سعيد ليستعيد الحظوة والرضا، وهذا يعني أن المثقف ما زال قائماً في سياق المؤسسة والسلطة، وبذلك فهو لا يمتلك الحرية التي تقود إلى فعل تحول جذري، لكونه رهين تقاليد، ومؤسسات دينية وسلطوية، فسائر طروحاته غالباً ما كانت تنزع نحو الإبقاء على خيوط تتصل بمنظومات مستقرة، ومنها الموروث والسلطة (الحاكم)، فهذان المستويان لم يتعرضا لنقد بنيوي عميق، وهكذا تلونت معظم مشاريع المثقفين بتوجهات إصلاحية لا ثورية، ولتأكيد ذلك علينا أن نتأمل هيمنة المؤسسة، ولا سيما من حيث امتلاكها للمثقف بوصفه موظفاً، فلا عجب أن الطهطاوي مع كل ما شاهده في أوروبا من مظاهر الديمقراطية والحرية، كان يصرّ على وجود دولة يمتلك الحاكم فيها السلطة المطلقة، بالتوازي مع مرجعية مبادئ الشّريعة، وهنا نقرأ تضافر عاملي السياسة والدين، ولكن هنالك عاملاً آخر (الذاتي) فالرجل كان يحمل مشاعر العرفان بالجميل لمحمد علي، أو لنقل للمؤسسة التي أوفدته إلى باريس كما يشير ألبرت حوراني (ص97).
ما من شك بأن هذا النسق من إشكالية النموذج، والولاء تكاد تحضر لدى معظم رواد النهضة العربية، مما يعني المزيد من إعادة القراءة في هذه الأدوار من حيث فاعليتها في إحداث نهضة حقيقية، لا الاقتصار على عملية تحديث من أجل تكريس أنساق قائمة، كما سنناقش في مقالات مقبلة.

كاتب فلسطيني ـ الأردن

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية