الحريات في تركيا: جدلية «أردوغان والإعلام» تتفاقم داخلياً وتصل إلى قلب أوروبا

حجم الخط
1

إسطنبول ـ «القدس العربي»: يمكن لمن يجيد اللغة التركية أن يقرأ ويستمع يومياً إلى عشرات الصحف والفضائيات الكبيرة وهي تهاجم الحزب الحاكم والحكومة والرئيس رجب طيب أردوغان بلغة حادة لا تجدها في كثير من دول العالم، وعلى الرغم من ذلك ما زالت تركيا تقبع في ذيل قوائم الدول التي تحترم حرية الصحافة، حيث يوجد في سجونها عشرات الصحافيين، بينما يتعرض آخرون لمحاكمات ومضايقات مستمرة.
هذه الجدلية المتواصلة بين «تركيا والحريات» أو كما يسميها آخرون جدلية «أردوغان والإعلام» تبدو صعبة الفهم على المتابع في ظل احتوائها على تناقضات كبيرة في مفاهيم حرية الرأي والتعبير والخصوصية والأمن القومي، وغيرها من الجوانب الجدلية في الإعلام.
فالعديد من الإجراءات والمحاكمات التي اتخذتها الحكومة ضد الصحافيين ووسائل الإعلام في الآونة الأخيرة اعتبرتها المعارضة ومنظمات دولية قمعاً وحرباً ضد حرية الإعلام، ورأت فيها الحكومة إجراءات قانونية وأخرى متعلقة بالأمن القومي للبلاد والحرب على «الإرهاب».
ومؤخراً امتد هذا الجدل ليصل إلى قلب أوروبا، بعد أن اتخذ أردوغان إجراءات سياسية وقضائية ضد صحافيين ألمانا وجهوا انتقادات للرئيس التركي، الأمر الذي أشعل جدلاً واسعاً داخل أوروبا حول مستوى الحريات والحصانة التي توفرها دول الاتحاد لصحافييها من المحاكمة على خلفية العمل الصحافي.

خريطة الإعلام التركي

يُقدر خبراء أتراك لـ«القدس العربي» أن وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة والتي تديرها شخصيات من حزب العدالة والتنمية الحاكم وموالون آخرون للرئيس أردوغان تشكل ما نسبته 30 إلى 40 في المئة على أبعد تقدير من إجمالي وسائل الإعلام في البلاد، في حين ما زالت المعارضة وخاصة «العلمانية» منها تسيطر بقوة على أكثر من 55 في المئة من وسائل الإعلام، والنسبة القليلة المتبقية من هذه الوسائل يصعب تصنيفها كمؤيدة أو معارضة للحكومة.
وتدافع الحكومة بشكل مستمر عن الاتهامات الموجهة لها بقمع وسائل الإعلام وتقييد الحريات الصحافية، بالتأكيد على أن المعارضة تمتلك منظومات إعلامية ضخمة تزيد عن المملوكة للموالاة وأنها تعمل بهامش كبير من الحرية غير موجود في معظم دول العالم، على حد تعبيرها.
وتعتبر مجموعة «دوغان ميديا» أكبر مجموعة إعلامية في البلاد، وهي تعارض بشدة سياسات الحزب الحاكم والرئيس أردوغان، ويتفرع منها «وكالة أنباء دوغان» الأقوى في البلاد بجانب وكالة «الأناضول» الرسمية، وتصدر أيضاً صحيفة «حرييت» اليومية، و«CNN Türk « والقناة السابقة «Kanal D» التي تبث برنامج «بياز ش و« الذي يحصل على أعلى نسبة مشاهدة من بين البرامج التلــفـزيونية في البلاد. كما تمتلك المعارضة عددا كبيرا من الفضائيات والصحف اليومية والمجلات الساخرة والإذاعات.
في المقابل، تعتبر مجموعة «تركواز ميديا» من أكبر المجموعة الإعلامية الموالية للحكومة ويديرها بيرات البيرق وزير الطاقة الحالي وصهر أردوغان، ويصدر عنها صحف «صباح» اليومية و«أكشام» و«ديلي صباح» بالإضافة إلى فضائية «ATV» و«A.HABER» ومجلات وعدد من الإذاعات، كما تعتبر صحف «يني شفق» و«يني عقد» موالية للحكومة بجانب وسائل إعلام أخرى مهمة في البلاد.
وفي الوقت الذي تتهم الحكومة وسائل إعلام معارضة بالحصول على تمويل غير شرعي من جماعة «فتح الله غولن» الذي يدير جماعة «خدمة» المصنفة حالياً على أنها «منظمة إرهابية» تتهم المعارضة الحكومة وأردوغان بتمويل مجموعة كبيرة من الفضائيات من خلال رجال أعمال مقربين للدفاع عن الحكومة والرئاسة و«تضليل الرأي العام والدفـاع ومهاجمة خصومهم السياسيين».
وتتهم الحكومة التركية «الكيان الموازي» بالوقوف وراء حملة الاعتقالات التي شهدتها تركيا أواخر عام 2013 بذريعة مكافحة الفساد، التي طالت أبناء وزراء ورجال أعمال ومسؤولين أتراك أخلي سبيلهم لاحقاً بعد إصدار المحكمة المعنية قراراً بإسقاط تهم الفساد عنهم.

الحرب على إعلام «غولن»

شهدت الأشهر الأخيرة تصاعدا غير مسبوق في الإجراءات التي قامت بها الحكومة التركية ضد وسائل إعلام متهمة بالحصول على تمويل من «غولن»، وساعد في ذلك القرار القضائي الذي استصدرته الحكومة التركية والتي اعتبرت بموجبه جماعة غولن «منظمة إرهابية».
وفي بداية شهر اذار/مارس الماضي، صدر قرار قضائي بفرض الوصاية القانونية على صحيفة «زمان» أكبر صحف المعارضة التركية توزيعاً، وظهر أردوغان في اليوم التالي للقرار مبتسماً على صدر الصفحة الأولى للصحيفة التي كانت تعتبر الأشد معارضة للرئيس، وتعاني الصحيفة الآن من أزمات مالية متلاحقة وسط توقعات بانهيارها وإغلاقها خلال الفترة القريبة المقبلة.
إخماد الصحيفة جاء بعد فترة وجيزة من تمكن الحكومة من إسكات صوت وصورة اثنتين من أكبر فضائيات المعارضة التهمة نفسها وهي ملكيتها للداعية فتح الله غولن المتهم بتشكيل «كيان موازي» داخل الدولة والعمل على إسقاط الحكومة والرئيس.
حيث سيطرت الشرطة التركية على إدارة بث محطتي تلفزيون «بوغون» و«كانال تورك» اللتين تنتميان إلى مجموعة مقربة من «غولن»، واضطرتا للإغلاق بسبب الضائقة المالية والتشويش على البث والتدخل في السياسة التحريرية المتبعة، وذلك قبل أربعة أيام من الانتخابات التي جرت في الأول من كانون ثاني/يناير الماضي، والتي استعاد من خلالها حزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد منذ 13 عاماً الأغلبية البرلمانية التي خسرها في انتخابات حزيران/يونيو الماضي.

3 محاكمات بارزة خلال شهر

عاقبت محكمة تركية، صحافية بالسجن 20 شهرا والتجريد من الولاية القانونية على طفليها بعد إدانتها بانتهاك سرية قضية خلال نظرها في محكمة.
وكانت الدولة قد أقامت دعوى قضائية ضد الصحافية أرزو يلدز بعد أن نشرت في مايو/أيار 2015 جانبا من جلسة كان يحاكم فيها أربعة من ممثلي الادعاء أمروا بتفتيش شاحنات تابعة لجهاز المخابرات التركي بينما كانت في طريقها إلى سوريا في 2014.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن تفتيش الشاحنات وجانبا من تغطية وسائل الإعلام لما حدث جزء من مؤامرة من خصومه السياسيين لإحراج تركيا وتقويض أمنها القومي.
وفي وقت سابق من الشهر الجاري، حكم على صحافيين بارزين بالسجن خمس سنوات على الأقل لكل منهما بعد أن أدينا بإفشاء أسرار الدولة بنشر مقاطع فيديو لشاحنات تنقل أسلحة إلى سوريا. وأدانت منظمات حقوقية دولية الحكم الذي صدر في قضية الشاحنات هذا الشهر على جان دوندار رئيس تحرير صحيفة «جمهوريت» وإرديم غل رئيس مكتب الصحيفة في أنقرة.
ونهاية الشهر الماضي، حُكم على صحافيين تركيين عملا في صحيفة «جمهورييت» بالسجن لمدة عامين، لنشرهما رسما كاريكاتوريا نقلا عن مجلة «شارلي إيبد و« للنبي محمد اعتُبر على نطاق واسع أنه «مسيء» في مقالهما في الصحيفة المعارضة بعد هجمات «شارلي إيبد و«.
وأدين الصحافيان بتهمة «التحريض علنا على الكراهية والعداء عبر الصحافة» ولكن وجدت المحكمة أنهما بريئان من تهمة «إهانة المعتقدات الدينية» وذلك بعد أن رفعت القضية من قبل 1280 من المدعين، أغضبهم نشرهما الرسوم، بمن في ذلك أبناء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وكذلك وزير الطاقة التركي، بيرات البيرق، وزوجته.

2000 قضية بتهمة «إهانة الرئيس»

وزير العدل التركي بكير بوزداج كشف عن أن الإدعاء قرر فتح التحقيق في قرابة 2000 قضية ضد أشخاص متهمين بإهانة الرئيس رجب طيب إردوغان منذ أن أصبح رئيسا لتركيا قبل أقل من عامين، حيث تعتبر إهانة الرئيس جريمة في تركيا يعاقب عليها بالسجن لما يصل إلى أربعة أعوام ولكن القانون لم يطبق إلا نادرا فيما سبق.
ومن بين من يواجهون المحاكمة بتهمة إهانة إردوغان صحافيون ورسامو كاريكاتير وأكاديميون وحتى تلاميذ.
وفي تبرير الحكومة للإجراءات التي تصاعدت ضد وسائل الإعلام قال رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو آنذاك: «العملية هي إجراء قانوني تمامًا، ويجب أن لا يكون هناك شكوك حول حرية الصحافة في تركيا، لكن علينا أن نميز بين النشاط الصحافي، والأنشطة الأخرى المنفذة تحت غطاء صحافي».
لكن المعارضة التركية تقول إن الحقوق والحريات الصحافية في البلاد شهدت تراجعاً كبيراً في عهد حزب العدالة والتنمية، وتتهم السلطات باعتقال العشرات من الصحافيين وإغلاق مؤسسات إعلامية وصحفا ومجلات، بالإضافة إلى تهديد الصحافيين المعارضين.

أردوغان والإعلام الألماني

لم تقتصر خلافات أردوغان مع وسائل الإعلام على الداخل التركي، وامتدت لتصل إلى قلب أوروبا، حيث أصدرت محكمة في هامبورغ حكما أوليا بحظر إعادة نشر مقاطع من قصيدة ساخرة لفنان كوميدي ألماني يسخر فيها من أردوغان قائلة إنها ترقى إلى مستوى الإساءة والتشهير.
وفي حكمها الذي صدر مؤخرا ويسري على كافة أنحاء ألمانيا حددت محكمة هامبورغ 18 من بين 24 بيتا في القصيدة قالت إنها تنطوي على «إساءة وتشهير.» وقالت المحكمة إن قرارها القابل للاستئناف يستند إلى ضرورة تحقيق التوازن بين الحفاظ على الحرية الفنية والحقوق الشخصية لأردوغان. وجاء في قرار الحكم «الإشارة إلى التحيز العنصري والافتراء الديني وأيضا العادات الجنسية تذهب بالأبيات إلى أبعد مما يتوقع من الشاكي (أردوغان) أن يتسامح فيه.»
وكان الفنان الكوميدي الألماني يان بويمرمان قد تلا قصيدة على التلفزيون في آذار/مارس الماضي تضمنت إشارات جنسية ضد أردوغان دفعت الرئيس التركي إلى رفع شكوى تتهم بويمرمان بالسب.
وفي شكوى منفصلة طلب محامون يمثلون أردوغان من محكمة في هامبورغ حظر إعادة نشر القصيدة، كما نقلت وسائل إعلام ألمانية عن رالف هويكر، محامي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قوله إن أردوغان يطلب توجيه إنذار قضائي أولي ضد ماتياس دويفنر الرئيس التنفيذي لدار النشر «أكسيل شبرينغر» التي أنتجت القصيدة.
وعلى هذه الخلفية، استدعت وزارة الخارجية في أنقرة السفير الألماني مارتن إردمان، وطلبت منه تفسيرا لمحتويات القصيدة. وقال دبلوماسي تركي: «طالبنا أن يتم حذف البرنامج.» في حين قال رئيس الاتحاد الألماني للصحافيين (DJV)فرانك أوبيرال «إن الضجة الكبيرة التي أحدثها أردوغان حول المقطع الكوميدي، هو دليل على فقدان الزعيم التركي زمام السيطرة».
وتعرضت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لانتقادات لسماحها لممثلي ادعاء ألمان بمباشرة دعوى قضائية ضد بويمرمان.
وبالإضافة للانتقادات المتكررة التي يوجهها للصحافة المحلية، اعتاد أردوغان على مهاجمة صحف ووسائل إعلام عالمية، لا سيما الأمريكية والأوروبية منها، وفي آخر اتهام له، قال إن وسائل الإعلام العالمية تشن «حربا نفسية» ضد بلاده.

اتهامات دولية وغضب رسمي

تقرير حرية الصحافة العالمي بنسخته الأخيرة لعام 2015 الذي تصدره منظمة «فريدوم هاوس» منذ عام 1980، خفض تصنيف حرية الصحافة في تركيا من «حرة جزئياً» إلى «غير حرة».
ووضع التقرير تركيا ضمن أكثر الدول التي شهدت هبوطاً في مؤشر حرية الصحافة للعام الماضي، بسبب عدة تشريعات أعطت السلطات صلاحيات واسعة في فلترة المحتوى وحجب المواقع الإلكترونية، كذلك إجراء بضعة تعديلات على القانون الرقمي منع الصحافيين من نشر أي معلومات لها علاقة بالأمن القومي، ومنحت الاستخبارات صلاحيات أكبر في الولوج إلى أي نوع من المعلومات.
وسبق أن اعتبر معهد الصحافة الدولية، ومقره فيينا، إن «الديمقراطية في تركيا في خطر» مضيفاً: «الديمقراطية في تركيا اليوم تمر بالكثير من التهديدات الجادة، والإخلال بمبادئها، إذ تشهد العديد من حملات الاعتقال وتوجيه التهم إلى الصحافيين».
منظمة «بيت الصحافة» اعتبرت في تقييمها لحرية الصحافة قبل عامين، أن حرية الصحافة في تركيا شهدت انتكاسة كبيرة، وصنفت المنظمة التي تتخذ من واشنطن مقراً لها تركيا في المرتبة 134 عالمياً كأقل الدول حرية في مجال الصحافة.
ويرفض أردوغان بشكل دائم التقارير الدولية عن تراجع مستوى الحريات في بلاده، وقال في أحد خطاباته: «العديد من الدول الغربية لديها سجلات أسوأ في الحريات الإعلامية. على من يقولون انه لا توجد حرية صحافة في تركيا يجب أن يلقوا نظرة على عناوين الصحف اليومية في تركيا. فعدد كبير منها يوجه الإهانات للحكومة بشكل منهجي».
وقال: «عندما تنتقد هذه العناوين غير الأخلاقية، فإنهم يصفونك بالدكتاتور. ولكن في دول أخرى يسمون ذلك ديمقراطية»، مضيفاً: «دعونا نرى ما يحدث عندما تنشر واحدة من هذه العناوين في الدول التي تعتبر أكثر حرية من تركيا. لا أستطيع أن أتصور ما يمكن أن يحدث للصحافيين وللصحف في تلك الدول».
وشدد أردوغان على موقف الحكومة أن جميع الصحافيين القابعين في السجن، متهمون بارتكاب جرائم مثل الإرهاب والقتل والسرقة، مستبعدا إعادة محاكمتهم، وقال: «تركيا ليست الدولة التي ستنحني أمام شبكات الخيانة المحلية أو عمليات التصورات الخارجية».

الحريات في تركيا: جدلية «أردوغان والإعلام» تتفاقم داخلياً وتصل إلى قلب أوروبا

إسماعيل جمال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد صلاح:

    الإخوة الذين ينظروا الى تركيا كمثال يهتدوا به وينقلوا نموذجها الى عالمنا العربى كمثال الديمقراطية والحريّة ما رأييكم ذاد فضلكم على النموذج التركي تحت حكم اردوغان وهو حلال على تركيا اردوغان حرام على مصر السيسى مع ملاحظة ان وسائل الاعلام المصرية بها حرية اكثر من التركية

إشترك في قائمتنا البريدية