العقدتان اللتان حكمتا الاستفتاء الرئاسي في مصر

 

نجاح «المشير» إذا ما تأكدت النتائج رسميا كان متوقعا، ولا يثير شهية الصحافة والإعلام، فمن جانبه كان إصراره واضحا على البقاء وحده بلا منافس، وأغلق الفرص أمام أي منافس محتمل، ووصل حد توجيه إنذار شديد اللهجة لكل من تسول له نفسه ويتجرأ على إعلان نيته في الترشح، وأنه لن يسمح لأحد الاقتراب من كرسي الرئاسة ما بقي حيا.. ودخل في منافسة مع نفسه، وعلينا أن نبحث فيما بعد الإعلان الرسمي للنتيجة؛ بعد أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة، ومن المتوقع أن يكون طعم هذا النجاح أكثر مرارة من الخسارة، بعد إنتهاء أثر الدعاية، التي خرجت على كل مألوف من قِبَل المشرفين عليها والمشاركين فيها.
ولنستكشف ما وراء ذلك المشهد «الانتخابي» العجيب من عقد.. منطلقين من حصيلة جولة شبه ميدانية من داخل مصر على مدى أسابيع؛ بدأت في منتصف شباط/فبراير وانتهت الأربعاء الماضي (آخر أيام الاستفتاء)؛ تأملنا عن قرب مشاهد قد تساعد على تفسير «الضجيج الدعائي»، الذي عم المدن والقرى، وشغل أهل الحضر والريف وسكان العشوائيات، ووصل إلى الأعماق والأطراف؛ في الوادي والدلتا والصحارى، وأحياء الطبقات (الراقية) الجديدة، التي يقطنها جنرالات التطبيع؛ من ضباط القوات المسلحة والشرطة السابقين، وفي معيتهم جنرالات من نوع آخر؛ مدنيين من المحامين العاملين لحساب «المشير» والقضاة ورجال النيابة المتقاعدين، وجنرالات الفن وإعلام المكايدة، وتم ضبط حركة هؤلاء على بوصلة أباطرة السياسة والمال وحيتان الأعمال والمضاربين والسماسرة «وأثرياء النهب».
وحكمت الحملة عقدتان رئيسيتان؛ العقدة الأولى هي عقدة الجماعات المذهبية المسلحة، المُهْدِرين لدماء مخالفيهم من المدنيين والأبرياء، والتعامل معها يقتضي الاهتمام بالعمل السياسي؛ إلا أنه مُجَرّم ومُحَرّم، وتُرك لـ«المشير» فانفرد به، ومد أذرعته إلى الدعاية والإعلام، وأسنده لـ«خبراء استراتيجيين»، ومحللين مُلَقّنين ومُوَجّهين وشتامين، ومن ورائهم خزائن أموال «قارونية» طائلة؛ وفرها أباطرة المال وحيتان الاحتكارات؛ الداخلية والخارجية، وجيش جرار يتكسب من الخدمة في بلاط هذه الطبقات، والإغداق عليه بالأجور العالية والإكراميات الزائدة..
وغير إعلام المكايدة من طبيعة المعركة، فصار أشبه بطواحين الهواء، تسمع فيها جعجعة ولا ترى منها طحنا، ويبدو أن ضجيجها غطى على كامل المشهد، فأصم الأذان وأعشى الأبصار، وأدى إلى تسويق المرشح الأوحد بين قطاعات من الناخبين، وكان ذلك أقصى ما يمكن تحقيقه وانجازه، في حملة مفرغة من أي مضمون، وغاب عنها الرقيب والضمير والقانون. مع علتها الواضحة في العزائم الرخوة والعقول الفارغة والأوزان الخفيفة والخبرات المتواضعة.. وإذا ما أعدنا التذكرة بنهج «المشير» المعتمد في التعامل مع الشعب؛ بـ«التأديب والانتقام والتضييق»، فكان من الطبيعي ابتعاد الحملة عن أي دعوة أو إشارة للتغيير أو التطوير والإصلاح، وكان رجالها مجرد ظواهر صوتية تسير على خطى «المشير» في التخاطب مع شباب «البرنامج الرئاسي» بظهورهم وخلفيتهم، دون التخاطب معهم وجها لوجه.
وصار التحريض والتحقير هدفا في ذاته يعلو الأهداف الأخرى، واعتمد تطبيق مبدأ «فرق تسد»، ونجح في غياب برنامج سياسي معلن لـ«المشير»، لإدارة فترة رئاسته الأولى، وتعمد ذلك من وجهة نظري، والاحتمال الأرجح هو وجود «برنامج باطني» سيستمر معه في فترة الرئاسة الثانية.. وقد يتصور «المشير» أن عدم الإعلان يعفيه من المسؤولية عن انتشار خطاب الفتنة وإعلاء منطق الفُرقة في عصره، وعلينا التدقيق في بدعة «مجلس القبائل العربية»، وفيها تزكية للاتجاهات الانفصالية والعنصرية في أول بلد عرف التوحيد الجغرافي والسياسي في التاريخ؛ منذ عهد الملك مينا، وأول شعب توصل للتوحيد الديني فب عصر إخناتون.. وهؤلاء يتعيشون على شيطنة أي جهد لرأب الصدع ويعيد التماسك الوطني الغائب. والعقدة الثانية هي عقدة الشرعية وكلما تم السعي لحلها تأتي بنتائج كارثية.. فقد تصور «المشير» أن شرعيته تتحقق بالحشد ورفع الصور والغناء والرقص، ولم يجد من ينبه إلى خطورة ذلك على ضرب قاعدة الاختيار الحر في مقتل، ويعني التخلي عن الاقتراع السري، وهو أهم ضامن لسلامة التصويت واستقامته، لكن المشكلة في أن شخصية «المشير» يهمها الدعاية ولا يعنيها التنفيذ، واكتفت بالإعلان عن إصلاح 4 ملايين فدان، ولم تستطع إصلاح أكثر من ربع المساحة الموعودة، وما تم استصلاحه لم يصل لنصف مليون فدان، لم تغط ما ضاع بفعل الاضطرابات التي أعقبت يناير 2011 ويونيو 2013، التي دفعت عشرات الآلاف للبناء على الأرض الزراعية بعيدا عن رقابة الدولة الغائبة. وترتبط الشرعية بأسس بناء الدولة الوطنية الحديثة، وهي القانون والمواطنة والحكم الرشيد والمثل العليا، وضرب «المشير» بكل هذا ضرب عرض الحائط، ولا أمل في تداركه في الفترة الرئاسية الثانية..
ومن الضروري – في مرحلة ما قبل الإعلان الرسمي لنتائج الاستفتاء – التدقيق في حجم الأموال التي تكلفتها الحملة الرئاسية، ومن مولها بعد تسليم مفاتيح خزائن مصر إلى صندوق النقد الدولي، الضامن لاستمرار الثروة العالمية تحت الهيمنة الصهيو غربية، وهو أهم مؤسسات الإفقار وإشعال الحروب والصراعات خارج نطاق الدول الغربية. وهل كان من الضروري كل ذلك التبذير والسفه وما الجدوى منه؟، والمطلوب أن يقدم «المشير» كشف حساب بالأموال التي تدفقت على حملته؛ من أين جاءت وفيما صُرفت؟. ولم يكتف «المشير» بالتبذير، وانطلق في تشويه كل موقف، وشيطنة أي رأي لا يروقه، وسمح بمساحة حركة لا تتسع إلا له.. وألزم نفسه بقَسَم يمنع سواه من الاقتراب من كرسي الرئاسة ما بقي حيا؛ بانفعال وحدة وغضب، وإصرار غريب وتهديد مباشر؛ تجاوز كل الحدود، وجاء ذلك كاشفا إلى أن سيناريو البقاء أعد مسبقا بالطريقة الباطنية؛ المفضلة لدى «المشير»، ويبدو أنه أحاط نفسه بعناصر وقوى تعتمد على الغموض والباطنية في البقاء والاستمرار.. وهذا ما مكنه من التصرف بعيدا عن رقابة الجهات المسؤولة، والقضاء على استقلال الهيئات والمؤسسات القضائية والرقابية، في مخالفة دستورية سافرة، وفرض مبدأ «حتدفعوا يعني حتدفعوا» أي الدفع بالعافية وخارج القانون وبعيدا عن الرقابة!!
والمشير لا يقيم وزنا لأي ضوابط دستورية وقانونية تلزمه بإعلان ذمته المالية، ومن المتوقع أن يطَالَب بالكشف عن أوجه البذخ الذي طَبَع حملة الاستفتاء وغيرها في مجالات أخرى، وهو الذي اعتاد اتهام خصومه ومخالفيه؛ من أصحاب الرأي والناشطين بالحصول أموال خارجية، وذلك مدان، والواجب أن يعامل بالمثل ويُسأل هو ومن معه عن تمويل الحملة، وأوجه الصرف، ولا تنفع هنا حجة أنه لم يدفع شيئا من ميزانية الدولة، فإذا رجال الأعمال والمحليات هم من مولوا فهم ينتظرون المقابل، ويبدو أن المقابل هو موجة الغلاء ورفع ما تبقى من دعم في تموز/يوليو القادم، أم أن هناك التزاما بالسداد، بالأسلوب الذي اعتاد عليه «المشير» بالتنازلات «وتشليح» الدولة مما تحت يدها من أصول ورهن وبيع المواقع الحيوية والاستراتيجية؟.. أم أن أصحاب «صفقة القرن» المرفوضة مصريا وفلسطينيا هم من ساهموا في التمويل؛ بشكل مباشر أو غير مباشر.. لتمكين «المشير» من إتمام «الصفقة»، وتصفية القضية الفلسطينية، واعتماد الحل الصهيوني لها، واقتطاع مئات الكيلومترات المربعة من سيناء لتنفيذ مشروع غزة الكبرى؛ بالتخلي عن خيار الدولتين، في فترة الرئاسة الثانية.

كاتب من مصر

العقدتان اللتان حكمتا الاستفتاء الرئاسي في مصر
محمد عبد الحكم دياب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية